مدلول السياسة الشرعية ( 2 )


بسم الله الرحمن الرحيم 

ثانياً: المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية:

مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد، بل مرّ بمدلولات عدَّةº نتيجة تَطّوٌّر مفهومه عند الفقهاء، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق العملي إلى التنظير العلمي، التي استغرقت زمناً لا بأس به، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن، في القرون الماضية، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهيةº فلفظ \" السياسة \" قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى.

وقد عرّف الفقهاء - المتقدمون والمتأخِّرون - السياسة الشرعية بتعريفات كثيرة منها العام، ومنها الخاص، وأضاف إليها عدد من الباحثين صياغات جديدة حاولوا فيها ضبط المفهوم.

وسأكتفي بإيراد تعريفين منهما:

الأول: تعريف ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها: \" ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشـرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا نزل به وحي \".

وقد عرّف الفقهاء - المتقدمون والمتأخِّرون - السياسة الشرعية بتعريفات كثيرة منها العام، ومنها الخاص، وأضاف إليها عدد من الباحثين صياغات جديدة حاولوا فيها ضبط المفهوم

والثاني: تعريف ابن نجيم الحنفي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها \" فعل شيء من الحاكمº لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي \".

وحتى لا يُستطرد بالدخول في شروح التعريفات وبيان ما لها وما عليهاº فإنه يُكتفى بذكر ما خلصت إليه الدراسة الاستقرائية من تعريف للسياسة الشرعية، وذلك من بالنظر المستفاد من واقعِ التدوين السياسي الذي ألفه حَمَلَة العلوم الشرعية، ومن طبيعةِ المسائل التي أفردها بالتدوين فقهاء الشريعةº إذ يتضح أنَّ ثمَّة منهجين في التدوين السياسي الشرعي:

أحدهما: منهج يغلب عليه الجانب الخُلقي والاجتماعي.

وثانيهما: منهج فقهي شرعيº ينير للحكّام وأولي الأمر، أحكام التدابير، وآلياتها، و ضوابط شرعيتها.

ويمكن الخلوص بمدلول السياسة الشرعية من خلال استقراء مضامين المؤلفات الفقهية في السياسة الشرعية إلى معنيين:

الأول: معنى عام، مرادفـ لـ(الأحكام السلطانية)، التي هي: اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شؤون الدولة الإسلامية، في الداخل والخارج، وفق الشريعة الإسلامية، سواء كان مستند ذلك نصاً خاصاً، أو إجماعاً أو قياساً، أو كان مستنده قاعدة شرعية عامةº وعليه:

فالسياسة الشرعية بالمعنى العام: تشمل الأحكام والتصرفات التي تدبّر بها شؤون الأمة في حكومتها، وتنظيماتها، وقضائها، وسلطتها التنفيذية والإدارية، وعلاقتها بغيرها من الأمم في دار الإسلام وخارجها، سواء كانت هذه الأحكام مما ورد به نص تفصيلي جزئي خاص، أو مما لم يرد به نص تفصيلي جزئي خاص، أو كان من شأنه التبدل والتغير، تبعاً لتغير مناط الحكم في صور مستجدة 1

ومعنى خاص، مندرج في السياسة الشرعية بالمعنى العام (الأحكام السلطانية)º واندراجه فيها، من جهة طبيعة الأحكام، وأصول تشريعها 2º إذ يلمَحُ في إفراد مسائلها، عدمُ ثبات الحكم، تبعا لاختلاف مناطه 3

فالسياسة الشرعية بالمعنى الخاص هي:

(كل ما صدر عن أولي الأمر، من أحكام وإجراءات، منوطة بالمصلحة، فيما لم يرد بشأنه دليل خاصّ، متعيّن، دون مخالفة للشريعة).

وهذا تعريف يحتاج إلى شرح، وبيان لمحترزاته، وذلك على النحو التالي:

- قوله: (ما صدر عن أولي الأمر): تعريف للسياسة الشرعية ببيان جهة الاختصاص بالنظر في مسائلها، والحكم بهاº وهم (أولو الأمر): العلماء والأمراءº قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: \"… والتحقيق أنَّ الأمراء إنَّما يُطاعون إذا أمروا بمقتضى العلمº فطاعتهم تبع لطاعة العلماءº فإنّ الطاعـة إنما تكون في المعـروف وما أوجبه العلمº فكما أنّ طاعة العلمـاء تبع لطاعـة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء \"º فذكرُهم هنا لبيان جانب السلطة في السياسة الشرعية، وعلى فرض بلوغ الأمير درجة الاجتهاد تبقى السياسة في جانب الشورى وما يتفرع عنها من أحكام.

وعليهº فالسياسة الشرعية ليست محصورة فيما يصدر من حاكم، بل تشمل بعض فتاوى المفتين من غير أهل الولاية المنصوبين، فإنها قد تكون من باب السياسة الشرعية، كما أشار إلى ذلك بعض العلماء، ومن ذلك قول عبد الواحد بن الحسين الصيمري - رحمه الله - (ت/386): \" إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ، وهو مما لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، جاز ذلك زجراً له \" (ذكره النووي في مقدمة المجموع)، وهذا من لبّ السياسة بمعناها الخاص كما سيأتي إن شاء الله - تعالى -.

- وقوله: (من أحكام وإجراءات) تعريف للسياسة ببيان شمولها لناحيتين: نظرية، و تطبيقية.

فالأولى: ما يلزم سياسةً من فِعلٍ, أو تَركٍ,، سواء كانت في شكل أنظمة وقوانين، أو فتوى، أو غيرهاº وهي المعبّر عنها بالـ(الأحكام).

والثانية: ما كان محل فعل وتنفيذ، وحركة وتدبيرº وهي المعبّر عنها بـ (الإجراءات) أو الآليات.

- وقوله: (منوطة بالمصلحة)، بيان لارتباط السياسة الشرعية بمراعاة المصلحة، على اختلاف مستنداتها شرعاًº وأنَّ مجالها: الأحكام المُعَلَّلَة، ومن ثمَّ فلا بد أن تصدر عن اجتهاد شرعيº وعليه، فهو قيد يخرج به ما يلي:

1) أحكام العبادات والمُقَدَّرات ومن باب أولى مسائل الاعتقادº فليست مجالاً للسياسة الشرعية، من حيث هي.

2) الأحكام والإجراءات الصادرة عن جهل وهوىº فليست من أحكام السياسة الشرعية، لكنها لو وافقت أحكام السياسة الشرعية، جازت نسبتها إليها، مع إثم مصدرهـاº لتصرفه عن جهـل وهوى. (ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/43 وما بعدها).

- وقوله: (فيما لم يرد بشأنه دليل خاص مُتَعَيِّن)، قيد يُخرج الأحكام التي ورد بشأنها دليل خاص مُتَعَيِّنº فكلمة (دليل) تشمل النص، والإجماع، والقياسº فالدليل هنا يقابل (الاستدلال بطرائق الاستنباط أو ما يعرف بالأدلة المختلف فيها).

وكلمة (خـاص) أي: بحكم المسألة محلَّ النظرº بأن يثبت في حكمها دليل جزئي تفصيليº فما كان شأنه كذلك، فليس من مسائل السياسة الشرعية.

وكلمة (مُتَعَيِّن) تُخرج المسائل الثابتة اللازمة، التي لا تتغير أحكامها بحالº إذ إنَّها مُتَعَيِّنة الحكم، ليس أمام أولي الأمر سوى تنفيذها. كما يدخل بهذه نوعان من المسائل هما:

1) المسائل التي ثبت في حكمها أكثر من وجه، لوجود دليل خاص لكل وجهº بحيث يُخَيَّر أولوا الأمر بينها، تبعاً للأصلحº كالقتل والمنّ والفداء، في مسألة الأسرى.

2) المسائل التي ورد في حكمها دليل خاص، لكنَّ مناط الحكم فيها قد يتغيَّر، ومن ثم تتغيّر الأحكام تبعاً لذلكº كالمسألة التي يجيء حكمها موافقاً لعرف موجود وقت تَنَزّل التَّشريع، أو مرتبطاً بمصلحة مُعَيَّنةº فيتغيّر العرف، أو تنتفي المصلحةº ومن ثم يتغيّر الحكم تبعاً لذلك، لا تغيٌّراً في أصل التشريع.

- وقوله: (دون مخالفة للشريعة) قيد مهم، يُخرج جميع أنواع السياسات المنافية للشريعةº فليست من السياسة الشرعية في شيء.

وعُبِّرَ بنفي المخالفةº لأنَّه المعنى الصحيح لموافقة الشريعةº فإنَّ ما جاءت به الشريعة، وما ثبت عدم مخالفته لها، هو في الحقيقة موافق لها: الأول من جهة النصوص، والثاني من جهة القواعد والأصولº فعدم مناقضة روح التشريع العامَّة والمقاصد الأساسية، والأصول الكليَّة - ولو لم يرد بها نص خاص بعينه - هو ضابط السياسة الشرعية، الذي يميزها عن غيرها من السياسات.

بهذا تمَّ الحديث عن المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية، الذي دعت إلى إيضاحه وبيانه، نظرة الاشتباه تجاهه، حتى لدى بعض من لهم إليه انتماء، فضلاً عن عامَّة طلاب العلم الشرعي، بَله دارسي القوانين الوضعية، ممن قلَّت بضاعتهم في علوم الشريعة الأساسية.

ويليه - إن شاء الله - تعالى - الحديث عن حجية العمل بالسياسة الشرعية.

 

----------------------------------------------------------

1) وهذا المدلول مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الشامل، التي يمكن تقسيمها على النحو التالي:

أ - الأحكام السلطانية الشاملة. (التي تشمل أحكام الإمامة العظمى وما يتفرع عنها من ولايات داخل دولة الإسلام أو خارجها). والسياسة عند مؤلفي هذا الفنّ لها إطلاقات، يمكن حصرها في ثلاثة معان:

الأول: إطلاق السياسة على: ولاية شؤون الرعية، وتدبيرها أمراً ونهياً، سواء صدر ذلك من الإمام، أو ممن دونه من الأمراء والوزراء والقضاة، ونحوهم.

الثاني: إطلاقها على: أحكام الإمامة العظمى أو الخلافةº من حيث أهلية الحاكم، وما يجب عليه، وما يجب على الرعية نحوه، والأحكام التي منحها الشارع الحكيم للوالي ليتمكن من رعاية من تحته.

الثالث: إطلاقها على: التعزيرات الشرعية. فالأحكام السلطانية الشاملة، تعالج السياسة الشرعية بهذا المفهوم الواسع.

ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب: الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن علي بن محمد الماورديº ومثله: الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى الحنبلي.

ب - الأحكام السلطانية التي تحكم السياسة الداخلية. وقد يجيء فيها شيء من أحكام السياسة الخارجية، غير أنَّه يكون مقتضباً. ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لأبي العبَّاس ابن تيمية، وإن كان لا يقتصر على هذا المدلول من جهة المضمون.

ج - الأحكام المتعلقة بطرق القضاء، ووسائل تحقيق العدالة. ويكاد ينصبّ الحديث فيها على الأحكام التي لم يرد بشأنها نصوص خاصّة، غيرَ أن البحث فيها لا ينحصر في ذلك. ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية. ويسمى هذا الكتاب أيضاً: الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية.

2) وهذا مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الخاص، ويمكن التعبير عنه بالأحكام الفقهية للمسائل التي لم يرد بشأنها نص تفصيلي خاص يمكن إدراجها تحته، أو التي من شأنها التَّغّيُر والتبدٌّل في المناط. والأحكام في هذا القسم توجد ضمن الأقسام السابقة، إضافة إلى كتب الفقه العامة لشمول موضوعاتها وتناثر تلك الأحكام بينها، أو حتى الكتب السياسية المتقدمة المعنونة بما لا يوحي بالشمولº فكتاب: (الخراج)، لأبي يوسف مثلا - من الكتب التي لا يجد الباحث عناء في استخراج كثير من هذه الأحكام منها.

ولكن لعل من أشهر موضوعات السياسة الشرعية بهذا المعنى: أحكام التعزير، ومن المؤلفات المفردة فيه: السياسة الشرعية، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بـ\"ددة أفندي\"(ت/973)º وكذلك طرق القضاء، ومن المؤلفات فيها: الطرق الحكمية، لابن قيم الجوزية، المذكور آنفا.

وقد ظهر في العصور المتأخرة الاعتناء بهذا القسم، وظهرت دعوات بإفراد أحكامه، وجمع تطبيقاته من المدونات الفقهية، و ما يُظن وجودها فيه من مصنفات، وصارت السياسة الشرعية في هذا العصر مقرر تخصص في عدد من المدارس العلمية النظامية من كليات ومعاهد، بل خصصت له أقسام علمية في عدد منها تحت مسميات مختلفة.

3) سيأتي بيان ذلك في شرح تعريف السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وفي ذكر الشواهد والأمثلة إن شاء الله - تعالى –.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply