إياكم ومحدثات الأمور


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قال الله - تعالى -: \" وَمَا ءاتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاكُم عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ \" [الحشر: 7]، وقال عزّ شأنه: \" قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ \" [آل عمران: 30].

 

فكلٌّ ما يصدر من المسلم ـ يا عباد الله ـ يجب أن يوزَنَ بهذا المِعيار الرّبّانيّ الخالد، ألا وهو طاعة رسول الله فيما جاء به، واتّباعه فيما أمرَ به ونهى عنه. وإنّ رسولَ الرّحمة والهدى صلوات الله وسلامه عليه قد نهانا عن الإحداثِ والابتداع في دين الله بأن نعبدَ الله بما لم يشرَعه ولم يأذن به، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنّ النبيّ كان يقول في خطبة الجمعة: ((أمّا بعد: فإنّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة)) أخرجه مسلم في صحيحه[1]، وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ النبيّ قال: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))[2]، وفي لفظ لمسلم - رحمه الله -: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))[3].

 

وفي هذا بيانٌ أنّ اللهَ - تعالى - قد أكمل لهذه الأمّة الدينَ وأتمَّ عليها النعمة، ولم يقبِض نبيَّه صلوات الله وسلامه عليه إلاّ بعد أن بيَّن للأمّة كلَّ ما شرعَه لها من الأقوال والأعمال، ومِن ذلك بيانُه أنّ كلَّ ما يحدِثه الناس بعده من أقوال وأعمالٍ, هو مبتدَع مردود على مَن ابتدعه وأحدثه كائنًا من كان وإن نَسبه إلى الإسلام، وإن حسُن قصدُه في ذلك، فكلّ ذلك لا يغيِّر من بِدعيَّة هذا العمل المحدَث، ولا يعطيه حجّيةً ولا قبولاً.

 

وإنّ ممّا ابتدعه بعض النّاس في شهر شعبانَ هذا بدعةَ الاحتفال بليلة النّصف منه وتخصيصَ يومِها بالصّيام وتخصيصَ ليلها بالقيام، وكِلا الأمرين لم يقُم عليه دليلٌ صحيح ينهَض للاحتجاج، إذ إنَّ كلّ ما ورد في فضلِ هذه الليلة وفي فضل الصلاة فيها أو فضل صيامِها هو ما بَين موضوع مخترَعٍ, لا أصلَ له، وبين ضعيفٍ, واهن لا يُحتَجّ بمثله، وفي ذلك قال الحافظ العراقي - رحمه الله -: \"حديثُ صلاة ليلةِ النّصف من شعبان موضوع على رسول الله وكذبٌ عليه\"، وقال العلاّمة الإمام النوويّ - رحمه الله -: \"الصّلاة المعروفةُ بصلاةِ الرغائب، وهي اثنتا عشرةَ ركعة بين المغرب والعشاء ليلةَ أوّل جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان بدعتان منكرَتان، لا يُغترّ بذكرهِما في بعض المصنّفات ولا بالحديث المذكور فيهما، فإنّ كلَّ ذلك باطلٌ\" انتهى كلامه - رحمه الله -[4]. وكِلا الإمامين الكبيرين ـ يا عباد الله ـ هما من الأعلام المشاهير المحقّقين في مذهبِ الإمام الشافعيّ - رحمه الله -.

وكذا صنّف الإمام أبو محمّد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسيّ كتابًا هامًّا في إبطال هاتين الصلاتين وبيان بدعيّتهما، فأحسَن فيه حتّى لم يدَع زيادةً لمُستزيد.

 

وعلى تقدير أنّها ليلةٌ مفضَّلة، يعني على القولِ بأنها ليلة مفضّلة إن سلَّمنا بذلك، فإنّ هذا لا يقتضي تخصيصَها بعبادةٍ, مخصوصة بها دون غيرها، فإنّ يومَ الجمعة هو خير يومٍ, طلعت عليه الشّمس كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ قال: ((خيرُ يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أدخِل الجنّة، وفيه أخرِج منها، ولا تقوم السّاعة إلاّ في يومِ الجمعة)) أخرجه مسلم في صحيحه[5]، ومع هذا الفضلِ العظيم له ـ يعني ليوم الجمعة ـ فقد نهى النبيّ عن تخصيصه بصيامٍ, أو تخصيصِ ليله بقيامٍ, كما ثبت في صحيح مسلم - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّه قال: قال رسول الله: ((لا تخصٌّوا ليلةَ الجمعة بقيامٍ, من بين الليالي، ولا تخصّوا يومَ الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكونَ في صومٍ, يصومه أحدكم))[6]، فلو كان تخصيصُ شيء من هذه الليالي بشيء من العبادة جائزًا لكانت ليلةُ الجمعة أولى بذلك من سواها.

 

أمّا الليلة المباركة الوارِدة في قوله عزّ اسمه: \" إِنَّا أَنزَلنَـاهُ فِي لَيلَةٍ, مٌّبَـارَكَةٍ, \" [الدخان: 3] فهذه الليلة هي ليلة القدر، وليست هي ليلة النّصف من شعبان، كما بيّنت آية سورة القدر: \" إِنَّا أَنزَلنَـاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ \" [القدر: 1]، وهذه الليلةُ التي ورد الكلام عليها في قوله: \" إِنَّا أَنزَلنَـاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ \" هي في رمضان لا في شعبان كما هو معلومٌ يا عباد الله.

 

فاتّقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على العمل بالثّابت المشروع، وحذارِ من الانسياق وراءَ المبتدَع المحدَث مهما زيّنه المزيّنون وزخرفه المزخرفونº إذ لا عبادةَ إلاّ بما شرَع الله ورسوله، فاتّبعوا ـ أيها المسلمون ـ ولا تبتدِعوا فقد كُفِيتم.

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

 

----------------------------------------

[1] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (867).

[2] صحيح البخاري: كتاب الصلح (2697)، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).

[3] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).

[4] المجموع شرح المهذب (4/61).

[5] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (854).

[6] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1144).

 

الخطبة الثانية:

إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.

 

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ, صحيح عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أنه قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودِّع فأوصِنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعةِ وإن تأمّر عليكم عبد، وإنّه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة))[1]، فقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((وكلّ بدعة ضلالة)) هو ـ كما قال أهل العلم ـ من جوامِع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصلٌ عظيم من أصول الدين، وهو كقوله: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))، فكلّ من أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدّين ولم يكن له أصلٌ من هذا الدين يُرجع إليه فهو ضلالة والدّين منه بريء، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة.

 

ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، وحذارِ من الابتداع فإنّه شؤمٌ منذرٌ بسوء العاقبة، واستمسكوا بالثّابت المشروع من دينكم، فإنّ العملَ بالسنّة يُمنٌ وبركة ومآل كريم ورضوانٌ من الله ربِّ العالمين.

 

واذكروا على الدّوام أنّ الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الكلام: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِي يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً \" [الأحزاب: 56].

 

اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...

 

----------------------------------------

[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: \"هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين\"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply