العفة وأخبار المتعففين


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الأموات، فأهل الخبث والفواحش يقعون على ما يُشاكل أحوالهم، ويناسب نفوسهم الخبيثة، وأهل الطٌّهر والعفاف والخير والطِّيب يناسبهم كل طيب: ((قُل لاَّ يَستَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَو أَعجَبَكَ كَثرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللّهَ يَا أُولِي الأَلبَابِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)) (المائدة: 100).

 

وقال - سبحانه -: ((الخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثِينَ وَالخَبِيثُونَ لِلخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ)) (النور: 26).

 

النَّزاهة والعفَّة، والشَّرف والفضيلة والابتعاد عن مواطن الفواحش من أعظم أوصاف المؤمنين والمؤمنات، ومن أوضح البراهين والدلالات على حسن الخُلُق و وفور العقل، ونور البصيرة وعلوِّ الهمة، وضدٌّ هذا مَن تورَّط في مشاهدة الأفلام الخليعة والصور العارية والنظرات الفاجرة، وفعل الفواحش وسماع الغناء، فكفى بهذا برهان على دناءة الهمة وخبث الطبع، ومحبَّة الإثم وضعف الدِّيانة، وفي عصرٍ, كهذا العصر الذي ماجت فيه الفتن، وانزلقت في مهاوي الفواحش فئامٌ من الناس، بسبب فتنة النظرة المحرمة والخاطرة الرَّديئة، من أجل هذا سيأتي حديثنا اليوم عن العفة وأصحابها.

 

فإن العفة هنا تعني: صيانةُ المرءِ لشهوته الجنسية عن الحرام والرَّذيلة وإغلاق جميع طرقها ووسائلها، ومن أجل هذا قال علماؤنا: العِفَّةُ: هي حصول حالةٍ, للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة عليها. [أخلاق القرآن للشرباصي 1/1 نقلا عن مفردات الراغب].

 

والعفة: هي التي أمر الله بها مَن لا يجدون القدرة على تكاليف الزَّواج وتَبِعَاته في قوله - تعالى -: ((وَليَستَعفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغنِيَهُم اللَّهُ مِن فَضلِهِ)) (سورة النور: 33).

 

وذلك بضبط النفس وحِفظ الحواسِّ عن كل شهوة محرمة، ومعالجةُ النفس بالصوم والعمل والقراءة والعبادة.

 

إنَّ العفة خُلُقٌ إيمانيُّ رفيع، فهو زينةٌ للرجل والمرأة في الدنيا والآخرة، به يُحفظ الإيمان، وهو من أسباب دخول الجِنان، قال r: ((مَن يضمنُ لِي مَا بينَ لِحيَيهِ ومَا بينَ رِجليهِ أضمنُ لهُ الجنَّة)). [رواه البخاري]. والعفة كذلك حفظٌ للصِّحَّة والنَّسل وقوَّة الجسم.

 

إنَّ جوارح الإنسان حينما تُطلق في الحرام فهذا زناها في الصَّحيحين عنه r قال: ((كُتبَ عَلى ابنِ آدمَ حظٌّه من الزِّنى مدركٌ ذلكَ لا مَحَالة، فالعينانِ زناهُما النَّظَر، واللسانُ زناهُ النٌّطق، والرِّجل زنَاها المَشي، واليَدُ زناها البَطش، والنَّفس تتمنَّى وتشتَهي، والفرجُ يصدِّقُ ذلكَ أو يكذِّبُهُ)).

 

والحرام يهدم القُوى ويُضعف الحواسّ، فالجزاء من جنس العمل، والحلال فيه غُنيَةٌ عن الحرام، ومن ترك الحرام لله وثوابه عوَّضه الله خيرًا منه، وقد قال r: ((سبعةٌ يظلٌّهمُ اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلٌّهُ ومنهم رجلٌ دَعَتهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ, وجمالٍ, فقالَ: إنِّي أخافُ الله)).

 

وفي الحديث المتفق عليه في قصَّة أصحاب الغار الذين انحدرت عليهم صخرةٌ فسدَّت عليهم باب الغار فدعوا الله بصالح أعمالهم فقال ذلك الرجل: ((اللهمَّ إنه كانت لي ابنةُ عمٍّ,، كانت أحبَّ الناس إليَّ (وفي رواية) وكنت أحبٌّها كأشدِّ ما يحبٌّ الرجالُ النساءَ، فراودتٌّها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألَمَّت بها سنةٌ من السنين فجاءتني (يعني محتاجة) فأعطيتها مائة دينارٍ, على أن تخلِّي بيني وبين نفسها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتَّق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقِّه، فانصرفت عنها وهي أحبٌّ النَّاس إليّ وتركت الذَّهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة).

 

وهذا الكريم نبيٌّ الله يوسف - عليه السلام -، تدعوه امرأة العزيز ذات المنصب والجمال وهو شابُّ عزب مكتمل الجمال والرجولة والأبواب مغلَّقة والسٌّبل ميسَّرة فماذا كان موقفه؟ صرف الله عنه السوء وثبته فوقف في وجه المرأة قائلا: ((مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحسَنَ مَثوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفلِحُ الظَّالِمُونَ)) (يوسف: 23).

 

وحينما استعانت المرأة بما لديها من قوة ومكر وقالت: ((وَلَئِن لَّم يَفعَل مَا آمُرُهُ لَيُسجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ مِمَّا يَدعُونَنِي إِلَيهِ وَإِلاَّ تَصرِف عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ)) (يوسف: 32-33).

 

وهذا يدلٌّ على أن من استعان بالله ولجأ إليه وتضرَّع إليه وصبر على ذلك أن الله يعينه ويؤيِّده، وينصره ويسدِّده، سواء كان نبياً أم مسلماً عاديَّاً.

 

وفي هذه الأمة شبيهٌ ليوسُف - عليه السلام - ذلكم هو شابُّ من أهل المدينة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان هذا الشابّ يحافظ على صلاة الجماعة خلف عمر، فكان عمر يتفقَّده إذا غاب، فعشقته امرأةٌ من أهل المدينة فذكرت ذلك لبعض العجائز فقالت: أنا أحتال لك في إدخاله عليك، فقعدت هذه العجوز على طريق الشاب، فلما مرَّ بها قالت له: إني امرأةٌ كبيرة السنِّ ولي شاةٌ لا أستطيع حلبَها فلو دخلت فحلبتها لي وكان أحرص ما يكون على فعل الخير فدخل الشاب فلم يَرَ شاةً فقالت: اجلس حتى آتيك بها، فإذا المرأة قد طلعت عليه وأغلقت الباب وأرادته عن نفسه فأبى وقال: اتَّق الله أيتها المرأة، فجعلت لا تكفٌّ عنه ولا تلتفت لقوله، فلما أبى عليها وأعرض عنها وامتنع منها صاحت بأعلى صوتها فاجتمع الناس فقالت: هذا الشابٌّ دخل عليَّ يريدني عن نفسي، فقاموا عليه يضربونه ثم ربطوه بالحبال، فلما صلَّى عمر بالناس صلاة الفجر لم ير الشابَّ، فبينما هو كذلك إذ جاؤوا به في وثاقٍ,، فلمَّا رآه عمر قال: اللهمَّ لا تخلف ظنيِّ فيه، فأخبروا عمر بما جرى فقال للفتى: اصدقني، فأخبره بالقصة فقال عمر: أتعرف العجوز. فقال: نعم إن رأيتها عرفتُها، فأرسل عمر إلى عجائز ونساء جيران المرأة فعرضهنَّ فمرَّت فقال هذه يا أمير المؤمنين فرفع عمر عليها الدِّرَّة وقال: اصدقيني فقصَّت عليه القصة كما قصها الفتى فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف.

 

لا يتفاضل الناس في مَراقي الشَّرف والمجد، ولا تنزل الهممُ وتسقط التطلٌّعات إلا بمقدار ما تتمتَّع به النفوس من ضبط السٌّلوك وقوَّة الإرادات، فالرجل ذو العزيمة يتجلَّى في مظهر الكرامة الإنسانية مطبوعاً على أجمل صورة من الكمال والنٌّبلِ، وبسبب ضعفها وهوانها ينزل المرء من سماء الإنسانية العالي ليكون شبيهاً بالحيوان ساقطاً مهملاً). [من خطبة د. ابن حميد في كتاب قبسات من خطب الحرمين ص 135].

 

فلماذا يسارع الجاهل إلى إسقاط نفسه وتدنيس عرضه، لماذا يلجأ إلى النَّظر الحرام والسَّماع المحرَّم والفعل المحرَّم وقد أُبيح له الحلال وفتحت أبوابه؟.

 

إن العفَّة تتولَّد عند الإنسان إذا درَّب نفسه على الصبر عن معصية الله، وذكَّرها بسوء عاقبة الحرام، فكم من لذَّةِ لحظاتٍ, أعقبت دوام الحسرات

 

ألا وإنَّ المبادرة إلى الزواج من أنجح العلاج، وخاصَّةً في هذا الزمن الذي تعدَّدت فيه المغريات والمُثيرات، من إعلامٍ, فاسدٍ, وصحفٍ, ومجلات، وأفلامٍ, وقنوات، تؤجِّج الغرائز، وتُوقد نيران الشَّهوة عن طريق الصٌّور العارية وشبه العارية، والغناء الماجن والكلام البذيء.

 

فبشراك يا صاحب العفة، يا من حجزت نفسك عن الحرام، بشراك يا من نهيت نفسك عن الهوى يقول الله - جل وعلا -: ((وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى)) (النازعات: 40-41) سورة.

 

وفيها من النعيم والكرامة ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، نساءٌ حورٌ مطهَّرات من كل أذى: ((إِنَّا أَنشَأنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكَارًا * عُرُبًا أَترَابًا)) (الواقعة: 35-37).

 

فشتَّان بين لذَّة النَّعيم المقيم ولذَّة لحظات تمضي ويبقى بعدها الحسرة والألم:

 

تفنَى اللذاذةُ ممَّن نَال صفوتها *** منَ الحرامِ ويبقَى الإثمُ والعَارُ

 

تُبقي عواقبَ سوءٍ, من مَغيتهَا *** لا خيرَ في لذَّةٍ, من بعدِهَا النَّارُ

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply