فقه التعامل مع الناس ( 2 - 3 )


 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 

 

5- استحضار أن الخطأ من طبيعة الإنسان، وأنه لم يسلم منه إلا من عصمه الله من أنبيائه ورسله، وقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله:\"كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون\" أخرجه الترمذي[1]، وابن ماجه[2].

ومن لك بالمهذب الندب الذي * لا يجد العيب إليه مختطى

فمن الخطأ البيِّن أن يتصور امرؤٌ مثاليةً في شخص، سواء كان امرأة سينكحها، أو عالماً سيتتلمذ عليه، أو رجلاً سيخالطه ويعاشره، أو غير ذلك، ثم يحاسبه بناء على ذلك، وربما انتبذ عنه مكاناً قصياًº بل عليه أن يعامله معاملةً واقعيةً، نابعةً عن معرفة بطبيعة البشر، التي يعتريها الجهل والخطأ والنسيان.

وانظر إلى فعل حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - وهو من البدريين، الذين قال الله فيهم: \"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم\" -حيث أرسل إلى كفار قريش كتاباً يخبرهم فيه بعزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في التوجه لفتحها، فأنزل الله فيه: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ...)الآية[3].

قال الحافظ ابن حجر: \"وفي هذا الحديث من الفوائد، أن المؤمن ولو بلغ بالصلاح أن يقطع له بالجنة لا يعصم من الوقوع في الذنبº لأن حاطباً دخل فيمن أوجب الله لهم الجنة، ووقع منه ما وقع\"[4].

وتأمل في جواب الإمام أحمد - رحمه الله - لما قال له راويته مهنا: كان غُندَر[5] يغلط؟ قال: \"أليس هو من الناس؟! \"[6].

وأمعن النظر في قول شيخ الإسلام ابن تيمية هذا:

يقول - رحمه الله -: \"وليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة\"[7].

6- التغافل، فبناء على ما هو مقررٌ من لزوم الخطأ لبني الإنسان، فإنه يحسن بالنابه الفطن، أن يتغافل عن الأخطاء التي لا يترتب عليها مفسدة.

وقد أخرج البخاري[8] ومسلم[9] عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك، ففهمتها، فقلت: عليكم السام، واللعنة، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - \"مهلاً يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله\" فقلت: يا رسول الله، أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"قد قلت: وعليكم\".

قال العلامة ابن مفلح: \"استنبط منه استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين، إذا لم يترتب عليه مفسدة\"[10].

فإذا كان هذا التغافل في مثل هؤلاء الكفار، فإنه يتأكد على المسلم أن يتغافل عما يجري من أخيه المسلم من الأخطاء المعتادة، فالكمال عزيز، ولن تجد زوجة، أو ولداً، أو أخاً، أو معلماً، أو صديقاً، أو إماماً لمسجد، أو نحوه إلا وفيه ما يصفو وما يتكدر، فلا ترج شيئاً خالصاً نفعه، فانهل من صفو صاحبك، وتعامى عن كدره، كأنك ما سمعتَ ولا دريتَ.

ولقد أجاد أبو تمام حين قال:

ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي

قال الإمام الشافعي: \"الكيس العاقلº هو الفطن المتغافل\"[11].

وقال عثمان بن زائدة، قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، فقال: \"العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل\"[12].

فأجمل بالأب في بيته، والمعلمِ في فصله، والمديرِ في دائرته، وإمامِ المسجد مع جماعته، وكلِ مسؤول مع من تحت يده، أجمل بهؤلاء كلهم أن يتحلوا بالإغماض عن الهفوات التي لا تمس ديناً، ولا تورث شراً، وإنما هي حقوقٌ شخصية.

ويتأكد التغافل عن الخطأ في حق من اشتدت مودته، وطالت صحبته، كما قال أبو فراس الحمداني:

لم أواخذك بالجفاء لأني * ** واثق منك بالوداد الصريح

وجميل العدو غير جميل *** وقبيح الصديق غير قبيح

7- قبول أعذار الناس، فبما أن الإنسان لا يزال في حيِّز البشرية، يرد عليه الخطأ في تعامله مع الناس، فإن كفارة ذلك الذنب هو اعتذاره ممن أخطأ عليه.

ويتأكد في حق من اعتذر منه أن يقبل عذره، ويكل سريرته إلى الله، تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -º فإنه لما جاءه المخلفون عام تبوك، وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، قبل علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وهو مع ذلك لا يصدق أحداً منهمº بدليل أنه لما جاءه كعب بن مالك، وأخبره بحقيقة أمره، قال: \"أما هذا فقد صدق\" كما عند البخاري[13] ومسلم[14].

قال الإمام ابن القيم: \"من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله.. \".

ثم قال: \"وعلامة الكرم والتواضع أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ولا تحاجَّه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك\"[15].

قال الإمام الشافعي:

اقبل معاذير من يأتيك معتذرا *** إن برَّ عندك فيما قال أو فجرا

فقد أطاعك من يرضيك ظاهره *** وقد أجلَّك من يعصيك مستترا

وقال المرٌّوذي: قلت لأبي عبد الله: إن أبا موسى هارونَ بنَ عبدِ الله قد جاء إلى رجل شتمه لعله يعتذر إليه، فلم يخرج إليه، وشق الباب في وجهه، فعجب، وقال: سبحان الله: أما إنه قد بغى عليه، سينصر عليه، ثم قال: رجل نقل قدمه ويجيء إليه يعتذر لا يخرج؟! [16].

ومما يقوِّي المسلمَ في قبول عذر أخيه إذا اعتذر إليه، استشعارُه أنه ربما احتاج لمثل هذا الموقف الذي وقفه أخوه أمامه، فهل يسرٌّه حينَها أن يُردَّ خاسئاً وهو حسير، فكما تدين تدان.

فما أجمل ذلك الأب الذي لما أتاه ابنه يلقي معاذيره، قبل عذره، وبرأه من الملام.

وأكرم بذاك الزوجِ الذي إذا اعتذرت إليه زوجه من التقصير، نفض عنها غبار اللوم، ووجد لها في ذلك عذراً بيناً.

ولله در ذاك الصديق الذي لما أتاه صاحبه معتذراً إليه من هفوة فرطت، أو سقطت بدت - هوَّن عليه، وقال: لا درَك عليك في ذلك ولا لحَق.

بل إنه ينبغي لمن أوتي شهامة في طباعه، وسخاوة في أخلاقه، أن يعذر أخاه إذا سمع عنه سوءاً، وهذا قد دعا إليه ربنا في كتابه، فقال: (لَولا إِذ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بِأَنفُسِهِم خَيراً وَقَالُوا هَذَا إِفكٌ مُبِينٌ).

قال الزمخشري في تفسيره: \"فيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه، أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير: هذا إفك مبين.

هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت، ولا يشيع ما سمعه بأخوات\"[17].

ولما خلأت ناقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القصواء، وهو في طريقه إلى مكة زمن الحديبية، قال الناس: خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل\" أخرجه البخاري[18].

قال ابن بطال: \"فيه جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها\"[19].

وما أجمل اعتذار تلك النملة التي قالت: (يَا أَيٌّهَا النَّملُ ادخُلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَحطِمَنَّكُم سُلَيمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُم لا يَشعُرُونَ).

قال الألوسي: \"في تقييد الحطم بعدم الشعور بمكانهم المشعر بأنه لو شعروا بذلك لم يحطموا، ما يشعر بغاية أدب النملة مع سليمان - عليه السلام - وجنوده\"[20].

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: \"لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً\"[21].

وقال أبو قلابة: \"إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهه فالتمس له العذر جَهدك، فإن لم تجد له عذراً، فقل في نفسك: لعل لأخي عذراً لا أعلمه\"[22].

(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,).

8- الإعراض عن الجاهلينº كما قال - تعالى -: (خُذ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَن الجَاهِلِينَ) وقال: (وَإِذَا خَاطَبَهُم الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) وقال: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغوَ أَعرَضُوا عَنهُ وَقَالُوا لَنَا أَعمَالُنَا وَلَكُم أَعمَالُكُم سَلامٌ عَلَيكُم لا نَبتَغِي الجَاهِلِينَ).

فمن الناس من تجد في طبعه نزَقاً، وفي لسانه رهقَاً، يغمز فيه، ويلمزº دون جريرة في الملموز، وإنما هو طيش الحِلم، وسفه العقل.

وإن شفاء مثل هذا الداء يسيرٌ على من يسره الله عليه، بأن يكون من أوذي رحب الصدر، وقور النفس، رصيناً، رزيناً، لا يستخفه سفه، ولا يستثيره غضب، طوداً لا تقلقله العواصف.

وما أجمل ما فعل الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما دخل عليه عيينة بن حصن، فقال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر - رضي الله عنه - حتى أهم أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله - تعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خُذ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَن الجَاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقافاً عند كتاب الله -تعالى-. أخرجه البخاري[23]

ولله درٌّ الإمام الشافعي حين قال:

قالوا: سكتَّ وقد خوصمتَ قلت لهم *** إن الجواب لباب الشر مفتاحُ

والصمت عن جاهلٍ, أو أحمقٍ, شرفٌ *** وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ

أما ترى الأُسدَ تخشى وهي صامتةٌ *** والكلبَ يخسى لعمري، وهو نباحُ

وقال:

يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكرهُ أن أكونَ له مجيبا

يزيد سفاهة فأزيدُ حِلما  *** كعود زاده الإحراق طيبا

 

----------------------------------------

[1] - سنن الترمذي (2499).

[2] - سنن ابن ماجة (4251).

[3] - صحيح البخاري رقم 4890، وصحيح مسلم رقم 2494.

[4] - فتح الباري 12/310.

[5] - هو أحد رواة الحديث واسمه محمد بن جعفر من شيوخ الإمام أحمد.

[6] - الآداب الشرعية لابن مفلح 2/141.

[7] - مجموع الفتاوى 11/66-67.

[8] - صحيح البخاري (6024).

[9] - صحيح مسلم (2165).

[10] - الآداب الشرعية 1/310.

[11] - الآداب الشرعية 1/310.

[12] - الآداب الشرعية 2/20.

[13] - صحيح البخاري (4418).

[14] - صحيح مسلم (716).

[15] - مدارج السالكين 2/337.

[16] - الآداب الشرعية 1/319.

[17] - تفسير الزمخشري 3/213.

[18] - صحيح البخاري (2731 - 2732).

[19] - فتح الباري 5/335.

[20] - روح المعاني 10/178.

[21] - تفسير ابن كثير 7/377.

[22] - حلية الأولياء 2/285.

[23] - صحيح البخاري (4642).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply