السهم المسموم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

إن من أكبر ذرائع الفتنة، ومن أعظم أسباب الفاحشة إطلاق النظر إلى ما حرم الله النظر إليه.. وإن من فتن هذا الزمان استمرار الكثير من المسلمين النظر إلى ما حرم الله عليهم.. من نساء متبرجات كاشفات في الأسواق و التلفاز و المجلات.. فتجد الرجل ينظر إلى المرأة الأجنبية في غلاف المجلة أو في مسلسلة تلفزيونية وكأنه ينظر إلى إحدى محارمه.. لا يشعر بذنبه ولا يحس بمعصيته لربه الذي أمره بغض بصره فقال -تعالى-: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم).

وتجد في المقابل المرأة تنظر بل وتحدّ النظر -بلا حياء- إلى الرجال الذين يظهرون على شاشات التلفاز وهم في أبهى صورة، قد تزينوا كما تتزين النساء فتثور الشهوة ويرتفع الحياء، وتتلاشى الفضيلة...

دخل أحدهم على ابنته الشابة فوجدها قد احتضنت التلفاز وأخذت تقبل الرجل الذي ظهر على الشاشة، ويدخل آخر على غرفة ابنته فيجد الجدران قد حجبت بصور اللاعبين و الممثلين..

وهذا مراهق يرى المجلة عند باب البقالة.. وقد عرضت على غلافها الخارجي فاسقة من الفاسقات اللاتي تاجرن بحيائهن إن كان لهن ثمةُ حياء أخذ المجلة وانزوى بها فأحتضنها ثم قبلها..

وصدق من قال:

كل الحوادث مبدأها من النـــــظر *** ومعظم النار من مستصغر الشـرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتـــــــر

و المرء ما دام ذا عين يقلبهـــــــا *** في أعين الغيد موقوف على خطر

يسر مقلته ما ضر مهجتـــــــــــه *** لا مرحبا بسرور عاد بالضـــــــــــرر

إن النظرة الآثمة تفعل في القلب فعل السهم المسموم في الرّميّة إن لم يقتلها جرحها، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشائش اليابسة، إن لم تحرقها كلها احترق بعضها..

فهل نتقي الله في هذه النعمة التي حارب الكثير منا بها الله -عز وجل- فنظر إلى ما حرم الله -عز وجل- عليه.

ونظراً لجهل الكثير منا بأحكام النظر، ولغفلتهم عن خطورته، نعرض بعض الأحكام المتعلقة به، وعقوبة من تساهل في حفظه وغضه..

 

أيها الأخوة الأحباب:

يختلف حكم النظر باختلاف الناظر والمنظور إليه..

فالنوع الأول: نظر الرجل للمرأة الأجنبية.. وهذا حرام، قال تعالى: [وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون] ثم خصّ النساء مع دخولهن تحت مسمى المؤمنين فقال: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن).

وقد قدّم الحق -عز وجل- غض البصر على حفظ الفرج لأنه أصل، فبدأ بذكره.. قال القاسمي -رحمه الله- معللاً تقديم البصر على الفرج، "لان النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، وغضُ البصر من أجلِّ الأدوية لعلاج القلب، وبامتثال المؤمن لغض البصر وحفظ الفرج يسلمُ من حبائل الشيطان، وهواجس النفس، وبلبلة الفكر، وضياع دينه ودنياه، ويسلم المجتمعُ من إشاعة الفواحش والفوضى الجنسية بين أفراده.

وكما جاء الكتاب آمراً بغض البصر وحفظ الفرج، جاءت السنةُ المطهرة مؤكدةً هذا المعنى في سياق الأحاديث التالية:

1-              عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه و سلم- قال: [إن الله -عز وجل- كتب على بني آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، و الرِجلُ تزني وزناها الخطى، واليد تزني وزناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدِّق ذلك ويكذبه] رواه البخاري.

قال ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على الحديث "بدأ بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج، وهذا الحديث أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر وأن ذلك زناها".

2-              عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قال: [إياكم والجلوس بالطرقات، قالوا: يا رسول الله مالنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: رسول الله -صلى الله عليه و سلم- إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟

قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر] رواه الإمام البخاري..

3-              عن جرير -رضي الله عنه- قال : سألت رسول الله -صلى الله عليه و سلم- عن نظر الفجأة فقال :[اصرف بصرك] رواه مسلم

ومعنى الفجأة: أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرفه فلا إثم عليه وإن استدام أَثِم.

ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم- لعلي: [يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأول وليست لك الآخرة] رواه أحمد وغيره وهو في مشكاة المصابيح حسنة الألباني في صحيح الجامع.

 

النوع الثاني: نظر الزوج لزوجته والعكس..

فيجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته كما يجوز لها أن تنظر إلى جميع بدنه..

وقد كانت عائشة تغتسل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجنابة في إناء واحد فترى منه ويرى منها..

 

النوع الثالث: نظر الرجل إلى محارمه من نسب أو رضاع أو مصاهره باستثناء الزوجة..

فقد أجمعت الأمة على حرمة النظر إلى ما بين السرة والركبة..

وقال أهل العلم: يحل للرجل أن ينظر إلى ما يظهر من جسدها عند المهنة أو الخدمة من الوجه والرأس والعنق واليد إلى المرفق والساقين.

ومع هذا فالمرأة المسلمة ينبغي أن تحافظ على نفسها في هذه الأزمنة التي انتشرت فيها الفتن وعم الفساد وانتهكت فيها الحرمات.. فإن وجدت المرأة محرماً لها غير متدين، ولا يتورع أبداً عن ارتكاب المحرمات فيجب عليها أن تحتاط منه فلا تظهر من جسدها أمامه إلا ما دعت إليه الحاجة..

 

النوع الرابع: النظر لأجل النكاح.. إن قصد رجل نكاح امرأة يسنٌّ له أن ينظر إلى وجهها وكفيها: دليل ذلك قوله -صلى الله عليه و سلم- للمغيرة بن شعبة حين خطب امرأة: [أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما] صححه الألباني.

كما يسن للمرأة أن تنظر من الرجل غير عورته إذا أرادت الزواج منه فإنما يعجبها منه ما يعجبه منها.. وإذا كان الشارع الحكيم قد أباح النظر إلى الوجه والكفين من أجل النكاح فإنه حرم المس والمصافحة فضلاً عن الخلوة التي يفعلها بعض من لا خلاق لهم ولا حياء.. فقد جاء في الحديث الصحيح : [لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له].. (ماخلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)

 

النوع الخامس: النظر من أجل المداوة والعلاج:

يجوز للطبيب أن ينظر إلى مكان المرض في جسد المرأة ليشخص الداء ويصف العلاج.

وإنما جاز لأن في التحريم حرجاً قال –تعالى-: [وما جعل عليكم في الدين من حرج] فيجوز للرجل أن يداوي المرأة. ويجوز للمرأة أن تداوي الرجل. غير أن الشرع الحكيم لم يجعل علاجَ الرجلِ للمرأة مطلقاً بدون قيدٍ, أو ضابط إذ لا يُعقلُ أن تذهب المرأة كلما اشتكت إلى رجل يكشف عليها فالذهاب إلى الطبيب مقيد بعدم وجود طبيبة في البلدة. فإذا وجدت طبيبة حُرِّم على المرأة أن تذهب إلى طبيب.

حتى أن الفقهاء قالوا لو وجدت طبيبة كافرة، وطبيب مسلم تُقدمُ الطبيبة الكافرة على الطبيب المسلم لأن مسها ونظرها أخف من مس الطبيب ونظرهِ.

وإذا لم توجد طبيبة جاز حينئذ الذهاب إلى طبيب مع ملاحظة الضوابط التالية:

1-              أن لا يكون طبيباً كافراً وفي البلد طبيب مسلم.

2-              أن يوجد مع المرأة في حال الكشف زوجها أو أحد محارمها

3-              أن يكون الطبيب أمينا وعلى المسؤولين في الصحة و المستوصفات الخاصة أن يتقوا الله -عز وجل- في أعراض المسلمين فلا يأتوا بطبيب إلا وقد عرف بصلاحه.

4-              أن لا ينظر إلا إلى موضع الداء فقط..فإذا كان الألم أو المرض في القدم فلا يجوز كشف الساق فضلاً عن الفخذ إلا للحاجة إذا دعت الضرورة ولا يكشف الوجه مادام المرض في غيره إلا لضرورة و هكذا.. لأن بعض النساء إذا دخلت عند الطبيب كشفت الكثير من عورتها دون الحاجة لذلك وهذا لا يجوز..

(ما من امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله -عز وجل-).

وقد ذكر لي بعض الأطباء مخالفات النساء في هذا الباب فذكروا ما يندى له الجبين ويستحي المرء من ذكره.. فاتقوا الله في أبصاركم واتقوا الله في محارمكم..

بارك الله لي و لكم...

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين...

فإذا ثبت هذا، فنبشر أولئك اللذين امتثلوا أمر ربهم وشكروا نعمته عليهم بالبصر شكروا هذه النعمة فغضوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم أن ينظروا إليه...

 فالبشارة الأولى:

إن غض البصر فيه تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق بصره دامت حسرته، لأنه يرى ما لا صبر له عنه ولا وصول له إليه وذلك غايةُ ألمهِ وحسرته.

البشارة الثانية:

إن غض البصر امتثالٌ لأمر الله، وما سعد إنسان في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامر الله.

البشارة الثالثة:

إن غض البصر يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين والوجه. كما أن إطلاقه يورث "ظلمة" تظهر على الوجه والجوارح، ولهذا -والله تعالى أعلم- ذكر الله آية النور في قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض) عقب قوله: (وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم).

البشارة الرابعة:

 إن غض البصر يفتح أبواب العلم ويسهل أسبابه و يؤرث الفراسةَ الصادقةَ "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَ بصرَه عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، واعتاد الحلال، لم تخطئ له فراسة".

البشارة الخامسة:

إن غض البصر يسدٌّ بابا من أبواب جهنم، فإن النظر بابُ الشهوة، والشهوة بريدُ المحظور ومتى ما وقع في المحظور فتح على نفسه باباً إلى النار..

 

تنبيهات حول النظر إلى المحرمات:

التنبيه الأول: لأصحاب الأسواق والبقالات والمكتبات الذين يتاجرون بعرض المجلات النسوية التي تعرض السافرات المتبرجات فهؤلاء يحملون أوزار من نظر إلى هذه المجلات و إثمَ من تأثر بها دون أن ينقص من أوزار من نظر إليها شيئاً لأنهم كانوا سبباً في انتشار مثل هذه المجلات الفاسقة.. وساهموا في انتشار الرذائل في المجتمع..

التنبيه الثاني: من الأمور التي استمرأها الكثير في بيوتهم النظر إلى الخادمات، ينظر الرجل إليها كما ينظر إلى إحدى محارمه.. وهذا لا يجوز لأنها امرأة أجنبية لا يجوز لك النظر إليها.

 

فاتقوا الله يا عباد الله... ولا تعصوا الله بالنعم التي أنعمها عليكم فتكونوا كالذين قال الله فيهم: (ألم ترى الذين بدلوا نعمة الله كفروا وأحلوا قومهم دار البوار).

أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا لفروجنا عن الحرام حافظين ولأبصارنا غاضين وفي صلاتنا خاشعين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply