الهجر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إن المجتمع المسلم مجتمع متآلف تشيع فيه روح المحبة والوئام، وقد حث الشرع المطهر على كل ما فيه تقوية روح الإخاء بين أبناء هذا المجتمع ونهاهم عن كل ما ينتقص أو يؤثر سلبا على هذه الروح، ومن جملة الأخلاق السلبية التي نهى عنها الشرع الهجر بين المسلمين.

 

معنى الهجر:

الهجر عبارة عن مفارقة الإنسان غيره، وقد يكون ذلك بالبدن كما فى قوله -تعالى-: (واهجروهن في المضاجع)"سورة النساء: 34" وقد يكون باللسان أو بالقلب، كما في قوله -تعالى-: (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)"سورة الفرقان: 30"، أما قوله -عز وجل-: (واهجرهم هجراً جميلاً)"سورة المزمل: 10" فهو محتمل للهجر بالبدن والقلب واللسان وقوله -سبحانه-: (والرجز فاهجر)"سورة المدثر: 5" حث على المفارقة بالوجوه كلها.

 

أنواع الهجر وأحكامه:

 الأصل هو المنع من هجر المسلم، لكن قد يشرع الهجر في بعض الأحيان ويختلف حكم الهجر باختلاف المهجور.

 

هجر المرأة:

 فإن تعلق الهجر بالمرأة فإنه مشروع في بعض الأحيان، و ذلك عند النشوز أو مخافته مصداقاً لقوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن و اهجروهن في المضاجع)"سورة النساء: 34". و المرأة لا تهجر إلا في البيت لحديث معاوية القشيرى -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت و تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا فى البيت" رواه أبو داود و قال الألباني: حسن صحيح. ومعنى قوله -تعالى-: (واهجروهن في المضاجع) ألا يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها أو يغلظ عليها فى القول، و هذا الهجر غايته عند العلماء شهر كما ذكره القرطبي و ينبغي على الرجل قبل الهجر أن يقوم على وعظ أهله و تذكيرهم و إزالة شبهاتهم برفق و لين و أن يجتهد فى الدعاء لهم: (ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين و اجعلنا للمتقين إماماً).

 

هجر المسلم:

 وإن تعلق الهجر بالمسلم فإنه يعد كبيرة شريطة أن يكون فوق ثلاث وألا يكون لغرض شرعي لما في ذلك من التقاطع والإيذاء والفساد، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى ومنها ما رواه أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه– قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار" رواه أبو داود و صححه الألباني، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة، فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرار كل ذلك لا ير د عليه فقد باء بإثمه" رواه أبو داود و حسنه الألباني، وعن أبي خراش السلمي -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه" رواه أبو داود أبو داود وصححه الألباني. فإذا زاد الهجر بين الإخوان فوق ثلاث كان حراماً لما يترتب عليه من تفكك اجتماعي، ويستثنى من تحريم هذا الهجر مسائل حاصلها أنه متى عاد الهجر إلى صلاح دين الهاجر والمهجور جاز وإلا فلا، وقد قاطع النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام الثلاثة الذين خلفوا، خمسين يوما وليلة، حتى نزلت توبتهم من فوق سبع سموات بعد أن ضاقت عليهم الأرض على رحابتها و ضاقت عليهم أنفسهم، قال -تعالى-: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا).

 

هجر ذوي الأرحام:

وأما هجر ذوى الأرحام فيعتبر من جملة الكبائر حتى وإن لم تبلغ المدة ثلاثة أيام، لأن الهجر هنا أضيف إليه قطيعة الرحم، والرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله، وقد أمر -سبحانه- بوصلها فقال: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) وليس الواصل بالمكافئ، والرحم توصل بالهدية والزيارة والسلام والمراسلة، بل الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما قال الإمام الخطابي وغيره، فإن لم يستطع الإنسان صورة من صور الصلة عمل بالأخرى أو بما يقدر عليه منها إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولما هم البعض بقطع ذوي الرحم استبطاءً لإيمانهم نزل النهي عن ذلك: (ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدى من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) و قد أمر -سبحانه- بصلة الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف حتى وإن ظلما وكانا مشركين قال -تعالى-: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً). وقد عد الإمام الذهبي -رحمه الله- هجر الأقارب مطلقاً من الكبائر.

 

هجر أهل البدع والمعاصي:

أما هجر أهل البدع والأهواء فإنه مطلوب على مر الأوقات ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق، فمن وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الدين، ولما دخل رجل يتكلم في القدر (أي ينكره) على ابن سيرين، سد ابن سيرين أذنيه وقال للرجل: إما أن تخرج وإما أن أخرج. قال ابن مفلح: "يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية" وقال ابن تميم: "هجران أهل البدع كافرهم وفاسقهم والمتظاهرين بالمعاصي، وترك السلام عليهم فرض كفاية، ومكروه لسائر الناس، ولا يسلم أحد على فاسق معلن ولا مبتدع معلن داعية ولا يهجر مسلماً مستوراً غيرهما من السلام فوق ثلاثة أيام". والهجر هنا قد شرع كعلاج ولم يشرع للبتر ولا للإهلاك، وبالتالي فلا تزيد فى الكيفية أو فى الكمية فتهلك صاحبك، وشرع الله مصلحة كله، ولابد من مراعاة واقع الغربة و تفشى الجهالة، والقيام بواجب الدعوة والرفق بالخلق وإزالة الشبهات ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة، وكان من مذهب عمر و أبي الدرداء وإبراهيم النخعي أنك لا تهجر أخاك عند المعصية فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم مرة أخرى، ولعل هذا يتناسب مع ظروفنا إذ لا سلطان لنا على النفوس ولغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة، وإذا كان المهجور يزداد شراً وفساداً بالهجر، فصلته حينئذ مع دعوته أولى من هجره و التباعد عنه.

 

هجر المرأة زوجها:

لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تهجر زوجها أو تمتنع عنه إذا طلبها لحاجته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تهجر امرأة فراش زوجها إلا لعنتها ملائكة الله -عز وجل-" رواه أحمد و البخاري ومسلم بلفظ قريب منه و لفظه "إذ دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت (رفضت) فبات غضبان عليها لغتها الملائكة حتى تصبح". وفى رواية: "حتى ترجع". ولا يصح للزوجة أن تتعلل بتفريط الزوج إذ تفريطه في الحق لا يستدعي تقصيرها، وعليها أن تسأل الله الذي هو لها.

 

خيرهما الذي يبدأ بالسلام:

إذا كان الأصل في الهجر أنه من المنهيات فإن الثلاثة أيام تكفي لإذهاب شحناء النفوس والأهواء التي تعتمل فيها، وقد جعل الشرع خير الرجلين الذي يبدأ صاحبه بالسلام وقد ترجم الصالحون هذا المعنى بسلوكهم فحرصوا على إصلاح ذات البين، عن أبي الحسن المدائني قال: "جرى بين الحسن بن علي وأخيه الحسين كلام حتى تهاجرا، فلما أتى على الحسن ثلاثة أيام من هجر أخيه أقبل إلى الحسين وهو جالس فأكب على رأسه فقبله فلما جلس الحسن قال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك والقيام إليك أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به".

 

من أضرار الهجر:

من المعلوم أن الهجر بغير سبب شرعي له أضرار شديدة على الفرد والمجتمع فالهجر صفة قبيحة تسخط الله -عز وجل- على المتهاجرين، وهو سبب في تأخير المغفرة من الله -عز وجل-، ويعد من حبائل الشيطان يغوي بها أتباعه حتى يسوقهم إلى الجحيم، عن مجاهد قال: "الأقلف موقوف عمله حتى يختتن والصارم (الهاجر) الظالم موقوف عمله حتى يفيء.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا... "الحديث.

و بالجملة فلابد من هجر الذنوب والمعاصي وكل ما يؤدي إليها، والحذر كل الحذر من هجر القرآن وغيره من الطاعات والقربات لقوله -تعالى-: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply