الإنفاق في سبيل الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد فإن الله - سبحانه وتعالى - قد أنعم علينا بأنواع النعم، وجعل هذه النعم متنوعة تنوعا عجيبا ورتب على كل نعمة تكاليف راجعة إليها، لأن التكليف يكون على قدر التشريف، وما مكننا الله فيه من أنواع الأموال هو من نعمه - جل وعلا - وهو تحت أيدينا لمدة محددة فنحن ننميه ونستثمره ونزيده ما استطعنا في حياتنا فإذا متنا فرقه الورثة فيما بعد، وبدؤوا مشوار الجمع من جديد ثم يفرق ورثتهم ما جمعوه أيضا وهكذا، وقد دعانا الله - سبحانه وتعالى - لأن نقدم لأنفسنا في حياتنا وجعل ذلك قرضا حسنا لله -جل جلاله-، ووعد عليه بالمضاعفة، فقال - تعالى -: {من ذا الذين يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له}، وقال - تعالى -: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وهذه الآية صريحة في أن ما آتانا من أنواع الأموال ليس ملكا كاملا لنا وإنما هو تحت أيدينا نتصرف فيه تصرف الوكيل ينتظر العزل في كل حين، وبذل الإنسان له لإرضاء الله - سبحانه وتعالى - وطلب الثواب لديه له أوجه كثيرة فمنها الإنفاق على المساكين واليتامى، والمحتاجين والمرضى وغيرهم، ومنها صلة الرحم وإعطاء الأقارب ومنها الإنفاق في الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، سواء كان ذلك في الدعوة باللسان أو بالقتال بالسنان، ومنها كذلك الإنفاق على العلم وإبقائه على الأرض، سواء كان ذلك بالإنفاق على طلبة العلم ومعلميه، أو ببناء ما يحتاجون إليه من المساكن أو توفير ما يحتاجون إليه من الآلات أو بطباعة الكتب أو بتوزيع الأشرطة ونشرها أو بإعداد البرامج وغير ذلك مما ينفق فيه المال فكلها أوجه من أوجب الصرف، وهذا الإنفاق إنما يكون قرضا حسنا لله - سبحانه وتعالى - إذا أخلص فيه صاحبه وقصد به وجه الله الكريم، وفعله امتثالا لأمر الله - تعالى -، فالله - سبحانه وتعالى - أمر بالإنفاق في هذه الأوجه السابقة وغيرها، فقد قال الله - تعالى -: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى}، ويقول - تعالى -: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم}، وهذا الإنفاق لا بد فيه كذلك من التوسط والاعتدال بين الإسراف والتقتير فكلاهما مذموم والتوسط بينهما هو الوصف المحمود، وكل فضيلة بين رذيلتين، ولذلك قال الله - تعالى -: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وله آثار كثيرة على النفوس، فمنها أولا أنه مدعاة لتكثير الحسنات وزيادتها، ومدعاة كذلك لتكفير السيئات ومحو أثرها، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.

وكذلك من آثاره في الحياة الدنيا، من آثار الإنفاق في الحياة الدنيا أنه مقتض لإزالة أمراض القلوب عن النفوس، ومقتض لاتصاف الإنسان بالفلاح لقول الله - تعالى -في وصف الأنصار: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}، من يوق شح نفسه أي من وقي البخل فأولئك هم المفلحون، وكذلك من آثاره أنه سبب لتحبيب الإنسان إلى الناس، فمن كان كريما جوادا فهو محبوب لدى الناس جميعا وذلك مما يعالج الحسد فإذا كان غنيا فإن لم يكن جوادا كريما حسده الناس، وإذا كان جوادا كريما أحبوه ولم يحسدوه على ما آتاه الله، ولم يتمنوا زوال نعمته بل أحبوا بقاء نعمته واستمرارها.

وكذلك من آثاره الدنيوية على الإنسان أنه سبب لنزول البركة في عمره وفي ماله فالصدقة وصلة الرحم كلاهما مدعاة لطول العمر ولتجنب الإنسان لموت الفجأة ولميتة السوء، وكلاهما سبب لأن ينسأ له في أثره ولأن يوسع عليه في رزقه، فما من يوم من أيام الدنيا إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: وأعط ممسكا تلفا، وكذلك ينادي منادي الله - تعالى -في كل يوم: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك، والله - سبحانه وتعالى - تعهد بالخلف للمنفقين فقال - تعالى -: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}، وكذلك فإن من آثار الإنفاق الدنيوية أنه أيضا سبب لإزالة الشحناء والبغضاء، ولذلك يقول الشيخ محمد المامي رحمة الله عليه:

ونعطي الحاسدين فيخجلونا

فإعطاء من بينك وبينه ضغينة يطفئ ضغينته ويذهب غل قلبه، وكذلك الإنفاق أيضا سبب لعلو المنزلة في الحياة الدنيا وارتفاع الدرجة لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة واليد السفلى هي الآخذة.

وكذلك فإن من آثار الإنفاق ومحامده الدنيوية أنه أيضا مما يتمدح به ومن الأوصاف الحميدة، فالكريم ممدوح على كل لسان، بخلاف البخيل فهو مبغوض حتى لدى من كان بخيلا مثله، فالبخيل يبغضه جميع الناس حتى البخلاء يبغضونه ويذمونه ببخله.

ومن آثار الإنفاق الأخروية أنه ظل يستظل به الإنسان، فالإنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته فمن مستقل أو مستكثر، وقد ذكر الأعشى حين حضر خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض ما سمع فيها فقال:

أجدك لم تسمع وصاة محمد  * * * رسول الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * * *  ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله * * * فترصد للموت الذي كان أرصدا

والإنفاق كذلك مدعاة للسلامة من أهوال يوم القيامة، فالمتصدقون الذين يكثرون الصدقة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وبالأخص من أخفاها منهم حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، والإنفاق كذلك سبب لعلو المنازل في الجنة، ولذلك قال الله - تعالى -: {إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم أي يعرفون ذلك الحق عليهم في أموالهم فينفقونها، للسائل والمحروم، وهذا الإنفاق له نوعان، نوع منه أصلي في الإنسان فيكون طبيعة فيه وفطرة، ونوع منه مكتسب أي يكتسبه الإنسان ويتعلمه.

فالنوع الأصلي منه لا شك أن كثيرا من الناس يفطرون على الكرم والسخاء، فهم ينفقون ولا يحتاجون إلى تعود على ذلك بل هو من طبعهم وهؤلاء ورد فيهم كثير من الفضل وورد أن الله آخذ بيد السخي، وأنه لن يضيعه، وأما تعلمه فهو كذلك من الصفات الحميدة، والإنسان محتاج إلى ما يحثه على الإنفاق في سبيل الله - تعالى -، ومما يعين الإنسان على تعلم الإنفاق والجود معرفته بما أعد الله لأهله يوم القيامة، وكذلك معرفته بهذه الحياة الدنيا، فإذا عرف الإنسان قيمتها فإنه سيزول عنه الحرص عليها والبخل بها، ولذلك ذكر العلامة محمد مولود رحمة الله عليه في مطهرة القلوب في دواء البخل قوله:

عالج بمن في جمعها قد تعبوا  * * *  دهرا طويلا فحووا ما طلبوا

فبينما هم دارجوا مراقي   * * *  زهرتها إذ هجمت حلاق

حلاق الموت، فإذا تذكر الإنسان أنه إذا حرص عليها وجمعها لن تخلد معه فإما أن يسبقها وإما أن تسبقه، وأن ما أبقاه سيكون مال وارثه، وأن ما قدمه سيكون له هو كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله، قالوا: ما منا أحد إلا وماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر، وهذا المال الذي يبقى مع الإنسان بعد موته هو ما قدمه، أما ما سواه فسيرجع لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا مات ابن آدم صحبه ثلاثة أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله، وكذلك جاء عنه في الحديث أنه قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو قدمت لآخرتك، فالذي للإنسان هو ما استغله من ماله فقط، أما ما أبقاه وراءه لورثته فسيتركه كما قال الله - تعالى -: {وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم}.

 

ومما يعين الإنسان كذلك على اكتساب هذه الصفة الحميدة معرفته بسير الكرماء وأصحاب الجود والسخاء، فمعرفة الإنسان بهم مما يعينه على التخلق بأخلاقهم والائتساء بهديهم، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس ما سئل شيئا قط فقال لا، إن كان عنده أعطاه وإلا رد بميسور من القول، وهذا ما أدبه الله به فقد قال الله - تعالى -: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}.

وقال - تعالى -: {وآت ذ القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا}، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزداد جوده في رمضان كما ثبت في حديث ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة.

ومما يعين الإنسان على الجود كما ذكرنا تطلعه على سير الأسخياء والكرماء وأولهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن معرفة الإنسان بهم وبما كانوا يفعلونه معين له على الكرم ولاكتساب هذه الصفة الكريمة، وعكس ذلك من لا يطلع على سير الكرماء قلما يكون كريما أو كثيرا ما يفوته بعض الكرم والسخاء، ولذلك يقول أحد الشعراء:

 

كأن عبيد الله لم يلق ماجدا   * * *  ولم يدر أن المكرمات تكون

فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا  * * *  وفي كل معروف عليك يمين

إذا جئته في حاجة سد بابه * * *   فلم تلقه إلا وأنت كمين

 

فهنا يقول: كأن عبيد الله لم يلق ماجدا، ولم يدر أن المكرمات تكون، فلقاء الإنسان للماجدين يقتضي منه التحلي بصفاتهم والتخلي عن البخل وسوء العشرة، وإذا تذكر الإنسان فناء ماله وأنه إذا أمسكه تلف كما قال حاتم بن عبد الله الطائي في قصيدته التي يخاطب فيها زوجه ماوية يقول فيه:

أماوي إن المال غاد ورائح  * * *  ويبقى من المال الأحاديث والذكر

فيذكر فيها أن ما ينفقه الإنسان لن يندم عليه، وأن ما يمسكه سيضيع ولن يبقى، وقد كثر ذلك على ألسنة الحكماء فقد قال الشاعر:

 

فإني رأيت الصامرين متاعهم  * * *  يموت ويفنى فارضخي من وعائيا

وهذا التخلق بهذا الخلق كذلك هو من المزايا وهو دليل على عقل الإنسان وقابليته للتطور، وهذا الإنفاق له فوائد اجتماعية كبيرة، ففيه قيام الأغنياء بما جعل الله عليهم من حقوق الفقراء لأن الله جعل الناس ثلاثة أقسام، القسم الأول لم يعطهم ما يقوم بأمورهم فهم عالة على من سواهم وكل على غيرهم، والقسم الثاني آتاهم أكثر من حاجتهم فعليهم أن ينفقوا على المحتاجين، والقسم الثالث آتاهم قدر حاجتهم فعليهم أن يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فإذا أدرك الذين آتاهم الله أكثر من حاجتهم أن عليهم حقوقا لأولئك المحتاجين الذين لا يجدون من يقوم بشؤونهم وليس لديهم ما يكفيهم كان ذلك مدعاة لاتصافهم بالكرم وقيامهم بالحق، وإذا أحس الإنسان بمسؤوليته فلا بد أن يجد وازعه يدعوه للقيام بها، وكذلك فإن الصوم مما يعين على الجود والكرم، لأن الإنسان به يتخلص من شهوات الدنيا وملذاتها، وأيضا يحس بمرارة الحرمان فيتذكر حال المحرومين، كما قال حاتم بن عبد الله الطائي:

 

لعمري لقدما عضني الجوع عضة  * * *  فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا

وهذا الإنفاق له فوائد اجتماعية كبرى، فإن إنفاق الأغنياء على الفقراء يمنع حصول الانحراف في كثير من المجالات، فتفشي السرقة والنهب وكذلك تفشي المسألة في الشوارع، وكذلك تفشي الضياع وتفكك الأسر كله بسبب بخل البخلاء وعدم قيامهم بما عليهم من الحقوق، فإذا أنفقوا فإن حاجة الفقراء ستسد، وحينئذ يكون ذلك صونا لوجوه مبتذلة، ويكون صونا كذلك لبيوت عرضة للتفكك، ويكون صونا للإنسان عن الخداع والاستدانة بالديون التي لا يستطيع قضاءها، أو عن السرقة أو عن نهب المال العام، فهذه من فوائد هذا الإنفاق الاجتماعية.

وكذلك من فوائده الخلقية أن فيه تهذيبا للنفوس وتطهيرا لها من أدران الدنيا وأوساخها، فالإنسان الذي يجمع الدنيا كأنما يوقد نارا كلما ازداد حطبها ازداد لهبها، وإذا أحس بأن الدنيا أصبحت مستغلة له ولم يعد هو مستغلا لها، فلا بد حينئذ أن يستشعر الخطر الداهم الذي يواجهه، وكثير من الأغنياء لا يتذكر ذلك، بل كثير من الأغنياء هم مشغولون بتنمية أموالهم الليل والنهار، فلا يجدون راحة ولا طمأنينة، ولا يتمتعون بشيء من متع الحياة الدنيا لانشغالهم عنها، وإذا أراد الله - تعالى -انتزاع البركة من مال سلط صاحبه على أن يستغل كل وقته في تنميته وجمعه من غير حله ووضعه في غير محله، فيصاب هو بالأمراض التي تمنعه أن يأكل ما يشتهيه وتمنعه كذلك من اتباع شهوته، فلا ينتفع بشيء من ذلك لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة، بل يكون وبالا عليه، فهو ثقيل في الميزان وويل لأصحاب المئين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر عندما ذهب معه فرأى أحدا بين يديه قال: أترى أحدا، قال: أجل يا رسول الله، قال: ما يسرني أن لي مثله ذهبا يمكث عندي ثلاثا لم أفعل به هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله وبين يديه إلا دينارا أدخره لقضاء دين أو نفقة أهل أو أجرة عامل.

وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك خطر المال وأنه خطر على أهله إلا من عمل به هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله وبين يديه، والمقصود بذلك الإنفاق في أوجه الخير المختلفة، وقد تعود كثير من الناس الآن على المسألة، فأصبح كثير من الناس يسألون الناس إلحافا في الشوارع وعلى أبواب المساجد والمكاتب والأسواق، وهؤلاء أيضا هم مخالفون لما أمروا به شرعا، فإذا كان الأغنياء قد خالفوا ما أمروا به من الكرم والسخاء والإنفاق فقد خالف هؤلاء أيضا ما أمروا به من التعفف والزهادة في الدنيا وعدم المسألة، وإذا رأى الأغنياء الحق الذي عليهم فسيسعون لتعمير الأرض والإنفاق فيها، ومن المؤسف أن نجد كثيرا من الأغنياء في بلادنا لا يظنون أن عليهم حقا في كفالة الأيتام ولا بناء المساجد ولا الإنفاق على طلبة العلم ولا يقومون بهذه الأمور وينتظرون من أغنياء العالم الآخر أن يقوموا بها، كأنهم لا يعنيهم شيء من ذلك، فأكثر المساجد في هذه البلاد وفي كثير من البلاد الإسلامية بناها أغنياء من غير سكان هذه البلاد، وكذلك المدارس وكذلك كفالات الأيتام ورعاية الأسر الفقيرة كل ذلك يقوم به أغنياء من غير أغنياء أهل هذه البلاد مع أن المفروض أن يكون أغنياء هذه البلاد أولى بالقيام بذويهم وأهل بلدتهم.

وهذا الإنفاق كما ذكرت يحتاج إلى تعويد، فالإنفاق في أوجه البر لا يتعود عليه كثير من الناس، فنجد كثيرا من الأسخياء والأجواد المعروفين بالجود إنما تعودوا على نوع من الإنفاق فينفقون على أقاربهم وعلى مداحهم وعلى الذين يطرقون أبوابهم ولكنهم لا يفكرون في بناء المساجد ولا المدارس ولا كفالة الأيتام ولا رعاية الأسر الفقيرة ولا النفقة على الفقراء الذين لا يسألون الناس إلحافا، فيبقى كثير من أوجه البر التي يحب الله أن ينفق فيها المال لم ينفقوا فيها مالا لمجرد التعود، لأنهم تعودوا على الإنفاق في شيء معين، ولذلك فإن كثيرا من الناس إذا ذكر الإنفاق الآن تذكر الفقراء الذين يتكففون بالأبواب وسؤال الصدقات ولم يتذكر الأسر الفقيرة المتعففة التي لا ترى بالأبواب ولا تدفع بها.

ولم يتذكر كذلك حال طلاب العلم وحال اليتامى، الذين هم عرضة للوقوع في براثن المؤسسات المفسدة للدين، التي تسعى لتغيير دينهم وتبديله ولإفساد أخلاقهم وهذه المؤسسات تنفق بسخاء في بلاد المسلمين وما ذلك إلا غزو واحتلال من جديد ولكنه ليس احتلالا عسكريا وإنما هو احتلال اقتصادي بالإنفاق على الفقراء وكفالة الأيتام وكفالة الضعفاء وكفالة السجناء وغير ذلك مما تقوم به المؤسسات التي تسعى لتبديل الدين، ولا بد في مقابل ذلك وفي مكافحته من أن ينفق أغنياؤنا وأن يقوموا بالواجب تجاه كل هذه الشرائح وبالأخص الشرائح المحرومة، التي كانت من قبل موكولة إلى عملها، وكانت تزاول بعض الأعمال التي لم يعد لها أثر في حياة الناس ولم يعد ريعها وإنتاجها كافيا للنفقات على الأسر والقيام بمصالحهم.

وكذلك لابد أن يتذكر الأغنياء حال الدافة إذا جاء القحط فجاء أهل البوادي الذين لم يكن لهم إلا بهائمهم وقد ماتت من الجفاف والقحط، فليتذكروا قول الشاعر:

 

هل نحن إلا أناس أهل بادية * * *  ما إن لنا دونها حرث ولا غرر

ملوا البلاد وملتهم وأهلكهم   * * *  حيف السعاة فباد المال والشجر

إلا تداركهمُ تصبح منازلهم   * * * قفرا تبيض على أرجائها الحُمَر

فلذلك لا بد من تذكر حالهم والرحمة بهم والقيام بمصالحهم ومن لا يرحم لا يرحم، والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، نسأل الله أن يشملنا أجمعين برحمته وعافيته، وأن يبارك لنا فيما أعطانا وأن يعيننا على صرفه فيما يرضيه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply