الهدية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الرابطة بين المعلم والمتعلِّم لا يعرف قدرها إلا مَن ذاق حلاوتَها وعايش فُصولَها، ومارس طُقوسَها، إنها لَعلاقةٌ أغلى بكثيرٍ, من علاقة النَّسَب، وأسمى بكثير من رابطة القَرابة!!

لو توَّجوني ملكةً أو نصَّبوني أميرةً، فلن أرضى إلا أن أكونَ معلِّمةً!

منذ ثلاثين سنة وأنا أكتب، ما تسرَّب المللُ إلى قلبي، ولا الوَهن إلى قلمي، كتبتُ على أوراق الدفاتر، وعلى صفحات القلب، على جبين القمر، وضفائر الشمس، عن أعظم مخلوقين عاشا على سطح هذا الكوكب: إنهما المعلِّم والأم!!

في شهر آذارَ تتزاحم المناسبات، وقد جرت العادةُ أن أكتبَ في كلِّ مناسبة كلمةً أُلقيها على الطالبات في الحفل الذي نقيمُه في المدرسة، وحدث أن كتبتُ كلمةً عن الأم، ولم يُتَح لي أن ألقيَها في الحفل العام، وحين دخلتُ الصفَّ، طلبت مني طالباتي أن أقرأَ لهنَّ ما كتبتُ، وهذا ما حدث، وما إن انتهيتُ من قراءة هذه الكلمة حتى طلبت مني إحداهُنَّ أن تأخذَها لتقرأَها على أُسرتها في البيت، استجبتُ لطلبها، وفي اليوم التالي، دخلتُ إلى الصفِّ، فابتدرَتني قائلةً، وهنا أحبٌّ أن أنوِّه أن هذه الطالبةَ كانت من أحبِّ الطالبات إليَّ، كانت ذكيةً، قوية الشخصية، حاضرةَ البديهة، تتمتَّع بالشجاعة الأدبيَّة التي تُعجبني، والتي أُشجِّع طالباتي عليها.

 

قالت لي: (يا معلِّمتي! أنت يجبُ ألا تكوني معلِّمة!!)

فوجئتُ بقولها أيَّما مفاجأة، وخُيِّل لي -للحظة- أنها تَهجوني، وأنها رأت فيَّ شيئًا لم أره في نفسي، ولكن من عادَتي ألا أتسرَّعَ، وأن أقبلَ النقد الموجَّه إليَّ حتى ولو كان من طالبةٍ, صغيرة ما تزال في الصفِّ السابع.

 

صمتٌّ، ونظرتُ إليها نظرةَ استغراب مَشوبة بالدَّهشة، وحاولتُ جاهدةً أن أُلملمَ ذاتي المبعثرة، ولم ألبَث أن سألتُها: ومَن قال لكِ هذا؟؟

أجابت بثقة أقلقَتني: أُسرتي.

قلتُ: وماذا أصلح أن أكونَ إذًا؟

قالت وعيناها تفيضان بحبٍّ, كبير: يجب أن تكوني ملكةً أو أميرةً، وأخذت تخلعُ عليَّ من المناصب والرٌّتَب ما لم أحلُم به في يومٍ, من الأيام.

 

انقشع الهمٌّ عن صَدري، وأحسست أنَّ اعتباري قد رُدَّ إليَّ، فافترَّ ثغري عن ابتسامة..

قلتُ لها، وكان حوارنا ديمقراطيّاً هادئًا، وأمام الطالبات جميعًا: ثقي يا عائدةُ لو توَّجوني ملكةً، أو نصَّبوني أميرةً فلن أرضى أن أكونَ إلا معلِّمة!.

 

كانت لهجَتي مَشوبةً بالصدق والإصرار والإيمان، على الرٌّغم من الرِّعشة التي سَرَت في صوتي، فهدأ كلٌّ شيء حولي، كانت عشراتُ العيون ترنو إليَّ، ولكلِّ عين لغتُها..

وبعد دقيقةٍ, من الصمت قالت: أإلى هذا الحد تحبين عملك؟

قلتُ: بل أكثر، إن مهنةَ المعلِّم أشرف المهنº فالناس جميعاً يتعاملون مع الجمادات والماديات، من المهندس، إلى الحدَّاد والنجَّار... إلا المعلمَ فإنه يتعامل مع الأرواح والعُقول، وهذا أثمنُ شيء يملكُه الإنسان، ألم تسمَعي قولَ الشاعر:

أرأيتَ أشرفَ أو أجلَّ منَ الَّذي يَبني ويُنشِئ أنفُساً وعُقولا؟

 

 

أخلدت محدِّثتي إلى الصمت، ولكني قرأتُ في عينَيها وعيون زميلاتها إيماناً لا حدودَ له بقدسيَّة التعليم وقداسة المعلِّم، وكانت ثمرةُ هذا الإيمان أنها قدَّمت لي هديةً أعتزٌّ بها كثيراً، لم تكن من نوع الماديات، كانت كتاباًº هو الرسالة الجامعيَّة التي نال أخوها بوساطتها شهادةَ التخرٌّج في قسم الصيدلة وقد صدَّرتهُ بالإهداء التالي:

\"إلى الآنسة المحترمة: يُسعدني أن أُشركَك فرحتي بتخرٌّج أخي بإهدائك رسالته حُبّاً وعرفاناً بالجميل، ووفاءً لكلِّ حرف علَّمتِني إياه، مع أطيبِ أُمنياتي لك بالصحَّة والسعادة والهناء. طالبتُك المحبَّة لكِ: عائدة\".

 

وداخلَ صفحات الكتاب طالعَتني وردةٌ حمراءُ ضمَّخ عطرُها أوراقَ الكتاب، وما زالت حتى اليوم كما هي تضمٌّها أوراقُ الكتاب إلى صَدرها بحُنُوٍّ, بالغ، لقد جفَّت تُوَيجاتُها، ويَبست أوراقُها، ولكنَّ عطرَها ما زال يتضوَّعُ ويردٌّني إلى تلك الذكرى العطِرَة التي أعدٌّها نقطةً مضيئةً في حياتي.

 

انتهى العامُ الدراسيٌّ، وكانت عائدةُ الأولى في صفِّها، وبدأت العطلةُ الصيفية وانتهت، ورجعنا إلى المدرسة، دخلتُ الصفَّ وأجَلتُ نظري بين الطالبات فلم أرَ وجه عائدة، سألتُ عنها، فقيل لي: إنها أقامَت مع أُسرتها في الأردُنِّ الشقيقة..

افتقدتُها، وتمنيتُ لو تابعت رحلتَها معنا، ولكني دعوتُ لها بالخير والتوفيق.

 

ومرَّت الأيام، وانقضى شَهران وربما أكثر على افتتاح المدرسة، وبينما أنا صاعدةٌ السُلَّم إلى صفِّي وفي المنعطف طالعني وجهٌ صبوح، إنه وجه عائدة..

اندفعت نحوي تسلِّم عليَّ وتسأل عن أخباري، كان لقاء حارّاً، سألتُها عن أخبارها فقالت: لقد أقمنا في الأردُنِّ، وهذه هي الزيارة الأولى لدمشقَ بعد أن سافرنا، وأول مَن فكَّرتُ أن أراه هو أنتِ، وبعد أن اطمأنَّت كلُّ منا بأخبار الأُخرى ودَّعَتني وذهبت، ومنذ ذلك اليوم لم أرَها.

 

والآنَ بعد مرور اثني عشر عاماً على الحادثة الأولى، وكلَّما جاء عيدُ المعلم، أُخرجُ هديةَ عائدة وأفتحها وأقرأ إهداءها لي، وأشمٌّ رائحة الوردة، وأرى من خلال ذلك كلِّه وجهَ عائدة. إني أُحسٌّ أنَّ رابطةً قوية تشدٌّني إليها، إنها أسمى من القَرابة، وأعظم من الذِّكرى!!....

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply