فصبر جميل (2)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

رأت وكأنها تطوف بالحرم حول الكعبة والناس يطوفون معها وينظرون إلى الملك، وكأنه جالس على كرسي فوق الكعبة، ونور ذلك الكرسي ممتد إلى عرش الرحمن، وإذا بالشوق يجذبها لرؤية ذلك الملك، وعندما صعدت لتنظر إليه إذا به الشيخ عبد الله المطوع عليه رحمة الله يوزع أوراقاً بيضاء.

هكذا بشرتنا هذه المرأة الصالحة برؤياها في والدي الصالح، الذي لم تزل يده البيضاء توزع الخير للناس حتى بعد موته..والله إنه لفخر لذلك الملك الذي ملك قلوب الناس، وأسس بها مملكة من البر والإحسان، ولم يقتصر هذا البر على نوع واحد كالصدقات والتبرعات وفعل الخيرات بل تنوع وأصبح يصل إلى أدق أنواع البر بكل تفرعاته وأدقها تفصيلاً.

تعال معي نجول ونصول مع ذلك الملك في أرجاء تلك المملكة التي أسسها، وإني لأجدني وأجدك كأننا نذهب مع والدنا في أحد معارض شركة علي عبد الوهاب ينصحك باختيار هذا النوع من الأثاث، ويفرحك ببناء معرض جديد للشركة ويبشرك بوصول دفعة جديدة من المفروشات من الصين، أمسك يده وكأنك تعيش معه في تلك اللحظات تجد نفسك وكأنك تعيش مع ذلك الملك وهو في قبره بل ستجده حياً في مواقفه وأبنائه وذرياته وأعماله من بعده.

أشهد أنني وجدت هذا الرجل باراً بوالديه، باراً بأهله وأبنائه وإخوانه، باراً بكل ما خلق الله، بره يصل إلى أعلى منازل البر وتجده دقيقاً في تفاصيل بره التي لا تكاد ترى أحداً بمثل هذا البر وستشهد أنت بنفسك بصحبتنا أنا ووالدي في هذه المملكة.

 

اسم الشهرة

اشتهر عبد الله العلي المطوع باسم العم \"أبو بدر\"، وذلك أنه لم يسع جاهداً لإشهار اسمه ولكن عمله الذي كان يفعله هو الذي شهره.. ومن خلال عملي معه في الشركة مديراً لأعماله الخاصة لم أسمع أحداً يقول له \"عبد الله المطوع\"، بل كانوا ينادونه باسم \"علي عبد الوهاب\" على اسم الشركة التي حملت اسم أبيه وفاء له.

هذه الشركة التي كانت مفتاحاً لبره بأهله وإخوانه وأخواته وأبناء إخوته، حيث أسسها من البداية وجعل إخلاصه في الحفاظ على أموال الأيتام إخوته وهم صغار وكبار، وكانت دقته في هذا البر على حسب ما يرويه لنا: \"ابني حتى استكانة الشاي ادفعها من جيبي الخاص\"، وعندما كنت أذهب معه إلى الجمعية كان يشتري الشاي والكابتشينو وغيرهما ويضعه في كيس خاص ليعطيه للفراش في مكتبه حتى لا يتحمل شركاؤه في الشركة تكلفة ما يشربه هو وضيوفه.

وكذلك في العمل الدعوي والخيري اشتهر باسم \"العم أبو بدر\"، وكان يفرح بهذا اللقب عندما يناديه به الناس وكبار الشخصيات.

وكنت كثيراً ما أمازحه بهذا الاسم، فأدخل عليه في مجلس ضيوفه وأقول له وهو غير منتبه: \"حيّا الله العم أبو بدر\"، فكان ينهض واقفاً معتقداً أنني ضيف، وعندما يفاجأ بأنني ابنه الصغير يضحك ويقول لي: الله يهديك.

وإن هذا النوع من الإخلاص في إظهار اسم عمله أو إظهار العمل الدعوي الذي يقوم فيه على حساب اسمه لهو من أدق أنواع البر الذي سعى إليه عبد الله المطوع.

 

بره بوالديه

وهنا تعظم شخصية ذلك الرجل عندما أروي لكم إحدى قصص إذلاله نفسه لوالديه، وما هو بإذلال بل هو تطبيق لقوله - تعالى -: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة(الإسراء: 24)، كان يروي لنا عن نفسه في تعامله مع والده أثناء نومه، يقول: \"كنت أمشي على أطراف أصابعي حتى لا أزعجه براً به\".

وأما مع والدته فكان كثير الحب لها شديد التعلق بها مطيعاً لها في كل أموره، وكان لا يرد لها طلباً، وكان يفضلها على جميع مصالحه. فكان يحدثنا كيف كان يصبر عليها ويبرها حتى عندما وصل إلى سن الأربعين من عمره، وإذا بوالدته تعاتبه على أمر من الأمور، فقال لها وبكل أدب: \"أمي ها أنا قد بلغت سن الأربعين فخففي عليّ قليلاً\"، ومن هنا ابتسمت له، وأدركت أن ابنها الصغير الذي تعاتبه أصبح رجلاً في الأربعين من عمره.. وكان يقول لي: ابني.. ما قرن الله شكره بشكر أحد إلا الوالدين وتتعدد قصص بره بوالدته حيث إنه كان يأخذني معه إلى المقبرة عندما يزورها فكنت أعجب له، كيف كان يستدل على القبر من كل تلك القبور المتساوية في الشكل وفي الحجم؟! ولكن حبه لها كان دليله إلى قبرها. ولكثرة وصله لها حتى بعد مماتها، أصبح يصل جدته لأمه الكبيرة في السن وكان في كل يوم جمعة يأخذنا معه لزيارتها، وكانت تفرح فرحاً شديداً به، وكان عندما يعود من سفره وقبل الوصول إلى بيته لابد أن يزورها أولاً ثم يذهب إلى البيت. هكذا كان مع جدته لأمه.

أما عن بره بأبيه فقد تعداه ليصل زوجة أبيه وأم إخوانه، وكان يزورها دائماً، وفي كل المناسبات كان يتصل بي أثناء سفره، وعندما تصل الفاكهة من بيتنا في عمان يقول لي: \"ابني طرش لأم فيصل ماعون تفاح وماعون خوخ، وطرش حق عماتك بعد\" نعم، صدى تلك الكلمات لم يزل في أذني، بل أثرها في قلبي، وأصبح هو قدوتي في وصلي لأم إخواني (أم بدر) ي- حفظها الله -. وكانت \"أم بدر\" تقول لأبي: \"اسأل الله أن يجعل أبناءك فيمن يصلني كما تصل زوجة أبيك\"، وبالفعل كنا لها كذلك براً بها ولأبينا وحباً في إخوتنا وأمهم وقدوة وتأسياً بأبينا عليه رحمة الله.

كان واصلاً لجميع رحمه من أبيه وأمه، باراً بهم عليه رحمة الله، بل من شدة بره بهم أصبح يبني لهم المساجد والمدارس والآبار ويجعلها باسمهم، وينوي أجرها لهم.

ومن باب بره بأبيه حيث كان وصياً على ثلث أبيه علي عبد الوهاب - يرحمه الله - قام بتنمية ذلك الثلث مع تنمية أموال شركته مع إخوانه، فنمى الخير وأصبح ثلث علي عبد الوهاب ثاني أكبر وقفية في الأمانة العامة للأوقاف.

وكذلك من باب بره بأموال إخوته لم يجعل له أي شركة خاصة لإدارة أمواله الخاصة، بل كل ما يأتيه من أموال يجعله في عقارº حتى لا تلهيه هذه الأموال عن إدارة وتنمية حلال إخوته.

 

بره بوالدتي (أم عبد الرحمن)

نعم، ذلك الرجل صاحب المشاغل ورجل الأعمال ورجل الدعوة، لم يلهه ذلك عن بره بأمي، بل كان يغرس فينا حبه لأمنا وحبنا لها وبرنا بها، وكان - يرحمه الله - معجباً بشخصيتها في حب الخير والتبرع للمساكين، فما بالك بالكريم عندما يثني على الكريمة.. وبأمير المحسنين في هذا القرن يثني على محسنة من أهله!! وكان - يرحمه الله - يناديها ب \"أم الخير\"، وأمرني أن أجعل هذه التسمية لها في جهاز هاتفه النقال.

وفي أحد الأيام كنا نتناول الغداء كعادتنا، فجاءت أمي تشمر عن أكمامه حتى لا تتبلل بالطعام، وعندما كانت تفعل ذلك كانت تحجب في الوقت نفسه نور أشعة الشمس الذي قد دخل من النافذة، فأنشد لها قائلاً:

جاءت تظللني من الشمس * * * نفس أعز عليّ من نفسي

جاءت تظللني فوا عجباً * * * شمس تظللني عن الشمس

كان دائماً - يرحمه الله - ينشد الأبيات في مدحها تارة، وفي التغزل بها تارة، وفي معاتبتها تارة، فكان يقول لها شعراً يداعبها به، وقد حفظته عنه:

أغرّك مني أن حبك قاتلي * * * وأنك مهما تأمري القلب يفعل!

وفي ذات يوم جئته فرحاً على الغداء بحفظي لأحد أبيات عنترة، وقلت له:

يقولون سواد الجبين ذميمة * * * ولولا سواد المسك ما كان غاليا

فلم يمهلني دقيقة واحدة حتى أنشد قائلاً في مدحها وهو ينظر إليها:

يقولون بياض الجبين ذميمة * * * ولولا بياض الدر ما كان غاليا

هكذا بره بها في حياته - يرحمه الله - وكان يبر إخوتها وأباها وأمها، ولسان حاله \"لأجل عينك ألف عين تكرم\".

وبعد وفاة والدها قدم لها هدية يدخل بها السرور عليها، ألا وهي شهادة بناء مسجد باسم والدها في إحدى القرى الإسلامية. وكان - يرحمه الله - يقر ويعترف قائلاً: \"لا أحد يصبر عليّ مثل والدتكم ومدير مكتبي\".

 

بره لأبنائه

إنني أتحدى العالم كله ببر أبي لنا عندما قال لي: \"ابني تطمن ما في ولا مليم ربا أو فلس حرام دخل بطونكم\"، هكذا كان يبرنا - يرحمه الله - في أن نأكل لقمة عيشنا من حلال، وإني لأجدها من أعظم ما برنا به - يرحمه الله -.

كان - يرحمه الله - حريصاً على اختيار أسمائنا، فبرّ بها ربه تارة، وأبدع فيها تارة، وبرّ فيها والده ووالدته وأخته تارة أخرى. ولم يقتصر بره علينا، بل تعدى إلى زوجاتنا وأبنائنا، فكان - يرحمه الله - يصرف إعاشات شهرية لنساء أزواج أبنائه المتوفين، وأيضاً يصل ذلك إلى أن يصرف إعاشات شهرية للمطلقات منهن، ويقول لي: \"ابني.. لازم نهتم فيهمº لأنهم ما لهم غيرنا\".

وهكذا هو حاله في كل شهر، وفي يوم الجمعة وعندما يذهب إلى زوجاتنا، ويقول لزوجتي ومن معها: \"بناتي الدينار يونّس\"، فيضحكن ويوزع لهن المقسوم، فكانت فرحتهن بهذه العطية كفرحتهن بأحد أبنائهنº لأنها خرجت من يد خيّرة وبنفس جميلة وراضية. وكذلك هو حاله مع أبنائنا يداعبهم ويأنس بهم، وكذلك كان يفعل معنا عندما كنا صغاراً، وإنني ما زلت أتذكر تلك الأيام في صغرنا في العيد، فكان يكرمنا بعيدية كبيرة، ويقول: \"حتى لا تحتاجون عيدية من أحد\".

 

بره بأحبابه

وقد اتسع معنى هذه الكلمة باتساع معارفه، فكان كل من في الأرض أحبابه حتى من الحيوانات والنبات، فكان له في كل بلد مجموعة من الأحباب والأصحاب يزورهم، ويحثنا على التواصل معهم والبر بهم. وأخشى أن أذكر اسم أحد وأقصر في حق الآخر. كان يفرح باللقاء بهم ويحرص على دعوتهم في كل المناسبات، وكان حريصاً على التواصل معهم والوقوف معهم وقت الأزمات.

وإننا نعجب عندما أحدثكم عن بره بعش \"نمل\" يعيش في بيته بالطائف.. كان ينهانا عن إيذائه، بل ويجلب لهم السكر ويضعه بجوار جحرهم حتى يأكلوا منه، وأعتقد أن هذا النمل سيفتقده الآن. وكذلك تعجب عندما عزم السفر إلى إحدى الديار أعطاني مائة دينار حتى أشتري بها طعاماً للقطط التي كانت تعيش في بيتنا، ولا تعجب عندما أحدثك عن حبه للنخل، وحرصه على سقيها وقطف ثمرها، ليس ليأكلها فقط، بل كان شغله الشاغل هو توزيعها في شهر رمضان لأحبابه وأقاربه، وقبل وفاته بيومين اتصل علي من أبها وقال لي: \"ابني جهّز البرحي وانقله كله إلى بيتي حتى نوزعه ونأكل منه في شهر رمضان\"، ولكن وفاته حالت بينه وبين مشتهاه.

وكذلك لا ننسى بره بأهل مسجده الذي يصلي فيه، فكان - يرحمه الله - يدعوهم في كل مرة يكون عندنا ضيوف في البيت على الغداء، وكان في كل جمعة ينتقص لإمام المسجد من طعام البيت، بل كان يأخذه معه إلى الجمعية لشراء حاجاته، وهذا هو حاله مع جيرانه، فكما يطلب للبيت (المستلزمات الاستهلاكية) من شركة علي عبد الوهاب كان يحضر لجيرانه مثله، ولم يجعل باباً من أبواب البر إلا دخله.

وتعالوا نستمع إلى حديثه عندما عاد من عملية أجراها في ظهره في ألمانيا، وكانت كل الأسرة قد اجتمعت في بيته لتهنئه بعودته، فكان يحدثنا عن رحمة الله وعفوه، وذكر لنا حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم-: \"أنا عند ظن عبدي بي... \"، فقال في نهاية كلامه: \"أبشروا بلقاء رب غفور رحيم، أبشروا بلقاء رب غفور رحيم.. والله بناتي أبنائي ما دخلت مقبرة إلا وقلت لأهلها: أبشروا بلقاء رب غفور رحيم\".. نعم وإلى أهل المقابر وصل بر ذلك الملك ليختم مملكته فيها، ونحن نقول لك أيها البار: أبشر بلقاء رب غفور رحيم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

رد

-

ابو عبدالله

16:02:19 2016-06-28

الله يرحمه العم ابو بدر صاحب الايادي البيضاء والعمل الخيري الكبير