أرباب الأعمال .. بين المظلمة والإحسان


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقالي يكاد أن يكون قصة، قصة حقيقية، عرفتها وتحققت من صحتها، بطلها أحد المهندسين بالقاهرة يمتلك مصنعا لتقطيع الرخام، زينت فضائله حديثي مع جاري وآخرين..

وبينما نحن جلوس نتجاذب أطراف الحديث إذ لاحظت كيف أنهم يعددون مواقف وفضائل وإنسانية وخيرية وتواضع ذلك المهندس أو رب العمل صاحب ذلك المصنع، وكيف أنه ملتزم بأحكام ربه متق له في حركاته وسكناته وتفاعلاته مع العاملين لديه- نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله- فبهرني هذا النموذج لرب العمل الذي صار عملة نادرة في زمان طغت فيه المادة وملأت مناخ الأعمال.. فأردت تدوين ذلك وجعلها رسالة لكل صاحب عمل.

إنه نموذج يفرض علينا أن يتوقف رب كل عمل ويسأل نفسه: ما هي مساحة الإنسانية والأخلاق الإسلامية في إدارته لأعماله؟ وهل يحتاج إلى إعادة نظر في مكونه التربوي الإسلامي؟ وكيف يعامل العاملين لديه؟ وماذا يقولون عنه في غيبته؟ وهل يدعون له أم عليه؟ وهل يحقدون عليه وعلى ماله وعياله ويحسدونه أم يدعون له بالبركة والنماء؟ وهل يعرف شيئا عن أحوال عماله ونفسياتهم وعائلاتهم؟ أم أنهم بالنسبة له كالماكينات والمعدات؟ وهل يشاركهم أحزانهم وأفراحهم وهمومهم أم أن كل ذلك لا يعنيه؟ وهل من الممكن أن يكون عماله هم طريقه للجنة أو النار؟.

إنه نموذج يفرض علينا أن يتوقف رب كل عمل ويسأل نفسه: ما هي مساحة الإنسانية والأخلاق الإسلامية في إدارته لأعماله؟

أسئلة كثيرة يظن رب العمل أنها ليست لها علاقة بعمله وتميزه، لكنها جميعها تسهم في رقيه على المستوى المهني والشخصي فيكسب بإذن الله في الدنيا والآخرة.

بدورنا سنحاول تقديم نموذج المهندس المصري كمرآة لأرباب الأعمال يراجعون من خلالها علاقاتهم بعمالهم. ويتأملون كيف التزم هذا المهندس بأحكام الشريعة الإسلامية في التعامل مع العمال، فتطاير ذكره بالخير وبورك له في عمله.

 

* * وأركان هذا النموذج يمكنها أن تأخذ الصورة التالية:

أولا: عمل المهندس المصري لمدة خمسة عشر عاماً في شركة من أكبر شركات البترول في العالم، والموجودة بمنطقة الخليج، ليفتتح بعدها مصنعه هذا. وبالتالي فإن رأس المال واضح وليس في ظاهره شبهة السرقة أو النهب من البنوك وقروضها.

والأصل في أي مشروع يريد صاحبه الفلاح أن يكون المال صالحاً يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم المال الصالح للمرء الصالح) رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.

فليراجع رب كل عمل أصل ماله ولينظر فيه ويتأمل ويسأل نفسه هل هو صالح أم به شبهة؟ وهو وحده من يستطيع أن يجيب ويصحح مساره قبل فوات الأوان.

ثانيا: بنى مسجداً بجوار مصنعه، ويوقف العمل بالمصنع أثناء الصلوات ليخرج جميع العاملين بالمصنع لأداء الصلاة في وقتها.

وهنا امتثال للهدي النبوي في جزاء من يبني مسجداً لله فكما في الصحيحين عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة)، وهذا الهدي النبوي فرصة سانحة لكل رب عمل مقتدر أن يجعل جزءً من ماله لبناء مسجد، إضافة إلى أعماله الخيرية الأخرى من بناء المستوصفات الطبية ودور إطعام المساكين والمعاهد الدينية والمكتبات الشرعية وغير ذلك.

أيضاً فإن طبيعة العمل الاستثمارية لم تبرر لرب العمل تأخير الصلاة التي لا يجوز التهاون فيها حتى أثناء الجهاد، وأسفاً نجد أعمالاً كثيرة في ديار المسلمين لا تعتد بأداء الصلوات في أوقاتها، والسبب في ذلك راجع لرب العمل الذي لا ييسر هذا الأمر، ويواجه العامل الرافض لهذا الوضع كثيراً من العنت والصعوبات.

 

أسئلة كثيرة يظن رب العمل أنها ليست لها علاقة بعمله وتميزه، لكنها جميعها تسهم في رقيه على المستوى المهني والشخصي فيكسب بإذن الله في الدنيا والآخرة.

 

ثالثا: لم يبخس المهندس أجور العمال، فالحد الأدنى للعامل في اليوم مرتفع بصورة واضحة، وقبض الراتب يوم الخميس من كل أسبوع بانتظام تام، والدوام من الساعة التاسعة صباحاً إلى السادسة مساءً، يتخللها ساعة للراحة والغداء، ومطلوب من العامل إنجاز تقطيع عشرة أمتار رخام يومياًº

يقول جاري: ننتهي منها قبل الرابعة، حيث يحفزنا رب العمل بأن ما ينجز بعد ذلك سيخضع للحساب بالإنتاج، فنقبل على العمل بحماس شديد رغم صعوبة العمل، وينجز معظمنا في الوقت المتبقي خمسة أمتار ليحصلون علي خمسين بالمائة من أجر اليوم المتفق عليه، ومن يريد أن يقوم بوقت إضافي وهؤلاء قليل خاصة أنه لا يقوم به إلا من يحتاج، فإن الوقت الإضافي يكون من السادسة إلى التاسعة مساءً ويحاسب على أجر يوما كاملا.

ولا تعرف الخصومات المالية طريقاً عند هذا المهندس، فهناك خطوط حمراء من يقترب منها يسرح من عمله فوراً دون شفاعة وذلك بعد صرف مستحقاته كاملة، تلك الخطوط هي (السرقة سوء السلوك- السباب ترك الصلاة- الغش- التدخين) وما دون ذلك فالموعظة اللفظية بالتي هي أحسن هي منتهى العقوبة عنده.

وهنا واضح تماماً امتثال رب العمل للأمر الرباني في عدم بخس الناس أشياءهم يقول -تعالى-: (وَيَا قَومِ أَوفُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأرضِ مُفسِدِينَ)، كما أن في ذلك ذكاءً استثمارياً فأسلوب المحفزات المالية وكذا أن يجد العامل تقديراً مالياً ومعنوياً على أدائه، كل ذلك يصب في كمية وجودة المنتج بما يعود في النهاية بالربح على رب العمل.

كذلك فإنه عدم البخس والحرص على تقدير العامل يرفعان من الروح المعنوية له، مما يولد لديه الشعور بأنه من أصحاب المصنع وأنه يعمل في ماله وبالتالي يكون عنده نفس حرص رب العمل على المصنع.

والمراقب لكثير من الأعمال يلمس جيداً انتهاج بعض أرباب الأعمال لمنهج البخس ويكون هذا المنهج داخلاً في مكونهم النفسي وينعكس على كافة تصرفاتهم المهنية، وذلك ظناً منهم أن هذه(شطارة ربحية)، يحققون بها مكاسب مالية على حساب العمال، فنجد البخس في التعاقد، و في الخصومات وتحويل كافة العقوبات والجزاءات إلى خصومات من راتب العامل المبخوس في الأساس، بل نجد الشح الواضح في الأعمال الإضافية ليشعر العامل أن هذا واجب والتزام عليه مما يجعله يلفظ العمل الإضافي.

رب العمل الشحيح هذا تسير معه سفينة العمل، ويظن بذلك أنه ناجح لكنه على الطرف الآخر نجده يخسر الكثير، فليس هناك الجودة والكفاءة في العمل وليس هناك الحرص على رب العمل وماله من قبل العمال، وفي أقرب فرصة تستجد للعامل نجده يقذف رب العمل خلف ظهره ولا يبالي، ليجد رب العمل بعد ذلك أن من تميز وأبدع في مكان آخر كان يوماً ما عنده وكانت كفاءته عادية.

ويتساءل متعجباً لماذا تخلى عنه الجميع ولماذا أبدعوا عند غيره ولم يبدعوا عنده؟.

رابعا - الإكرامية: هناك عرف داخل مصنع المهندس المصري وهو ما يعرف بالإكرامية الأسبوعية توضع في مظروف الراتب المغلق، وهي تختلف من عامل لآخر، فهي عطاءً من رب العمل يغتنم فيه الفرصة لإكرام أصحاب الحالات الخاصة من العاملين عنده، وكذا إشراكاً منه للعاملين في أرباح مبيعات هذا الأسبوع. وفي ذلك مزيد من الألفة في مناخ العمل، وتوليد شعور فعلي بأن المصنع يملكه جميع العاملين فيه، فيعود العمال من أجازاتهم النصف شهرية، بإقدام وتلهف على العمل.

خامسا: الحال مع الديون: حدثني جاري أنه احتاج يوماً ما لمبلغٍ, من المال لإكمال جزء من بناء منزله، فذهب لرب العمل وطلب منه نصف ما يحتاجه، فسأله عن كلفة ما سينفقه فعرفه أنه الضعف وأنه يدخر النصف الباقي، وسأله عن طريقة السداد، فحدد العامل جزءً يخصم من راتبه أسبوعياً، فأخبره رب العمل أنه سيقرضه المبلغ كاملاً أي ضعف ما طلب العامل قرضاً حسناً، وبعد فترة من جدية السداد وبعد أن سدد العامل 60% من القرض وقف الخَصم وبمراجعته لرب العمل أخبره أنه أسقط عنه الأربعين بالمائة الباقية وأن هذا المبلغ هدية منه لعياله.

وكذلك الحال مع باقي العمال. وهكذا نجد رب العمل يقف بجوار عماله في أوقات احتياجاتهم، ويبتعد عن التعامل بالربا، بل ويعطيهم أكثر مما يحتاجون، ويكرمهم بإسقاط الدين عنهم. وإسقاط الدين ينجي من كرب يوم القيامة فعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه طلب غريماً له فتوارى عنه ثم وجده فقال إني معسر قال آلله قال آلله قال فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه رواه مسلم وغيره ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح وقال فيه من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة وأن يظله تحت عرشه فلينظر معسراً.

سادسا: العامل الذي يمرض أثناء العمل إن كانت الحالة بسيطة، طُبب وجلس ليستريح ثم يعاود عمله، وإن استدعي الأمر مراجعة الطبيب يكلف رب العمل أحد أفراد الأمن بمصاحبة العامل إلى الطبيب، ويأمر له بالراحة، ويسير راتبه كما هو حتى يعافى تماماً. وهنا تعامل مع إنسانية العمال وأن صحتهم عند رب العمل أهم من العمل ذاته، مما يولد الطمأنينة لديهم.

سابعا: في بداية كل عام دراسي يعطي رب العمل لكل عامل ما يكفي لشراء مستلزمات أبنائه الدراسية من ملبس وأدوات وكتب.

ثامنا: عند نزول العامل لأجازته النصف شهرية يطلب ممن سيسافر أن يتوقف عن العمل يوم الخميس في الساعة الثانية ظهراً حتى يدرك أسرته قبل المساء، ويحاسب على أجر يوم كامل، بل ويعطي رب العمل لكل مسافر منهم مبلغاً من المال في كل أجازة يقول له: اشتر بهذا المال فاكهة تدخل بها على أبنائك وإياك أن تنفقه في غير ذلك.

النقطتان السابقتان توضحان حرص رب العمل على أن يدخل السرور على أهل بيت العامل فيحظي بدعواتهم، وكذلك فإن في ذلك رسالة معنوية بأن رب العمل يحرص على أسرة العامل كحرصه، مما يجعل العامل يحرص على رب العمل ومصنعه.

تاسعا: يخرج رب العمل ظهيرة كل يوم بمظهره المتواضع ليشتري للعمال بنفسه كمية من الفاكهة المحببة إليهم، ويدخل السرور عليهم بها، كما أن أهل بيته يجهزون الطعام بكميات كبيرة مرتين أو ثلاثا في الأسبوع للعمال، وذلك ليطعمون مما يطعم بيته، وفي شهر رمضان المبارك يأتي لهم بالطعام من بيته كل يوم ويفطر معهم أياماً عديدة من رمضان، ويأمرهم بإطعام أي فقير يطرق باب المصنع في أي وقت. ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم كأنه واحد منهم.

وهكذا نجد هذا الغني صاحب العمل - قد جمع ماله واستعمله في الخير ولم يستعبد عماله، فتطاير ذكره، وحظي بدعوات جاري وكذا دعوات أبنائه وأهله، والدعوات المستمرة من كل عماله المسافرين، ونحسب أن في خفاء المهندس خيراً كثيراً.

يقول ابن الجوزي - رحمه الله - \" من قصد جمع المال والاستكثار منه من الحلال فلينظر في مقصوده، فإن قصد المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح، أثيب على قصده وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات\". نسأل الله أن يحسن مقصود رب كل عمل باستعمال ماله في مرضات ربه - سبحانه وتعالى -.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply