التواضع وخفض الجناح للمؤمنين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عن أسلم مولى عمر: أن عمر لما دنا من الشام تنحى ومعه غلامه، فعمد إلى مركب غلامه فركبه وعليه فرو مقلوب، فحول غلامه على رحل نفسه، وإن العباس بين يديه على فرس عتيق وكان رجلاً جميلاً فجعلت البطارقة يسلمون عليه فيشير لست به وإنه ذاك.

عهد عمر إلى حذيفة ولاية المدائن فقال: اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم، فخرج من عند عمر على حمار موكف تحته زاده، فلما قدم استقبله الدهاقين وبيده رغيف وعرق من لحم.

قال يونس بن حلبس: رأيت معاوية في سوق دمشق على بغله، خلفه وصيف قد أردفه عليه قميص مرقوع.

عن الشعبي قال: قدم علينا أبو سلمة بن عبد الرحمن فكان يمشي بيني وبين رجل، فسئل عن أعلم من بقي، فتمنع ساعة ثم قال: رجل بينكما.

كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه ولا يخطر بها.

وقيل: كان علي بن الحسين إذا سار في المدينة على بغلته لم يقل لأحد الطريق ويقول: هو مشترك ليس لي أن أنحي عنه أحداً.

عن ابن وهب: حدثنا مالك عن يزيد بن رومان عن سالم بن عبد الله أنه كان يخرج إلى السوق في حوائج نفسه، واشترى شملة فانتهى بها إلى المسجد، فرمى بها إلى عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز فحبسها عنده ساعة ثم قال: ألا تبعث من يحملها لك؟ فقال: بل أنا أحملها، وحدثني مالك قال: كان ابن عمر يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم دهرَه يشتري في الأسواق، وكان من أفضل زمانه.

قيل: كان سالم بن عبد الله يركب حماراً عتيقاً زرياً، فعمد أولاده فقطعوا ذنبه حتى لا يعود يركبه فركبه وهو أقطش الذنب فعمدوا فقطعوا أذنه فركبه ولم يغيره ذلك ثم جدعوا أذنه الأخرى، ومع ذلك يركبه تواضعاًَ واطراحاً للتكلف.

عن جبير بن مطعم قال: تكونون في التيه وقد ركبت الحمار، ولبست الشملة، وقد حلبت الشاة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من فعل هذا، فليس فيه من الكبر شيء).

عن الأعمش قال: جهدنا أن نُجلس إبراهيم النخعي إلى سارية وأردناه على ذلك فأبى، وكان يأتي المسجد وعليه قباء وربطة معصفرة قال: وكان يجلس مع الشرط.

عن ميمون أبي حمزة الأعور قال: قال لي إبراهيم النخعي: تكلمت ولو وجدت بداً لم أتكلم، وإن زماناً أكون فيه فقيهاً لزمان سوء.

عن خالد بن معدان قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله مثل الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أحقر حاقر.

قال ابن عون: كان محمد بن سيرين من أشد الناس إزراء على نفسه قال مالك: كنت آتي نافعاً وأنا حَدثُ السن، ومعي غلام لي فيقعد ويحدثني، وكان صغير النفس وكان في حياة سالم لا يفتي شيئاً.

عن مالك: كنت آتي نافعاً مولى ابن عمر وأنا غلام حديث السن فينزل ويحدثني، وكان يجلس بعد الصبح في المسجد لا يكاد يأتيه أحد فإذا طلعت الشمس خرج، وكان يلبس كساء وربما وضعه على فمه لا يكلم أحداً، وكنت أراه بعد صلاة الصبح يلتف بكساء له أسود.

لما فرغ عمر بن عبد العزيز من دفن سليمان بن عبد الملك أُتى بمراكب الخلافة فقال: دابتي أرفق لي، فركب بغلته، ثم قيل: تنزل منزل الخلافة، قال: فيها عيال أبي أيوب(يعني سليمان) وفي فسطاطي كفاية، فلما كان مساء تلك الليلة قال: يا رجاء ادع لي كاتباً، فدعوته فأملى عليه كتاباً أحسن إملاء وأوجزه وأمر به فنسخ إلى كل بلد.

قال ابن جابر: أقبل علينا يزيد بن عبد الملك على مجلس مكحول فهممنا أن نوسع له فقال: دعوه يتعلم التواضع. دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين إن من قبلك كانت الخلافة لهم زيناً وأنت زين الخلافة، فأعرض عنه.

قال رجل لعمر بن عبد العزيز: جزاك الله عن الإسلام خيراً. قال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً.

بينما عمر بن عبد العزيز يتغدى إذ بصر بزياد مولى ابن عياش فطلبه ثم قعد وقال: يا فاطمة، هذا زياد فاخرجي فسلمي، هذا زياد عليه جبة صوف وعمر قد ولي أمر الأمة وبكى، فقالت: يا زياد، هذا أمرنا وأمره، ما فرحنا به، ولا قرت أعيننا منذ ولي.

اجتمع الشعبي وأبو إسحاق السبيعي فقال: له الشعبي: أنت خير مني يا أبا إسحاق. قال: لا والله بل أنت خير مني وأسن.

عن أيوب السختياني قال: إذا ذُكِرَ الصالحون كنتُ بمعزل عنهم.

قال أيوب السختياني: ذُكِرت ولا أحب أن أذكر.

قال حماد بن زيد: كان لأيوب السختياني برد أحمر يلبسه إذا أحرم، وكان يعده كفناً وكنت أمشي معه فيأخذ في طرق إني لأعجب له كيف يهتدي لها فراراً من الناس أن يقال: هذا أيوب.

قال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب لحاجة فلا يدعني أمشي معه يخرج من ها هنا وها هنا لكي لا يُفطن له.

قيل: اشتكى رجل من ولد محمد بن واسع إليه فقال لولده: تستطيل على الناس وأمك اشتريتها بأربعمائة درهم، وأبوك لا كثرَ الله في المسلمين مثله.

عن الأعمش قال: ما ظنكم برجل أعور عليه قباء وملحفة موردة جالساً مع الشرط - يعني إبراهيم النخعي-.

أن بونس بن عبيد قال: إني لأعد مائة خصلة من خصال البر ما في منها خصلة واحدة.

كان لعبيد الله بن عبد الله أخ اسمه عبيد الله وكان يهابه ويجعله ويمتنع من الرواية مع وجود عبيد الله فما حدث حتى توفي عبيد الله.

كان عبد الله بن عون لا يدع أحداً من أصحاب الحديث ولا غيرهم يتبعه، وما رأيته يماري أحداً من أصحاب الحديث ولا غيرهم يتبعه، وما رأيته يماري أحداً ولا يمازحه، وما رأيت أملك للسانه منه ولا رأيته دخل حماماً قط، وكان له وكيل نصراني يجبي غلته، وكان لا يزيد في شهر رمضان على حضوره المكتوبة ثم يخلو في بيته.

قال خلف بن تميم: رأيت الثوري بمكة وقد كثروا عليه فقال: إنا لله، أخاف أن يكون الله ضيع الأمة حيثُ احتاج الناسُ إلى مثلي.

قال ابن معين: كان (المفضل بن فضالة) رجل صدق إذا جاءه من كسرت يده أو رجله جبرها، وكان يعمل الأرحية.

قال علي بن المديني: كان سفيان الثوري إذا سئل عن شيء يقول: لا أُحسِن، فنقول: من نسأل؟ فيقول: سَلِ العلماء وسَلِ الله التوفيق.

عن ابن المبارك قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه، يصير عند نفسه أذل من كلب.

قال سفيان بن حرب: كان جرير بن عبد الحميد، وأبو عوانة يتشابهان في رأي العين، ما كانا يصلحان إلا أن يكونا راعي غنم، وقد كتبت عن جرير بمكة.

وسئل يوسف بن أسباط الزاهد: ما غاية التواضع؟ قال: أن لا تلقى أحداً إلا رأيت له الفضل عليك.

قال إبراهيم الحربي: قلت للإمام أحمد: من أين لك هذه المسائل الدقائق؟ قال: من كتب محمد بن الحسن.

عن علي بن خشرم: سمعت وكيعاً يقول: لا يكمل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه.

وقال رسته: قام ابن مهدي من المجلس، وتبعه الناس، فقال: يا قوم، لا تطئون عقبي، ولا تمشُن خلقي، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن، قال عمران: خَفقُ النعالِ خلفَ قَل ما يُبقي من دينه.

سمعت الشافعي يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم - يعني كتبه - على أن لا يُنسب إلي منه شيء.

قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: ينبغي للفقيه أن يضع التُراب على رأسه تواضعاً لله، وشكراً لله.

وعن الشافعي: اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل.

وقال الشافعي: أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله.

قال عامر: وضع أحمد بن حنبل عندي نفقه، فقلت له يوماً: يا أبا عبد الله، بلغني أنك من العرب. فقال: يا أبا النعمان، نحن قوم مساكين فلم يزل يدافعني حتى خرج، ولم يقل لي شيئاً.

وعن المروذي: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل لا يدخل الحمام ويتنور في البيت، وأصلحت له غير مرة النورة، واشتريت له جلداً ليده يدخل يده فيه، ويتنور.

قال المروذي: وذكر لأحمد أن رجلاً يريد اللقاء، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له. وقال: لقد استرحت، ما جاءني الفرج إلا منذ حلفت ألا أحدث، وليتنا نترك، الطريقُ ما كان عليه بشر بن الحارث. فقلت له: إن فلاناً ن قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، قال: زهد في الناس. فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا في.

وعن المروذي قال: لم أرَ الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد. كان مائلاً إليهم، مَقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر.

الخلال: أخبرني محمد بن موسى، قال: رأيت أبا عبد الله، وقد قال له خراساني: الحمد لله الذي رأيتك، قال: اقعد، أي شيء ذا؟ مَن أنا؟

وعن رجل قال: رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله خيراً. قال: بل جزى الإسلام عني خيراً. من أنا وما أنا؟!

قال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك، فإني أنا قد بليت بالشهرة.

وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أن يتبعه أحد.

قال الذهبي: إيثار الخمول والتواضع، وكثرة الوجل من علامات التقوى والفلاح.

حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: رأيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يشتري الخُبز من السوق، ويحمله في الزنبيل، ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة، ويجعله في خرقة، فيحمله آخذاً بيد عبد الله ابنه.

وكان الوزير ابن الفرات يمنع الناس من المشي بين يديه.

وكان خير النساج الزاهد أسود اللون، ويقال: إنه حج، فأخذه رجل بالكوفة، وقال: أنت عبدي واسمك خير فما نازعه، بل انقاد معه، فاستعمله مدة في النساجة، وكان اسمه محمد بن إسماعيل، ثم بعد زمان أطلقه. وقال: ما أنت عبدي. فقال: ألقي عليه شبه ذاك العبد مدة.

وقال حمزة بن محمد بن طاهر: كان ابن الأنباري زاهداً متواضعاً، حكى الدارقطني أنه حضره، فصحف في اسم قال: فأعظمت أن يحمل عنه هم وهبته، فعرفت مستميله. فلما حضرت الجمعة الأخرى، قال ابن الأنباري لمستمليه: عرف الجماعة أنا صحفنا الاسم الفلاني، ونبهنا عليه ذلك الشاب على الصواب. [وفي هذه القصة تتجلى الروح العلمية بين أهل العلم في ذلك العصر الذهبي، فالدارقطني - رحمه الله - حين علم بخطأ ابن الأنباري لم يلجأ إلى التشهير به بين طلبته، وإنما لفت نظر مستمليه، والشيخ ابن الأنباري لم تأخذه العزة بالإثم، وإنما رجع عن الخطأ على رؤوس الأشهاد، وأمر الطلبة بإصلاحه، ونسب الفضل إلى أهله، ويا ليت طلبة العلم في هذا العصر يأخذون بهذا الأدب الإسلامي الرائع..الذي يجعل الحقيقة العلمية فوق كل اعتبار].

وكان الوزير علي بن عيسى متواضعاً، قال: ما لبست ثوباً بأزيد من سبعة دنانير.

قال يونس بن مغيث: طرأ أبو وهب زاهد الأندلس إلى قرطبة، وكان جليلاً في الخير والزهد.

يقال: أنه من ولد العباس، وكان يقصده الزهاد ويألفونه، وإذا جاءه من ينكر من الناس تَبَالَه وتوله، وإذا قيل له: من أين أنت؟ قال: أنا ابن آدم ولا يزيد. وأخبرني من صحبه، أنه يفضي منه جليسه إلى علم وحلم ويقين في الفقه والحديث. وقيل: كان ربما جلب من النبات ما يقوته.

قيل: إن عبد الرحيم بن القشيري جلس بجانب الشيخ أبي إسحاق، فأحسن بثقل في كمه، فقال: ما هذا يا سيدنا؟ قال: قرصي الملاح، وكان يحملهما في كمه للتكلف.

قال القاضي أبو بكر الأنصاري: أتيت أبا إسحاق بفتيا في الطريق، فأخذ قلم خباز، وكتب، ثم مسح القلم في ثوبه. قال أبو علي بنن سكرة: الحسين بن أحمد النطالي رجل أمي، له سماع صحيح عال، وكان فقيراً عفيفاً، من بيت علم، يخدم حماماً في الكرخ.

قال أبو منصور: كتبوا مرة لعمي أحمد بن الحسين بن خيرون: الحافظ، فغضب، وضرب عليه، وقال: قرأنا حتى يكتب لي الحافظ؟!

قال الحاكم: دخلت مرو وما وراء النهر فلم أظفر بأبي مسلم عبد الرحمن بن محمد بن مهران. وفي سنة خمس وستين في الحج طلبته في القوافل، فأخفى نفسه، فحججت سنة سبع وستين، وعندي أنه بمكة، فقالوا: هو ببغداد، فاستوحشت من ذلك وطلبته، ثم قال لي أبو نصر الملاحمي ببغداد: هنا شيخ من الأبدال تشتهي أن تراه؟ قلت: بلى، فذهب بي فأدخلني خان الصباغين فقالوا: خرج، فقال أبو نصر: تجلس في هذا المسجد، فإنه يجيء، فقعدنا، وأبو نصر لم يذكر لي من هو الشيخ، فأقبل أبو نصر ومعه شيخ نحيف برداء، فسلم علي، فألهمت أنه أبو مسلم الحافظ، فبينما نحن نحدثه إذ قلت له: وجد الشيخ هاهنا من أقاربه أحداً؟ قال: الذين أردت لقاءهم انقرضوا، فقلت له: هل خلف إبراهيم ولداً؟ أعني أخاه الحافظ - قال: ومن أين عرفته؟ فسكت، فقال لأبي نصر: من هذا الكهل؟ قال: أبو فلان، فقام إلي وقمت إليه، وشكا شوقه، وشكوت مثله، واشتفينا من المذاكرة، وجالسته مراراً، ثم ودعته يوم خروجي، فقال: يجمعنا الموسم، فإن علي أن أجاور، ثم حج سنة ثمان وستين، وجاور إلى أن مات، وكان يجتهد أن لا يظهر لحديث ولا لغيره، وكان أخوه إبراهيم من الحافظ الكبار.

قيل لابن العباس الرفاعي أيش أنت يا سيدي؟ فبكى، وقال: يا فقير ومن أنا في البين، ثَبت نَسَب واطلب ميراث. وقيل: أخضر بين يدي أبي العباس الرفاعي طبق تمر فبقي ينقي لنفسه الحشف يأكله، ويقول: أنا أحق بالدون، فإني مثله دون.

وكان لا يجمع بين لبس قميصين، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكله، وإذا غسل ثوبه، ينزل في الشط كما هو قائم يفكه، ثم يقف في الشمس حتى ينشف، وإذا ورد ضيف، يدور على بيوت أصحابه يجمع الطعام في مئزر.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply