القيم الخلقية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 ربّما كان معيار القيم الخُلُقية أكثر المعايير دوَراناً على ألسنة الناس في تقويمهم للأشخاص والتصرفاتº فهم ما يزالون يحكمون على هذا بأنه سياسي كذاب، وذاك بأنه رجلُ دينٍ, منافق، وعلى تلك بأنها امرأة شريفة، وعلى هؤلاء بأنهم موظفون أُمناء وهكذا...

فنحن لسنا ـ إذن ـ بحاجة لأن نقيم دليلاً على أن هذه القيم من المعايير التي يلجأ إليها العقلاء، أو سائر الناس في حال تقويمهم العقلي.

أما المسألة التي تحتاج إلى شيء من البيان بسبب ما أُثير حولها، ولا سيما في الفكر الغربي من شبهات، فهي مسألة علاقة القيم الخلقية بالأوامر والنواهي الإلهية.

زعم بعض المنتسبين إلى الأديان ـ حتى من المسلمين ـ أنّ قِيَم الصدق والأمانة والوفاء وسائر المكارم الخلقية إنما تُعرف بالدين ولا معنى لها قــبل ورود الشـرع، وزعم آخرون أن الإيمان وحده هو الذي يدفع الإنسان للالتـزام بهذه القيـم، وأن من لا إيمان له لا خُلُقَ له.

قال المعترضون: لكننا نعرف ـ بالحس والتجربة ـ أناساً صادقين أو أُمناء مـع أنـه لا علاقة لهم بِدِينٍ,.

بل زعم بعض الفلاسفة أن التزام المتدين بمكارم ـ كالصدق والأمانة ـ ليس التزاماً بمكارم خُلُقية، وإنما هو تصرٌّف تاجر يريد أجراً على فعله، وأن الملتزم بمكارمَ مثل هذه ـ باعتبارها مكارمَ خُلُقية ـ لا يفعل هذا رجاءَ ثواب أو خوفاً من عقاب، وإنما يفعلهº لأنه عملٌ حَسَنٌ في نفسه.

فما وجه الحق في هذه المسائل؟ نقول:

أولاً: أما معرفة الناس بحسن أصول المكارم الخُلُقية ـ من صدق وأمانة وعدل ووفاء وغيرها قبل ورود الشرع بها أو أمره بها ـ فمسألة لا شك فيها، بل هي من لوازم الدين التي لا يعرف الناس حقيقة الدين إلا بها.

إذاًº لم يكن الناس قادرين على التمييز بين الصدق والكذب، أو بين حُسن الأول وقُبح الثانيº فكيف يميزون إذن بين نبي صادق ومدّعٍ, للنبوة كاذب؟ وكيف يميزون بين كلام الله وافتراءات الدجالين؟

إن الشكر هو لُبّ العبادة، وما أنواع العبادات من صلاة وصوم وحج وذِكـر إلا وسائـل يعـبر بهـا العـبد عـن شكـره لـله تعالىº فـإذا لـم يكـن يعـرف معـنى الشكـر ولا حُسنه قبل ورود الشرع بهº فكيف إذن يستجيب للدعوة إلى عبادة الله؟

قال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَّكُم فَلا تَجعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22].

فالدعوة إلى عبادة الله في هذه الآيات الكريمات وأمثالها دعوة إلى شكره على نعمه التي أنعم بها على الإنسان.

وكذلك الدعوة إلى القراءة باسمه - تعالى - في أول سورة طرقت أسماع العباد هي دعوة إلى شكـره علــى نعـمة الخَلـق ونعمـة العِلـم. وأن الـذي لا يستجيب إلى هذه الدعوة فيشكر الله - تعالى - عليها هو الذي أصابه من الغرور ما جعله يعتقد أنه مستغنٍ, عن الخالق - سبحانه -. قال - تعالى -:

{اقرأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِن عَلَقٍ, * اقرَأ وَرَبٌّكَ الأَكرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَم يَعلَم * كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطغَى * أَن رَّآهُ استَغنَى} [العلق: 1 - 7].

ثانياً: إذا كان الخطاب الشرعي مبنياً على حقيقة أن الناس عارفون بحسن الصدق والأمانة والعدل والوفاء وغيرهاº فمن الخطأ أن يُعرّف الإحسان بأنه ما أمر الله به، أو يُعرّف الشر بأنه ما نهى الله - تعالى - عنه. فرقٌ بين أن تقول: إن الله يأمر بالعدل، وأن تقول: إن العدل هو ما أمر الله به. فالعبارة الأولى تعني أن الإحسان كان إحساناً قبل أن يأمر الله به، والشر كان شراً قبل أن ينهى الله عنه. أما الثانية ـ إذا قصد بها تعريف الخير والشر ـ فإنها تعني أن ما أمر الله به لم يكن إحساناً أو خيراً قبل الأمر به، وما نهى عنه لم يكن شراً قبل النهي عنه. لكن هذا تلزم عنه شنائع كما بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيميةº إذ قال كلاماً فحواه أن هذا القول يفرغ بعض الآيات من معانيها ويجعلها تحصيل حاصل. وذكر على ذلك مثلاً قوله - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإحسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُربَى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالـمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

فإذا قلت: إن العدل هو ما أمر الله به، كان معنى الآية: إن الله يأمر بما يأمر به. أما بالقول الثاني فيكون في الآية ثناء على الله - تعالى - أنه يأمر بالعدل الذي يعرف الناس أنه عدل وأنه شيء حسن. يتضح لك هذا في قوله - تعالى -:

{وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدنَا عَلَيهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُل إنَّ اللَّهَ لا يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ * قُل أَمَرَ رَبِّي بِالقِسطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ, وَادعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُم تَعُودُونَ} [الأعراف: 28 - 29].

فالله - تعالى - ينزِّه نفسه عن أن يأمر بالفحشاء، وأنه إنما يأمر بالقسط. فإذا فسرت الفحش بأنه ما نهى الله عنه والقسط أنه ما أمر الله به، صار معنى الآية: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه، وإنما يأمر بما يأمر به.

ثالثاً: لماذا يلتزم المسلم بمكارم الأخلاق؟ لأسباب ثلاثة:

أولها: أنه كغيره من عباد الله من ذوي الفطرة المستمرة على استقامتها: يصدق، أو يفي، أو يعدلº لأنه يحب هذه الخصال ويبغض أضدادها، ويرى في الالتزام بها إكراماً لنفسه، وفي الخروج عليها تدنيساً لها.

ثانيها: أن إيمانه بربه وحبه لما يحب يقوّي هذا الشعور الفطري فيه.

ثالثها: أنه يرجو ثواب ربه ولا سيما حين يقتضي الفعلُ الحَسَنُ قدراً من التضحية. وهو في كل هذا سائر على مقتضى المعايير التي يلتزم بها العقلاء. أما غيره فإنه حين يسلك هذا السلوك الحسن يضطر لأن يخرج على بعض تلك المعايير. إن كل إنسان يرى أنه من أكبر العبث أن يُقدِم على فعل لا يرجو منه نفعاً ألبتة كما بيّنا في المقال السابق. فما الذي يجعل مكارم الأخلاق مستثناة من هذه القاعدة؟ إنه حتى الذي لا يؤمن بالله ولا بآخرة لا يلتزم بها التزاماً لا يجد له نفعاً في هذه الحياة الدنيا. بل إنه قد يُحسِنُ لِـمَا يجد للإحسان من أثر طيب على نفسه، أو لأن الناس يحمدونه عليه، كما كانوا يفعلون مع مشاهير الكرماء من أمثال حاتم الطائي. فما الذي يجعل العمل من أجل مثل هذا الثواب خيراً من رجاء الثواب عند الله تعالى؟

حين كنت أفكر في كلام هؤلاء الفلاسفة أيام الشباب لفتت نظري هذه الآية الكريمة:

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} [المائدة: 119].

قلت: إذا كان الصدق رأس المكارم الخُلُقية ومع ذلك ينتفع به صاحبه نفعاً خاصاًº فلا منافاة إذن بين أن يكون العمل من مكارم الأخلاق وبين أن ينتفع به صاحبه.

ثم لفت نظري قوله  - سبحانه - الذي وجدت فيه الرد على شبهتهم:

{هَل جَزَاءُ الإحسَانِ إلاَّ الإحسَانُ} [الرحمن: 60].

فكأن الآية تقول لهؤلاء: إن الذي ظننتموه متناقضاً مع مكارم الأخلاق هو منها ومن مقتضياتها.

بعض الفلاسفة الذين أثاروا هذه الشبهة ذكروا ـ هم أنفسهم ـ في مقابلها شبهة تنقضها. فهذا زعيمهم الفيلسوف الألماني «كانت» الذي اشتهر بنظرية تسمى: الواجب المطلـق categorical imperative، والتي فحواها: أن الإنسان يجب أن يلتزم بمكارم الأخلاق لا لأيِّ سبب نفسي أو خارجي، بـل أداءً للواجـب الـذي يعبّر عـنه هـذا الأمـر المطـلق المسمى بـ «الـقانون الخُلُقي». هذا ـ كما ترون ـ مجرد تحكم، لكنه قول صار عند الغربيين من النظريات الخُلُقية التي ما تزال تُدرس وتُنشر.

لكن «كانت» هذا قال في مكان آخر قولاً ينقض دعواه هذه.

في مناقشته لأدلة وجود الخالق انتهى إلى أن أحسن دليل هو الدليل الخُلُقي الذي فحواه أن القانون الخُلُقي يقتضي العدل، أي: أن تكون سعادة الإنسان متناسبة مع التزامه بالفضيلة. وهذا أمر لا يضمنه إلا الخالق، لكنه لم يضمنه في هذه الدنيا فلا بد إذن من دار أخرى يتحقق فيها.

والقارئ المسلم يعلم أن ما يُسمى بالدليل الخُلُقي مصرّحٌ به في كثير من آيات الكتاب العزيز، من مثل قوله - تعالى -: {أَم حَسِبَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسبِقُونَا سَاءَ مَا يَحكُمُونَ} [العنكبوت:4].

وقوله - تعالى -: {إنَّ لِلمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجعَلُ الـمُسلِمِينَ كَالـمُجرِمِينَ * مَا لَكُم كَيفَ تَحكُمُـونَ} [القلم: 34 - 36].

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply