ألسنة الخلق أقلام الحق


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أهل الجنة، من ملأ الله - تعالى -أذنيه من ثناء الناس خيرا وهو يسمع، وأهل النار، من ملأ الله - تعالى -أذنيه من ثناء الناس شرا وهو يسمع) (1)

المؤمن له البشرى في هذه الحياة الدنيا، وله البشرى عند مفارقة الدنيا، وله البشرى في الآخرة، قال جل جلاله (أَلا إِنَّ أَولِيَاء اللّهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشرَى فِي الحَياةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ) يونس 62-64، فأما البشرى في الدنيا أن يعمل المسلم العمل لله - عز وجل - فيورثه ذلك ثناء الخلق، فيفرح بهذا الثناء فإن ذلك لا يُنقص أجره ولا يضرّهº لأنه إنما عمل العمل لله - عز وجل -.

قال المناوي معلقا على حديثنا الجليل (أهل الجنة....الحديث) معناه: من ملأ أذنيه من ثناء الناس خيراً عمله ومن ملأ من ثناء الناس شراً عمله فكأنه قال: أهل الجنة من لا يزال يعمل الخير حتى ينتشر عنه فيثنى عليه بذلك وفي الشر كذلك، ومعنى قوله (أهل الجنة) أي الذين يدخلونها ولا يدخلون النار، ومعنى (أهل النار) أي الذين استحقوها لسوء أعمالهم سموا بدخولها أهل النار لكنهم سيدخلون الجنة إذا صحبهم إيمان ويكون أهل النار بمعنى الذين استحقوها بعظائم وأفعال السوء ثم يخرجون بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يرحم منهم من يشاء ولا يعذبه، فإن قلت: ما فائدة قوله (وهو يسمع) بعد قوله (ملأ اللّه أذنيه)؟ قلت: قد يقال فائدته الإيمان إلى أن ما اتصف به من الخير والشر بلغ من الاشتهار مبلغاً عظيماً بحيث صار لا يتوجه إلى محل ويجلس بمكان إلا ويسمع الناس يصفونه بذلك، فلم تمتلئ أذنيه من سماعه ذلك بالواسطة والإبلاغ بل بالسماع المستفيض المتواتر (2)

وقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال \"تلك عاجل بشرى المؤمن\" (3) فقوله - صلى الله عليه وسلم - (عاجل بشرى المؤمن) لأنه لم يعمل العمل ابتداء ولا انتهاء من أجل أن يراه الناس، لكنه لما عمل العمل أطلع الله عليه الناس فحمدوه عليه. بخلاف من يعمل العمل ليُحمد عليه، أو من يُحب أن يُحمد بما لم يعمل! فهذا قد توعده الله - جل وعلا - بأليم العذاب، قال - تعالى -(لاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ يَفرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبٌّونَ أَن يُحمَدُوا بِمَا لَم يَفعَلُوا فَلاَ تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ, مِّنَ العَذَابِ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) آل عمران 188

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رجل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى أكون محسناً ومتى أكون مسيئاً فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أثنى عليك جيرانك أنك محسن فأنت محسن، وإذا أثنى عليك جيرانك أنك مسيء فأنت مسيء) (4) قال المناوي (إذا أثنى عليك جيرانك) الصالحون للتزكية ولو اثنان فلا أثر لقول كافر وفاسق ومبتدع (أنك محسن) أي من المحسنين يعني المطيعين لله - تعالى -(فأنت محسن) عند الله - تعالى -(وإذا أثنى عليك جيرانك أنك مسيء) أي عملك غير صالح (فأنت) عند الله (مسيء) ومحصوله إذا ذكرك صلحاء جيرانك بخير فأنت من أهله وإذا ذكروك بسوء فأنت من أهله، فإنهم شهداء الله في الأرض، فأحدث في الأول شكراً، وفي الثاني توبة واستغفاراً فحسن الثناء وضده علامة على ما عند الله - تعالى -للعبد، وإطلاق ألسنة الخلق التي هي أقلام الحق بشيء في العاجل عنوان ما يصير إليه في الآجل والثناء بالخير دليل على محبة الله - تعالى - لعبده حيث حببه لخلقه فأطلق الألسنة بالثناء عليه وعكسه عكسه (5)

وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت) (6) قال المناوي (إذا سمعت جيرانك) أي الصلحاء منهم (يقولون قد أحسنت فقد أحسنت) أي كنت من المحسنين ستراً من الله وتجاوزاً عما عرف من المثني عليه مما انفرد بعلمه، لأن العفو من صفاته وإذا تجاوز عمن يستحق العذاب في علمه وحكم بشهادة الشهود كان ذلك منه مغفرة وفضلاً و {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} المدثر 56 (وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت) أي كنت من المسيئين لأنهم إنما شهدوا بما ظهر من سيء عمله وهو به عاص، فإذا عذبه الله بحق ما ظهر من عمله السيء الموافق للشهادة، ولا يجوز أن يعذبه بما شهدوا عليه وهو عنده على عمل صالح (7)

وقال - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء بعضكم على بعض) (8) وعن أنس - رضي الله عنه - قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (وجبت) ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال (وجبت) فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) (9)

وجماع الأمر لزوم العبد للتقوى والعمل الصالح حتى يفوز بمحبة رب العالمين، قال - صلى الله عليه وسلم - (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) (10) أي يحدث له في القلوب مودة ويزرع له فيها مهابة فتحبه القلوب وترضى عنه النفوس من غير تودد منه ولا تعرض للأسباب التي تكتسب لها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة كما يقذف في قلوب أعدائه الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم، وفائدة ذلك أن يستغفر له أهل السماء والأرض وينشأ عندهم هيبة وإعزازهم له {وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين} المنافقون 8 (11)

قال ابن المبارك: ما رأيت أحدا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة. وقال أبو حازم: لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله، إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يعور ما بينه وبين الله إلا عور فيما بينه وبين العباد، لمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا صانعته مالت الوجوه كلها إليك، وإذا استفسدت ما بينه شنئتك الوجوه كلها. وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: قال لي رجل: من هنا إلى بلاد الترك يدعون لك، فكيف تؤدي شكر ما أنعم الله عليك، وما بث لك في الناس؟ فقال أسأل الله أن لا يجعلنا مرائين (12) وقيل لبزرجمهر عندما قدم للقتل: تكلم بكلام تذكر به، فقال: أي شيء أقول إن الكلام لكثير، لكن إن أمكنك أن تكون حديثاً حسناً فافعل، وكتب حكيم إلى الإسكندر: اعلم أن الأيام تأتي على كل شيء فتخلقه وتخلق آثاره، وتميت الأفعال إلا ما رسخ في قلوب الناس فأودع قلوبهم محبة أبدية يبقى بها حسن ذكرك وكريم أفعالك وشرف آثارك (13)

 

-------------

(1) الحديث رواه ابن ماجة في سننه رقم 4224 وصححه الألباني في الصحيحة 1740، (صحيح)حديث رقم: 2527 في صحيح الجامع. ورواه الحاكم 1/378 والبزار عن أنس - رضي الله عنه - (2) فيض القدير ــ المناوي 1/542 (3) مسلم 2642 (4) رواه ابن عساكر في تاريخه صحيح الجامع رقم 277 (5) فيض القدير/ المناوي 2/514 (6) رواه أحمد وابن ماجة عن ابن مسعود (صحيح) انظر حديث رقم: 610 في صحيح الجامع (7) فيض القدير للمناوي 1/354 (8) إسناده حسن غريب / ابن حجر في الإصابة 4/77 (9) البخاري 1367 (10) البخاري 3209 (11) فيض القدير للمناوي 1/562 (12) انظر هذه الأقوال في تحفة العلماء بترتيب سير أعلام النبلاء /جمع وترتيب أحمد بن سليمان /دار الإيمان / الإسكندرية (13) فيض القدير للمناوي 2/521

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply