صدق اللهجة (1-2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في كل خصلة فاضلة شرف وخير، ولكل خصلة فاضلة أثر في سعادة الجماعة، وقد تتفاوت هذه الخصال بكثرة الحاجة إليها.

ومن الخصال التي تكثر مواضيع الاحتياج إليها صدق اللهجةº فلا غنى للجماعة عن أن يكون فيها صدق وحلم.

والأحوال التي يحتاج فيها إلى الصدق أكثر من الأحوال التي يحتاج فيها إلى الحلم، ونحن لا نشعر بالحاجه إلى شجاعة السيدات والأطفال، وكل منا يشعر بالحاجة إلى صدق الطفل الآخذ في التردد على المدرسة، وصدق الصانع في مصنعه والأمير على كرسيه.

فالكلمة التي نلقيها في هذه الليلة إنما نصف بها فضيلةً شأنها رفيع، وأثرها في الاجتماع كبير، وهي صدق اللهجة.

ولا تثريب علينا إذا تناولنا في أثناء بحث هذه الفضيلة نبذة من الحديث عن ضدها وهو الكذبº فإن حقائق الفضائل تتجلى بمعرفة أضدادها.

 

ما هو الصدق؟

الصدق في لغة العرب: إلقاء الكلام على وجه يطابق الواقع والاعتقاد.

ومقتضى هذا الشرح أن الكلام الذي يخالف الواقع والاعتقاد معاً أو يخالف أحدهما لا يدخل في حقيقة الصدق، بل يندرج تحت اسم الكذبِ، والكذبُ ذو ضروب وألوان.

للصدق صورة واحدة: وهى أن تصوغ القول على نحو ما تعتقد، ويكون اعتقادك مطابقاً للواقع، كأن تقول وأنت الناصح الغيور: سلطة العدو أَمرٌّ من الصبر، وأشدٌّ مضاضة من وقع الحسام.

 

وللكذب ثلاث صور: (إحداها) ما يخالف الواقع والاعتقاد: كمن يتملق فاسقاً أو باغياًº فيصفه بالاستقامة، وهو على بينة من سيرته المغضوب عليها

(ثانيتها) ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع: كالزائغ المنافق ينطق على نحو مما ينطق به أولو الحكمة والهداية.

(ثالثها) ما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد: كالغبي يعتقد بعض صلاح الفجار، فيصفه بالولاية أو التقوى.

هذه صورة الكذب في مجاري كلام العرب، وقد رأيتموها ممثلة في المتملق، والمنافق، والغبي.

 

والذي يرجع عيبُه إلى الأخلاق العملية من هذه الصور ما جاء الحديث فيه مخالفاً للاعتقاد، وسواء بعد هذه أخالف الواقع -أيضاً- وهي الصورة الأولى أم كان مطابقاً للواقع وهي الصورة الثانية.

 

وبيان هذا أن الباحث في الأخلاق العملية يوجه عنايته إلى نفس المتكلم حين إلقائه الحديث، وينظر إلى اعتقاده وما بينه وبين الحديث من مطابقة أو مخالفة، فإن وجد الرجل يسوق الحديث على غير ما يعتقد وضع عليه اسم الكذب وعده في حملة هذه الرذيلة الساقطة ولو اتفق لحديثه أن كان مطابقاً للواقع.

 

وإن وجده يتلقى الحديث على نحو ما يعتقد لا يعده في أصحاب رذيلة الكذب، وإن لم يجئ حديثه موافقاً للواقع.

وهذا الذي تَحَّدث عن اعتقاده، وجاء حديثه مخالفاً للواقع لا يرميه الباحثون في الأخلاق بِسُبِّة الكذب، وقد يؤاخذ من جهة أخرى، وهي انقياده إلى الظنون الواهيةِ، وحديثه عن الأمر قبل التثبت من أنه حقيقة واقعة.

فالكذب في إطلاق علماء الأخلاق ينصرف إلى من يحدثك بالأمر وهو يعتقد أنه غير واقعٍ,، ومعظمُ ما ورد في الشريعة من ذم الكذب محمول على أولئك الذين تنطق عليك ألسنتهم بأشياء يزعمون أنها واقعة وقلوبهم تنكرها.

 

الاحتراس في صدق اللهجة:

يحدثك الرجل عن أشياء يحس بها في نفسه، كالحب والبغض والعطش والري، ويحدثك عن أمور يدركها بَمَحَّساته الخمس: البصر والسمع وغيرهما.

وهو- فيما يدركه بإحساسه الباطن أو إحساسه الظاهر- يستطيع أن لا يحدثك إلا بما يطابق الواقع والاعتقادº فالرجل الصادق لا يقول: \"أحببت\" وهو يبغض، ولا يقول: \"سمعت\" أو \"رأيت\" إلا إذا سمع أو رأى.

وقد يحدثك عن حادثة تلقَّى خبرها عن طريق الرواية، أو يحدثك عن أمر أدركه على وجه النظر والاستدلال.

وهذان الصنفان هما ما يعثران به في مخالفة الواقع أحياناً، وينزلان به إلى أن تحوم حوله الظنونº فعلى صادق اللهجة أن يحترس فيهما يتحدث به عن رواية، أو يتحدث به عن ظن واستنباط.

والاحتراس في الأخبار التي تجئ من طريق الرواية أن لا يحدث بها قبل أن ينقدها نقداً بالغاً، وإن بدا له أن يخبر بها على نحو ما سمعها فليذكر أسماء رواتهاº حتى يبرأ من عُهدتها.

 والاحتراس في الحديث الذي يستند فيه إلى ظن وأمارة أن لا يطرحه إلى الناس في صورة المقطوع به، بل ينبه على أنه تحدث به على وجه الظن، كما يصنع كثير من الملأ الذين يعافون الكذب، ويريدون أن يجعلوا بينه وبين ألسنتهم حجاباً مستوراً.

فسياجُ صدقِ اللهجةِ الاحتراسُ في الحديث المستند إلى رواية أو ظن، ومن حدثك بما علم واحترس فيما روى أو ظن فقد قضى حق فضيلة الصدق، ووفّى.

 

صدق اللهجة والمجاز:

 لا يخرج عن حدود الصدق ما يجرى على ألسنة البلغاء من ضروب الكناية وفنون المجاز، كأن تقول لشخص: جئتك ألف مرة، تكنى بالألف عن كثرة التردد، ولا تريد بها عدد المرار، وكأن تقول: رأيت أسداً مخلَبُهُ الحسامُ، وأنت تريد بطلاً لا يلوى جبينه عن منازلة الأقران.

وقد جاء في كتب الأصول أن قوماً منعوا أن يكون في القرآن مجاز، وهم الظاهرية، ولا شبهة لهؤلاء، إلا زعمهم أن المجاز من قبيل الكذب، والقرآن قول فصل وما هو بالهزل، وهذه الشبهة مدفوعة بقيام القرينة الدالة على أن المتكلم لا يقصد سوى معنى المجاز.

وإذا كان قوله -تعالى (اللَّهُ وَلِيٌّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخرِجُهُم مِن الظٌّلُمَاتِ إِلَى النٌّورِ) يحتوى قرينة تنفي أن يكون المرادُ من الظلماتِ سوادَ الليل، ومن النور بياضَ الشمس والقمر والسراج - لم يكن هناك إخبار بما يخالف الواقع أو الاعتقاد حتى يتناوله اسم الكذب الذي لا يحوم على كتاب الله في الحال، وإنما الكذب ذلك الإغراقُ أو الغلو الذي يضعه الشاعر خيالا بحتاً، كقول بعضهم:

ليس ذا الدمع دمع عيني ولكن *** هي نفسي تذيبها iiأنفاسي

 

 وقول الآخر:

وأَخَفتَ أهلَ الشركِ حتى أنه *** لتخافُك النطفُ التي لم iiتُخلقِ

 

صدق اللهجة والقصص الخيالية ضروب:

القصص الخيالية ضروب:

أحدها: ما يحكى على ألسنة الجماد أو الحيوان كقصة كليلة ودمنة.

ثانيها: ما يحكى على ألسنة ذوى نفوس ناطقة، ويدل المتكلم بالقرينة أو بالصريح من القول على أنه اخترعهاº لتكون مأخذ عبرة أو أدب لغة، كما صنع أبو القاسم الحريري في مقاماته.

وهذان الضربان من قبيل الإخبار بما يخالف الواقع والاعتقاد، والذي يستر عيب الكذب هنا أن المتكلم لم يوقع المخاطب في غلط وسوء تصور، وإنما يعرض عليه حكمةً أو أدبَ لغةٍ, في أسلوب طريف.

ثالثها: ما يحكيه الرجل على ألسنة ذوى نفوس ناطقة، ولا ينبه على أن القصة غير واقعة، وهذه -أيضاً- خارجة عن حد الصدق إلى مكان بعيد، ولو كان الداعي إلى وضعها ما تحتويه من عبرة أو أدب لغة.

فالذين يزعمون أن في القرآن قصصاً غير واقعة، وأنها سبقت لما تحتويه من موعظة لا يريدون إلا أن يطعنوا في القرآن، ويخادعوا المؤمنين، والمؤمنون لا يخدعون.

 

صدق اللهجة وإخلاف الوعد:

الوعد أخبار عما ستفعله في المستقبل من إحسان، والصدق والكذب يحريان في الأخبار المستقبلة كما يجريان في الأخبار الماضية.

وقد وصف الله -تعالى- إسماعيل - عليه السلام - بصدق الوعد أوفائه بما يعد فقال: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً).

وإذا كان الوفاء بالوعد يجعله صادقاً فإخلافه يجعله كاذباً لا محالة.

وقد اختلف أهل العلم بعد هذا في لزوم الوفاء بالوعد، فذهبت طائفة إلى أن من وعد شخصاً بإحسان وجب عليه إنجاز ما وعد، وقضى عليه بأدائه.

وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه- ورجحه أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي فقال: \"والصحيح لزوم الوعد، وُخلفَه كذب ونفاق\".

وذهب طائفة أخرى إلى أن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق، وأن صاحبه يملك الرجوع عنه، وإذا بدا له أن يرجع فليس للقاضي عليه من سبيل.

وذهب جماعة من فقهاء المالكية إلى تفصيل، وهو أن الوعد المطلق غير لازم، وأما الوعد المنوط بسبب فإنه يصير بمنزلة الدَّين الذي لا مناص له من قضائه، ومثال هذا أن تقول لشخص: تزوج وأنا أدفع المهر، فإذا تزوج كان للحاكم أن يقضي عليك بدفع المهر قضاءاً نافذاً.

صدق اللهجة وإخلاف الوعيد:

الوعيد إخبار عما ستفعله من شرº فإخلافه يجعله كالوعد المخلف قولاً كاذباً.

والرجل الذي يوعد آخر، ثم يضرب عنه عفواً إنما يمدح من جهة أن مصلحة إخلاف الوعيد أرجح من مصلحة إنفاذهº ففضيلة العفو تغمر عيب الكذب، وتجعله في نظر الأخلاق شيئاً منسياً.

ولتضاؤل نقص الكذب تحت عظم فضيلة العفو ساغ للإنسان أن يتمدح بإخلاف الوعيد الذي يقول:

وإني إن أوعدته أو وعدته *** لأخلف إيعادي وأنجز موعدي

ولا شك أن من يقرن الوعيد بنحو المشيئة يحميه أن يجعل إخلافه كذباً.

ولكن الوعيد شأنه أن يصدر في حال غضب لا يملك صاحبه النظر إلى العواقبº فهو لا يكاد يلفظ به إلا بعد عزم وتصميم.

 

18/12/1427هـ

 

----------------------------------------

[1] رسائل الإصلاح 2/ 95-105.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply