رغما عن حزني فإنني فخورة بأبي !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أنا أدعى نادين الأخت الكبرى لثلاث بنات والدهن يدعى فكتور جاراك، كان يعمل بأحد البنوك بمدينة بروكسل ببلجيكا، ولما استعرت نار الحرب العالمية الثانية شعر بخطورة الوضع بالعاصمة البلجيكية فهاجر إلى مدينة بون بألمانيا وعمل بأحد البنوك الألمانية المشهورة بعد أن قدم خبرته الطويلة ببروكسل.

يتصف والدي بدماثة الخلق وطيب المعشر، كان أميناً وجاداً في عمله، خصوصاً في عمله البنكي، كان منضبطاً إلى حد الجنون، لا يعمل إلا وفق النظم والقواعد المعمول بها في ذلك البنك. كان يعتمد شعار الحق في عمله ولم يك يملك خياراً آخر البتة.

وقد صار هذا الروتين ديدناً يميز حياته، كان يعتمد الصدق في كل عمله، فإذا حدثت بعض الخروقات من أحد زملائه بالبنك يأتي مهتاجاً معكر المزاج للبيت، وحالما رأته والدتي على هذه الحال عرفت أن هنالك خروقات حدثت بالبنك.

وفي أحد الأيام زاره ثلاثة من كبار الساسة ببلده، ولاسيما أنه كان مديراً لإدارة النقد الأجنبي بالبنك، فرح والدي فرحا شديدا بتلك الزيارة واستقبلهم بكل حفاوة وترحيب، وبعد استضافتهم أخبروه بما يودون عمله، كانت دهشته عظيمة حينما اخبروه أنهم يودون تحويل مبالغ ضخمة لأحد البنوك السويسرية والمعروف عنها أنها تعمل في سرية تامة في حفظ أي أموال سواء كانت صحيحة أم غير ذلك.

كان والدي متيقناً أن هؤلاء الساسة لا يملكون هذا المبلغ الضخم، أي أنهم نهبوا هذا المبلغ من الدولة ليعملوا على تحويله لصالح أنفسهم، وثانياً بما أن دولتهم ألمانيا في حرب فإنه يحرم على أي مليونير تحويل مبالغ كبيرة للخارج حتى ولو كانت ملكه، لأنها بلا شك سوف تضر بالاقتصاد القومي للبلد.

اصطدم والدي بهذا الطلب الذي يتنافى مع أخلاقه التي امتاز بها، ولاسيما أنهم أوعزوا له بأنهم سوف يقدمون له ما يشاء من الأموال حتى تتم عملية التحويل، أمهلوه يومين حتى يفكر مليا ويخبرهم برأيه النهائي.

نسبة لأن والدي كان يعيش غريباً في المجتمع الألماني، فقد كان حميم العلاقة مع والدتي، كان بمثابة الزوج والصديق، ولهذا كان يخبر والدتي بكل صغيرة وكبيرة تحدث له، فمن أول يوم أخبرها بما حدث، وبقدر ما كان فخوراً بلقاء هؤلاء الرجال الكبار في المجتمع بقدر ما كان حزيناً لمسلكهم المخزي، تقول والدتي: \"إني عضدت رأيه القاطع بعدم القيام بهذه العملية ولاسيما أنني أدرك أنه لن يعيش سعيداً ما دام حياً إذا طاوعهم وقام بتنفيذ تلك العملية القذرة\".

وتستطرد والدتي: \"إنني أدركت أنه كان يود أن يساعدهم في أي عمل آخر ولكن طلبوا منه طلباً لا يستطيع البتة أداءه، لأنه تعلم منذ بداية حياته حماية الحق والزود عنه، وأنه سار على هذا النهج طوال حياته ولن يحيد عن مبادئه لأي أحد كان، حتى ولو كان للهر الأعظم هتلر.

وتقول والدتي: \"طلبت منه إبداء رفضه لهم بكل تهذيب وألا يعمل على إغضابهم لما لهم من نفوذ بالدولة، وحتى لا يجلب لنا مشكلات نحن في حل عنها\".

وتضيف والدتي: \" لما جاء والدي بعد الرفض، كان حزيناً جداً لمسلك هؤلاء الساسة الذين يحبهم شعبهم ويعول عليهم كثيراً في قيادة البلد مستقبلاً، وأخبر والدتي أنهم لما شعروا أنه رافض لعرضهم الأول، قدموا له مبلغاً ضخماً لم يخطر على بال وأنهم كانوا يتصورون أنه يمانع ليزيد قيمة المبلغ.

ولما أعيتهم الحيلة هددوه بأنهم سوف ينالون منه، تصف والدتي مشاعره حينما كان يحكي لها تلك الحادثة \"كان ينتفض من الغضب أثناء الحديث ولكنه في نفس الوقت كان فخورا بقوة شخصيته وكرامتها\".

وتستطرد والدتي بالحديث لي: \"ظل والدي يعمل نحو أسبوع بعد تلك الحادثة وفي اليوم الثامن، زاره نحو ثلاثة موظفين من البنك المركزي لمجموعة البنوك التي يعمل بها والدي، وكان يعرف موظفاً يعمل في النقد الأجنبي في ذلك البنك، طلبوا منه أن يصحبهم لأن لديهم عملاً يريدون أن ينجزه، خرج والدي معهم بعد إخباره صديقه وزميله بالبنك عما ينوي عمله.

أخبر صديق والدي بتلك القصة وقال: \"إن والدي لم يخامره شك فيما ينوون فعله لأنه يعرف ذلك الموظف معرفة قوية وأنه يعمل بنفس القسم الذي يعمل هو فيه وما كان يدري أنه يرافق زملاء الغدر والخيانة.

اقتادوا والدي بسيارتهم، ومنذ ذلك اليوم لم نسمع أي خبر عن والدي، طرقنا كل الأبواب أنا ووالدتي لمعرفة ما حدث لوالدي ولكن لا خبر البتة عنه حتى الآن ولقد بلغ عمري نحو أربع وثلاثين عاماً.

عانت والدتي كثيراً، حيث كانت ربة منزل ولم تعتد على العمل بالشركات والمصانع، ونسبة للحرب التي كانت تقودها بلدنا ألمانيا فلم تك هنالك فرص للعمل، حيث الكساد عم البلد ولهذا بقيت والدتي بلا عمل نحو العامين، ومن ثم وجدت تلك الفرصة..عاملة بأحد المصانع.

عمدت والدتي على تربيتنا بنفس الأسس والأخلاق التي وضعها والدي العزيز ونسبة لأنني أكبر أخواتي كانت تفيض لي بكل أسرارها، ولقد أصبحت صديقتها وكنت أقدر مجهودها الكبير في سبيل إسعادنا، ولهذا كنت أجتهد في دراستي لأجل إسعادها أكثر، حيث كانت تفرح فرحاً عظيماً بنجاحي، وتعتبره مكافأة لها في مساعيها واجتهادها الشخصي.

كنت أحمل سراً عظيماً... رغماً عن مشاعر الحزن العميقة التي تملك كياني، وكثيراً ما كانت والدتي تحذرني من إفضاء ذلك السر لأقرب الأقربين حتى لا يتسبب لنا ذلك في إضافة مشكلات جديدة في حياتنا نحن في حل منها.

كان هذا السر يؤرق مضجعي وكذلك بالنسبة لأخواتي الصغار، ولكننا صمدنا في وجه ذلك، وظل شعور الفخر والزهو يظللنا ويحلق بنا إلى سموات أرفع وأكبر ولاسيما أننا نستظل بسيرة بطل حمى ذاته من القذارة وحمى وطنه رغماً عن أنه ليس وطنه الأم ولكنه اعتبره وطنه بل قدم نفسه رخيصة في سبيله، إننا نعش حياة سعيدة وسوف نظل مرفوعي الرأس ما دام يجري فينا دم الحياة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply