المنارة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كان الدكتور عبد الفتاح من أبرع الأطباء الشبان.. وكان قد قضى ثلاث سنوات في الخارج يدرس طب المناطق الحارة.. فلما عاد إلى مصر اشتغل سنتين في مستشفى الدمرداش بالقاهرة, ثم انتقل طبيبا لوحدة مجمعة بإحدى قرى الصعيد..

وكان متزوجا من شابة جميلة ومتعلمة مثله.. ولكنها رفضت أن تذهب معه إلى الريف.. فسافر وحده وأقام في البيت الذي أعدته له الحكومة..

وكان يعمل بإخلاص وعن عقيدة متمكنة، وقد أفادته رحلته في الخارج، فأصبح أكثر تجربة ودراية بأحوال البشر..

وكان هو المحرك في الواقع للمجمع كله.. وعليه يتركز العمل.. لأن باقي الموظفين كانوا يتركونه بعد أن ينتهي عملهم ويسرعون إلى بيوتهم في البندر.. أما هو فكان يبقى ويغري الموظفين على البقاء.. لأنه كان يعتقد أن الريف المصري لا يمكن أن يتقدم أبدا.. مادام الموظفون يتركونه إلى المدينة..

وكان يعتقد اعتقادا راسخا.. أن هذا المجمع نفسه.. سيخيم عليه الظلام وينسج عليـه العنكبوت خيوطه إذا ترك أمره للتمورجى والخفير.. وفراش المدرسة..

وفي الشهر الأول من قدومه.. قابله الفلاحـون بالصدود والتوجس.. وكانوا يتركونه ويذهبون إلى أطباء البندر..

وظل في حيرة حتى عرف السبب.. فقد كان الطبيب الذي قبله يمتص دماءهم ويفرض عليهم أن يأتوا إلى عيادته ليتقاضى منهم أتعابه أضعافا مضاعفة.. فكره المرضى من الفلاحين المجمع.. وأصبح بناية بيضاء من غير روح تسيره..

وظل الدكتور عبد الفتاح.. يقاوم هذا الجفاء بإنسانيته وبصيرته حتى أعـاد ثقة الفلاحين إلى بناية الحكومة.. وتدفق عليه الناس كالسيل.. وكان المرضى يأتون إليه من كل القرى المجاورة..

وكان إذا سمع بمريض عاجز عن الحركة يذهب إليه بنفسه.. ويظل يتردد عليه حتى يشفى ولا يتقاضى منه أجرا على الإطلاق..

وإذا ذهب إلى البندر يكون كل همه أن يحصل على الأدوية النادرة التي تنفع الفلاحين.. وتعالج أمراضهم المزمنـة.. ويدفـع ثمنها من جيبه..

وفى خلال فترة قليلة.. تحول الفلاحون إليه بقلوبهم.. وأصبح محبوبهم وأدركوا أنه المصباح الحقيقي المنير في القرية..

وكان هو يشعر بسعادة غامرة.. وهو يرى الوجوه المنقبضة تتفتح للحياة وتتطلع إلى المستقبل..

وكان الماضي يمزقهم.. خـداع الموظفين لهم.. واستغلالهم جهلهم.. وحيل الصراف عليهم.. وغشهم في الشونة وسرقتهم في الميزان.. عند توريد المحصول.. ومشاكل السماد والبذور.. ومياه الري.. واضطرارهم.. إلى الاستدانة بالفائدة الباهظة..

ثم الآفات الزراعية التي تنزل بهم.. كل هذه الأشياء حطمتهم.. وجعلتهم.. يمكرون.. ويسرقون.. ويكذبون.. ويخدعون.. ويقتل بعضهم بعضا..

وكانوا يتوجسون شرا.. من كل شيء جديد..

ولما قام المجمع.. بعيدا عن القرية.. تطلعوا إليه في وجوم.. فلما سرت فيه الروح الإنسانية.. وأصبح منارة في هذا الظلام.. أقبلوا عليه.. ونسوا الماضي كله..

وسر الدكتور عبد الفتاح من نجاحه في الريف.. سر لأنه استطاع أن يلمس قلوب الفلاحين.. وكان يزورهم في القرية ويقضي الليل في مجالسهم في \" المندرة \".. يستمع إلى شكاياتهم.. وأحاديثهم عن الزراعة وأحوال السوق..

وكان الشيء الذي يحزنه.. أن زوجته بقيت في القاهرة وتركته يجابه الحياة وحده..

وكان يفكر في أن يجعل حول البيت حديقة ناضرة.. وفي وسط الحديقة تكعيبة عنب..

ويجعل من البيت جنة صغيرة تغنيه عن الذهاب إلى أي مكان..

وكتب لزوجنه يصف أحلامه وما يعده لها ليحبب إليها الريف ويرجوها أن تحضر ولو في زيارة قصيرة.. وردت عليه بأنها ستحضر في يوم الخميس.. لتقضي معه أياما قليلة..

وذهب ينتظرها على المحطة وعاد بها إلى بيته.. ورأت بعينيها البيت صغيرا ونظيفا.. ومضاء بالكهرباء.. وحوله الغيطان.. ولكن كيف تعيش وحيدة.. وسط أشجار النخيل.. ومع من تتحدث ومع من تقضي النهار.. وإلى أين تذهب في الليل.. ولمن ترتدي الفساتين الشيك.. ولمن تتزين..

قضت أربعة أيام في عذاب وكأنها تعيش في واحة.. وفي اليوم الخامس قررت أن تعود إلى القاهرة..

وطلب الدكتور سيارة من البندر.. لتقلهما إلى المحطة..

وفي الوقت الذي وصلت فيه السيارة.. جاءه خفير المجمع.. وأخبره أن فلاحا مريضا بالخارج في حالة إعياء شديد يطلب الكشف..

وأسرع إليه الطبيب فوجده بين الحياة والموت.. وكان قلبه في حالة هبوط شديد فأعطاه حقنة مقوية..

ولكن الرجل مات في أثناء الحقنة.. وتألم الطبيب.. وصرخ أهل الميت.. وسرى خبر في القرية.. أن الدكتور عبد الفتاح قتل الشيخ عبد الجليل بالحقنة التي أعطاها له..

وتجمـع أهـل الميت.. وزحفوا على بيت الطبيب وفي عيونهم الشر.. وخرجت طلقة من أحد الفلاحين.. زادتهم هياجا.. ونسي الفلاحون كل حسنات الطبيب في ساعة واحدة.. وتحولوا جميعا إلى وحوش..

وبقي الطبيب في الداخل يقابل هياجهم بالهدوء.. والصمت..

وكان الخبر قد وصل إلى وكيل العمدة فأسرع إلى المكان.. ونهر الفلاحين وضرب الذي أطلق النار.. وقال لهم في غضب:

ـ هل نسيتم كل ما فعله لكم الرجل.. إنكم أنذال حقا.. ولا تستحقون الخير من إنسان..

واستمر يعنفهم ويوضـح لهم حقيقة الأمر.. حتى هدءوا وانصرفوا..

***

وقالت ناهد لزوجها الطبيب.. بعد أن انصرف الفلاحون..

ـ كيف تعيش وسط هؤلاء الوحوش.. ؟

ـ هذا لامناص منه.. لأعيد إليهم إنسانيتهم.. التي سلبت منهم على مدى السنين..

ـ وهل أنت مسئول عن هذا.. ؟

ـ إذا لم أكن مسئولا فمن هو المسئول.. ؟

ـ ولكنك ستلاقي العذاب.. والأمر سيطول..

ـ هذا صحيح.. ولكني سأصـل إلى بغيتي حتما.. وأنا على يقين..

ـ ألا تفكر.. في النقل.. ؟

ـ أبدا.. لن أفكر في هذا.. سأبقى هنا.. لتظل هذه المنارة.. مضاءة..

ـ إذن سأبقى معك.. لا يمكن أن أتركك وحدك بعد اليوم..

وسر منها وطوقها بذراعيه.. وطبع على فمها قبلة..

وصرف العربة التي كانت ستقلهما إلى المحطة..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply