من مكفرات الذنوب - كظم الغيظ


  

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد جعل الله في كتابه جزاء كظم الغيظ وإسكات الغضب مغفرة الذنوب، وقد دل على ذلك صريح القرآن في وصف المتقين في قوله - عز وجل -: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}..إلى أن قال: {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم}، والغيظ أو الغضب داء وبيل، وشر مستطير ولاسيما عندما يكون الغاضب ذا سلطة مستمدة من غناه أو منصبه، فربما يغضب للباطل انتصارا لنفسه وهواه، يقول الإمام الغزالي في الإحياء: (إن الغضب شعلة نار مستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كما تستخرجها أسباب أخرى).قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون), وذكر ابن كثير في سيرة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - أن رجلا كلمه يوما حتى أغضبه فهم به عمر ثم أمسك نفسه ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا؟ قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك).وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (الغضب أوله جنون، وآخره ندم).

 

ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم  * * *  عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب

 

قال القرطبي: الغيظ أصل الغضب وكثيرا ما يتلازمان، لكن فرقان ما بينهما، أن الغيظ لا يظهر على الجوارح بخلاف الغضب، فإنه يظهر في الجوارح، مع فعل ما ولا بد، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله - تعالى -.

 

ثواب كظم الغيظ كبير، وأجره عند الله عظيم، جاء في الحديث الحسن عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أي الناس أحب إلى الله تعالى؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحب الناس إلى الله - تعالى - أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله - تعالى - سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام).

لما كان الغيظ والغضب شيئين متلازمين ومتقاربين جاءت الآيات والأحاديث بالنهي والتحذير منهما، لأنهما يأخذان بالمسلم إلى مهاوي الردى جاءت وصية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال أوصني، وصية مختصرة جامعة مغلقة لأبواب الشر بقوله: (لا تغضب) فردد ذلك مرارا فقال: (لا تغضب).

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لا تغضب خيري الدنيا والآخرة، لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وذلك أن الغضب يجمع الشر كله، فهو مفتاح الفتن والآثام، وبريد التفرق والانقسام ويستدل به على ضعف العقل والإيمان.

كم من أسرة تشتت، وكم من أخوة وصداقة تفرقت، وكم من نفوس أزهقت، وكم من أواصر تفككت، وكم من مجتمعات تبددت، كل ذلك بسبب الغضب، وإمضاء الغيظ. لذا حث الله - عز وجل - المسلم أن يتحلى بأخلاق المؤمنين المتقين {وإذا ما غضبوا هم يغفرون}، {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، بل ترك الغضب وكظم الغيظ علامة الإيمان، بل هو الذي يقتل الشر في مهده، ويجعل من العدو اللدود صديقا حميما، ومن الغريب قريبا {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.

قال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة قال: ترك الغضب.

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب ولا ينتقم لنفسه، قال أنس - رضي الله عنه -: (خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما غضب علي، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله)، وعنه - رضي الله عنه - أنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة. نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء) متفق عليه، أما إذا انتهكت حرمات الله، فإنه لا يقوم لغضبه - صلى الله عليه وسلم - شيء، فعندما أراد أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن يشفع للمرأة المخزومية التي سرقت. غضب غضبا شديدا، وقال: أتشفع في حد من حدود الله، إلى أن قال في آخر خطبته وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (قدم عيينة بن حصن بن حذيفة على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير فأستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله).

من الناس من يثور لأقل الأمور، وأتفه الأشياء، فقد يدخل على أهله ويجد الغداء أو العشاء غير مناسب نوعا أو عملا فيثور ويقيم البيت ولا يقعده، وربما يشتم ويسب ويهدد ويطلق، وهذا والله مما لا يليق بالمؤمن، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (ليس الخير أن يكثر مالك، وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك. وإن لم تكن حليما فتحلم. قال الغزالي - رحمه الله تعالى -: إن كظم الغيظ يحتاج إليه الإنسان إذا هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب وحينئذ يوصف بالحلم). قال ابن قدامة المقدسي - رحمه الله -: (الكاظم إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن فاحتقن فيه فصار حقدا وعلامة ذلك دوام بغض الشخص، واستثقاله والنفور منه.

إن الغضب أمر جلبي ركبه الله في الإنسان ليدفع الأذى عن نفسه، إلا أن الإفراط منه مذموم لأنه يخرج بالإنسان عن حد الاعتدال ويحمله على تجاوز الحق والصواب، روى الطبراني بإسناد صحيح أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: (لا تغضب ولك الجنة).

وكم يجر الغضب من المآسي والويلات على الأفراد والمجتمعات، فبسببه يفارق الولد أباه، وتفارق الزوجة زوجها، وتحرم أولاده. فإن النفس إذا اشتعلت غضبا عميت عن الرشد وصمت عن الموعظة.

والغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، فلا يزال الشيطان يلهبها ويؤججها حتى تأكل صاحبها أكلا لما، فكم أودت هذه الجمرة بصاحبها إلى أسرة المستشفيات، أو زنزانات السجون، فالغضب كالنار تضيء وتحرق أو كالماء يروي ويغرق. قال رجل لوهب بن منبه - رحمه اله - تعالى -: (إن فلانا شتمك، فقال: ما وجد الشيطان بريدا غيرك). وأمر عمر بن عبد العزيز بضرب رجل ثم قرأ قوله - تعالى -: {والكاظمين الغيظ}، فقال لغلامه: خل عنه.

لم يترك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمته، بل أرشدهم إلى الأسباب المبعدة عن الغضب منها الاستعاذة بالله من الشيطان، استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل أحدهما تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)،

ومن الأسباب التي تطفئ الغضب الوضوء، ورد في الحديث الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). ومنها أن يغير الغاضب هيأته وحالته، روى أبو داود وغيره بإسناد حسن عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع). ومنها السكوت فإنه دواء عظيم للغضب، روى الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: (علموا ويسروا، ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. ثم إن المسلم يجب أن يتذكر الأمور العظيمة والثواب الجزيل الذي رتبه الله على كظم الغيظ، وإسكات الغضب، صح عند الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله - عز وجل - على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور ما شاء).

اللهم أرزقنا خشيتك في السر والعلن، وكلمة الحق في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. وصلى الله على نبينا محمد.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply