الهدية .. وأبعادها النفسية والاجتماعية ( 3 - 3 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

 الهديةُ وثمراتُها الاجتماعية :

إنَّ الهديّةَ هِبَةٌ مِن مُحِبٍّ,، وعَطِيَّةٌ مِن صاحِبٍ, وُدٍّ,º ولذلك جاءَ ذِكرُ (الهديّة) في كتابِ (الهِبَةِ وفَضلِها والتَّحرِيضِ عليها) مِن البُخاري، حيث عَقَدَ لها أبواباً كثيرةً مثل باب (قَبُول الهديَّة)، و(ما لا يُرَدٌّ من الهديّة)، وباب (مَن أهدَى إلى صاحبِهِ، وتَحَرَّى بعضَ نسائهِ دون بعضٍ,)، قال ابنُ حجر: \"فيهِ قَصدُ الناسِ بالهدايا أوقاتَ المسرَّةِ ومواضعَهاº ليزيدَ ذلك في سُرُورِ المُهدَى إليه\".[1]

 

ولِلهَديةِ ثَمَراتٌ اجتماعيةٌ كثيرةٌ، مِنها نَشرُ المحبةِ بين الجيران، ورأب ما قد يحصل بينَهم، كما قال القرطبي - رحمه الله -: \"فإنَّ عائشةَ - رضي الله عنها - إنما سألَت النبي - صلى الله عليه وسلم - عمَّن تبدأ به من جيرانها في الهدية؟ فأخبَرَها أنَّ مَن قَرُبَ بابُهº فإنه أولَى بها مِن غَيرِه\". [2]

 

ولا شَكَّ أنَّ لِلهِديّةِ مَوقعاً عَظيماً في النفسِ الإنسانيَّةِ، بالإضافةِ إلى ثَمراتِها الاجتِماعيَّةَº حتى قالت بلقيسُ: (وإنِّي مُرسِلَةٌ إليهم بِهَدِيةٍ, فَناظِرَةٌ بِمَ يَرجِعُ المرسَلُون)[3] قال قتادة: \"  إن كانت لَعاقِلةً في إسلامِها وشِركِهاº قد عَلِمَت أنَّ الهديةَ تقعُ مَوقِعاً مِن الناس\". [4]

 

الهَدِية مَطِيَّةٌ للأنفُسِ الدَّنِية:

إنَّ مِن خُطورةِ الحِيَلِ النفسِيَّةِ أن تنحرفَ البواعثُ الحقيقيةُ لإعطاءِ الهَديةِº فتفقد معانيَها الإنسانية ودوافِعَها الإيمانية ومَغازيَها التربويّة! وتَنقَلِبُ حينئذٍ, إلى نَوعٍ, مِنَ الأمراضِ الاجتماعيّةِº ذلك أنَّ الهديّةَ تُصبِحُ عند بعضِ الناسِ مَطِيَّةًº لِتَحصِيلِ المآرِبِ السِياسيّةِ واستِغلالِ[5] المكانةِ الاجتماعيّة. وهذا سِرٌّ تخريجِ البُخاريِّ في كتاب (الأحكام) حديثَ الوالي الذي كان يأخذُ الهديَّةَ (يقول: هذا لكم، وهذه هديّةٌ أُهدِيَت لي!) وأخرجَهُ مُسلم في كتاب (الإمارة)º إشارةً إلى علاقتِهِ بالسياسةِ الشرعيّةِ كما يشهد لذلك لفظُ ترجمةِ البخاري التي عقَدَها لهذا الحديث: باب (مُحاسَبَةِ الإمامِ عُمّالَه).

 

الهديةُ والمَكاسِبُ المادية:

وَيوُضِّحُ هذا الاستغلالَ للولايةِ السياسيّة والمكانةِ الاجتماعيّة في تحصيل الهديّةِ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (إنِّي أستعمل رجالاً منكم على أمورٍ, مما ولاني اللهº فيأتي أحدُكم فيقول: هذا لكم وهذه هديّةٌ أُهدِيَت ليº فهلا جلسَ في بيتِ أبيهِ وبيتِ أُمِّهِ حتى تأتيَه هديَّتُهُ إن كان صادقاً)! [6]

وأما المكاسِبُ المادِّيَّةُ التي تُحَصَّلُº تَبَعاً للصِّفَةِ الاجتماعيَّةِ والوظيفةِ السياسيَّةِ، فقد تَرجَمَ الترمذيٌّ في شأنِها في كتاب (الأحكام) باب (ما جاء في هَدايا الأمَراء). [7] أي ما تقرَّبَ الناسُ إلى الأمراء به من الهداياº اعتباراً لوظائفِهم السياسية والإداريةº حيث يكون الدافع استغلال هذا النفوذ واشتراء الذمة بالمال!

وما زال في الوُلاةِ قديماً وحَديثاً مَن يَتقاضَى الهدايا لِقَضاءِ حَوائجِ اللِّئام، ويأكل لأجل ذلك الحلال والحرام! مُتمثِّلاً قولَ القائلِ:

إذا أردتَ قضاءَ الحاجِ من أحدٍ, *** قدِّم لِنَجواك ما أحبَبتَ مِن سَبَبِ!

إنّ الهدايـا لها حَظُّ إذا وَرَدَت  *** أحظَى مِنَ الابنِ عِندَ الوالدِ الحَدِبِ!

 

هَدِيةُ الاختِبار

ذكر المفسِّرُون هديةَ الاختبارِ عند قول بلقيس: (وإنِّي مُرسِلَةٌ إليهم بِهَدِيةٍ, فَناظِرَةٌ بِمَ يَرجِعُ المرسَلُون)[8] قال ابنُ كثير - رحمه الله -: \"قال ابنُ عباس وغيرُ واحد: قالت لِقَومِها: إن قَبِلَ الهديةَº فهو مَلِكٌº فقاتِلُوه، وإن لم يَقبَلها فهو نَبِيُّ فاتَّبِعُوه\". [9] وقال القرطبي: \"هذا مِن حُسنِ نَظرِها وتَدبِيرِهاº أي إني أجرب هذا الرجل بهدية وأعطيه فيها نفائس من الأموال وأغرب عليه بأمور المملكة فإن كان مَلِكاً دُنياوياًº أرضاه المال وعَملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نَبياًº لم يُرضِه المال ولازَمَنا في أمرِ الدينº فينبغي لنا أن نؤمِنَ به ونتبعَه على دِينِه\". [10]

 

انحِرافُ التعامُلِ مع الهَدِية:

وقد انحرفَ فِقهُ الهديّةِ عند بعضِ الأنفُس الدَّنِيَّةِ التي استذَلَّها الطمعُ واستزَلَّها الجَشَعُº فانصرفوا عن المعانِي الإنسانيّةِ للهديَّةِ ودلالاتِها الشرعيّة: مثل التعبيرِ عن الأُخُوَّةِ والمحبّةِ الإيمانيّةِ إلى المكاسِبِ المادّيّةِ والأغراضِ الدّنيويّةِº حتى قال قائلُهم:

ما مِن صَدِيقٍ, وإن أبدَى مَوَدَّتَهُ   ***  بأنجَحَ في الحاجاتِ مِن طَبَقِ!

إذا تقنَّعَ بالمنـديلِ مُنـطلِقاً   ***  لم يخشَ نَبوَةَ بوّابٍ, ولا غَلَقِ!

لا تُكثِرَنَّ فإنَّ الناسَ قد خُلِقوا   ***  لرغبـةِ ما يُعطَون أو فَرَقِ!

ما مِن صَدِيقٍ, وإن أبدَى مَوَدَّتَهُ  ***   بأنجَحَ في الحاجاتِ مِن طَبَقِ!

إذا تقنَّعَ بالمنديلِ مُنطلِقاً لم  ***   يخشَ نَبوَةَ بوّابٍ, ولا غَلَقِ!

لا تُكثِرَنَّ فإنَّ الناسَ قد خُلِقوا  ***   لرغبةِ ما يُعطَون أو فَرَقِ!

 

فهَدايا الناسِ إلى بَعضِهم نابِعةٌ مِن ضَمائرِهم ودوافِعِهم في تَقدِيمِها وتابِعةٌ لمقاصِدِهم في تَحصِيلِها: إمّا قُربةٌ صالِحةٌº يُؤجَرُون عليها، وإمّا عَطِيَّةٌ يأثَمُون بِسَبَبِهاº لِسُوءِ نِيّاتِهم، كما قال الله - تعالى -: (ومِنَ الأعرابِ مَن يَتَّخِذُ ما يُنفِقُ مَغرَماً ويتربَّصُ بِكُم الدَّوائر)! [11]

 

ولله دَرٌّ مَن قال مُبيِّناً علاقةَ خِسَّةِ الهَديّةِ بطبيعةِ الشَّخصيّةِ:

هَديّةُ المرءِ تُنبِـي عن مُـرُوءتِهِ   ***  وعن حَقارةِ مُهدِيها وخِسَّتِهِ!

وما تَحُطٌّ مِنَ الـمُهدَى إليهِ إذا   ***  كانت محقَّرَةً عن قَدرِ رُتبَتِهِ!

فاغفر جريمةَ مَن خَسّت هَدِيّتُهُ   ***  فتلك منهُ على مِقدارِ هِمَّتِهِ!

 

وكأيِّن مِن هَدِيَّةٍ, لا يُعطِيها أصحابُها إلا اعتداءً على الناسِº وإمعاناً في مُحاباةِ الأغنياء وابتغاءَ مَرضاةِ الوُجَهاءº فلا يكون لهديَّتِهم ثمرةٌ يحصِّلُونها إلا العَناء! كما قيل:

قَبُولُ الهدايا سُنّةٌ مُستحبَّةٌ   ***  إذا هي لم تَسلك طريقَ تَحابي!

 

وقد ظهر هذا واضِحاً في الحديث الذي رواه أحمد أنَّ النجاشيَّ ردَّ هدايا مُشرِكِي قريشٍ, لما بعثوا بها إليهº ليسلِّمَهم المستضعفين من المسلمينº فقال: \"رُدٌّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بهاº فواللهِ ما أخَذَ اللهُ منِّي الرشوةَ حين ردَّ عَلَيَّ مُلكِي فآخذ الرشوةَ فيه\"! [12]

 

الهدية والسياسة الدولية:

ولا شكَّ أنَّ هذا النوعَ من (الهدايا) قد استشرى في السياسةِ الدولية المعاصرةº حيث (استُعمِرَت) كثيرٌ من الدول (المستقلّة) التي استجابت لدواعي (الإهداء) والإغواءº فصارت بذلك أسيرةَ المصالحِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والثقافيّةِ والأمنيّةِ للدٌّوَلِ التي تُعطِيها (الإعانات الاقتصاديّة) في مُقابِلِ التنازُلِ عَن قليلٍ, أو كثيرٍ, مِن مَصالحِها الحيويّةº ولا تسأل عن الشٌّعوبِ التي فقدت إرادتَها حين رضِيَت بقبولِ (الإعانات الأمريكيّة)! وكَم مِن دولةٍ, كانت ترفُلُ في أثوابِ الحُريَّةِº فاستخفَّ قادتَها قُوًى دوليةٌ واستعبَدَتهُم بِمُجرَّدِ (هديَّة)! وكم مِن بلدٍ, في العالم الكبيرِ قد ضَيَّعَهُ أهلُهُ في جُنحِ الليلِ وشَرَوهُ بثمنٍ, بَخسٍ, في انتظارِ (الهباتِ) الدوليةِ!

 

يا أيها الناسُ.. إنَّ هذه الدٌّوَلَ التي تَهَبُكم في كلِّ عامٍ, (هَدِيّةً)º إنما تقتل فيكم كلَّ يومٍ, ما تَبَقَّى من مقوِّماتِ (الهويّة)!

 

----------------------------------------------------------

[1] فتح الباري 5/523.

[2] الجامع لأحكام القرآن 5/184.

[3] النمل 35.

[4] الجامع 13/200، وتفسير القرآن العظيم 3/363.

[5] الاستغلال: من الألفاظ المُحدَثَة التي أقرَّها مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، فقد جاء في (المعجم الوسيط ص 692): \"استغلَّ فلاناً: انتفعَ منه بغيرِ حقٍّ,º لجاهِهِ أو نُفُوذِهِ\".

[6] فتح الباري 15/98.

[7] الجامع الكبير للترمذي 3/14. دار الغرب الإسلامي بيروت. ط2. 1418 هـ.

[8] النمل 35.

[9] تفسير القرآن العظيم 3/363.

[10] الجامع 13/196.

[11] التوبة 98.

[12] مسند أحمد 5/292. المكتب الإسلامي بيروت.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply