حاجتنا إلى الأخلاق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد وصف ربنا - جل وعلا - نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وزكاه بحسن خلقه فقال: (ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعمَةِ رَبِّكَ بِمَجنُونٍ, (2) وَإِنَّ لَكَ لأَجراً غَيرَ مَمنُونٍ, (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,).

وقد قالت عائشه - رضي الله عنها - كما في صحيح مسلم -: \"خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن\".

ما ظنك برجل أخرجه قومه من بلده، وقتلوا عمه وأقاربه وصحبه، وأدموا عقبه، وشجوا رأسه، وكسروا رباعيته، ووضعوا سلى الجزور على رقبته، ومنعوه من إتمام عمرته، وعيروه، ووصفوه بالسحر والكهانة، واتهموه في عقله؟

 

ما ظنك برجل يُعمل به هذا، وأشدٌّ من هذا ماذا سيفعل إذا ذل له أولئك القوم، وانكسرت له أنوفهم، ووقفوا بين يديه ينتظرون حكمه، ترى ماذا سيفعل بهم، وما العقوبة التي تشفي غليله منهم؟

 

جاء في صحيح مسلم، وسنن النسائي واللفظ له من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في فتح مكة وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"يا معشر الأنصار إن قريشاً قد جمعوا لنا فإذا لقيتموهم فاحصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفا، الصفا ميعادكم\".

 

قال أبو هريرة: فما لقينا منهم أحداً إلا فعلنا به كذا وكذا، وجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله! أبحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"من أغلق بابه فهو آمن، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن\".

ولجأت صناديد قريش، وعظماؤها إلى الكعبةº يعني دخلوا فيها.

قال: فجـاء رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طاف بالبيت فجعل يمر بتلك الأصنام فيطعنها بِسِيَةِ القوس ويقول جاء الحق، وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.

حتى إذا فرغ، وصلى جاء فأخذ بعضادتي الباب، ثم قال: \"يا معشر قريش ما تقولون\"، قالوا: نقول ابن أخ، وابن عم رحيم كريم، ثم عاد عليهم القول ذلك.

قال: \"فإني أقول - كما قال أخي يوسف -: \"لا تَثرِيبَ عَلَيكُم اليَومَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ\".

فخرجوا فبايعهم على الإسلام، ثم أتى الصفاº لميعاد الأنصار، فقام على الصفا على مكان يرى البيت منه، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر نصره إياه، فقالت الأنصار وهم أسفل منه: أما الرجل - يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أدركته رأفةٌ لقرابته، ورغبةٌ في عشيرتهº فجاءه الوحي بذلك.

قال أبو هريرة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي عنه.

فلما قضي الوحي، قال: \"هيه يا معشر الأنصار! قلتم: أما الرجل فأدركته رأفةٌ بقرابته، ورغبة في عشيرته والله إني لرسول الله، لقد هاجرت إلى الله ثم إليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم\".

قال أبو هريرة: فرأيت الشيوخ يبكون حتى بل الدموع لحاهم، ثم قالوا: معذرة إلى الله ورسوله، والله ما قلنا الذي قلنا إلا ضناً بالله وبرسوله.

قال: \"فإن الله قد صدقكم ورسوله وقبل قولكم\".

الله أكبر لما قدر عليهم عفا عنهم، ودعا لهم بالمغفرة، وآنسهم بقبول إسلامهم.

من ذا الذي يستطيع أن يكبح جماح الثأر، ويملك سورة الغضب في مثل تلك الساعة لولا توفيق الله وعونه؟.

وهذا الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف - عليه السلام - كان صغيراً خطط له إخوتهº فأرادوا قتله، ثم رموه في غيابات الجب، وذهبوا، وتركوه وحيداً، وحرموه من حنان الأب، وحماية القبيلة، وانتقل بعدها إلى غربة الأسفار، ومذلة الرق والاستعباد، ثم تعرض للسجن والابتلاءº كل هذا بسبب إخوته، ولما قدر عليهم وأصبحوا بين يديه، قالوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين.

ثم أقروا بفضله وعُلُوّه عليهم، فقالوا: (تَاللَّهِ لَقَد آثَرَكَ اللَّهُ عَلَينَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِين).

هنا موقف المذنب، ما أشده! وذلة المعصية ما أقبحها!

لكن يوسف - عليه السلام - لم يستغل هذا الموقف، وهذه الذلة من إخوته، بل أراد أن يطمئنهم، ويسلي خواطرهم، ويبشرهم بعفوه ومسامحته، فقال: (لا تَثرِيبَ عَلَيكُم اليَومَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ).

يا لله ما هذه النفوس التي اصطفيت، وأعليت.

ثم انظر إلى مراعاته لمشاعرهم، وترك جلده لذواتهم عندما رفع أبويه على العرش، وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي.

انظر إلى هذا اللفظ لم يصرح بأنهم هم من اعتدى، ولا أنهم هم السبب في كل المصائب السابقة، ولم ينسب الخطأ إليهم، بل قال: (نَزَغَ الشَّيطَانُ بَينِي وَبَينَ إِخوَتِي).

كان بإمكانه أن يقول: من بعد ما تسلط علي إخوتي، أو أرادوا قتلي.

إن هذه الأخلاق العظيمة، والسجايا الكريمه لتزكي النفوس، وتورثها العظمة والسؤدد.

نقول هذا الكلام في زمن أهمل كثير من الناس تَعَلٌّمَ هذه الشعيرة العظيمة، والتواصي عليها، إننا نرى وللأسف الشديد من ينشد الخير ويتحراه لكنه فض غليظ، وما درى هذا المسكين أنه قد فاته خير كثيرº فقد روى مسلم من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"البر حسن الخلق\".

البر جماع الخير في حسن الخلقº ولهذا لا تعجب إذا وجدت هذه العبادة قد كَبُرت على كثير من الناس فإن الموفق من وفقه الله.

إن من سمات أهل السنة والجماعة حسنَ الخلق، ولين العريكة، وطيب المعشر.

وإن من سمات أهل البدع حدة الطباع، وسوء الأخلاق، وتوافقهم على رفض الوفاق، كما أن الاستكبار فيهم ظاهر.

روى البخاري ومسلم من حديث حارثة بن وهب الخزاعي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر \".

فأهل السنة مألوفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.

ولهذا عظمت أجور خصال حسن الخلق فابتسامتك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكف أذاك عن الناس صدقة - كما في صحيح مسلم-.

ألا يستطيع الواحد منا أن يربي نفسه على هذه الخصال؟ ألم يقل ربنا - جل وعلا - في وصف عباده: (وَعِبَادُ الرَّحمَنِ الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الأَرضِ هَوناً وَإِذَا خَاطَبَهُم الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)؟.

روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي لك وجه عند هذا الأميرº فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه.

قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمرº فلما دخل عليه، قال: هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل.

فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله - تعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خُذ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَن الجَاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين.

والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله.

قال عبد الله بن الزبير عن هذه الآية - كما في صحيح البخاري -: (خُذ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ) قال: ما أنزلها إلا في أخلاق الناس.

يا ناشد الخير! يا طالب العلم! من هو قدوتك؟ أليس رسولك؟ قارن بين خلقك، وخلقهº كيف كانت ملاطفته للناس؟ كيف كان يتودد إليهم؟ يقول جرير بن عبد الله - كما في الصحيحين -: \"ما رآني رسول الله إلا تبسم في وجهي\".

إن كثيراً من الناس يعاني مشكلة قائمة في سوء الخلق ليس سببها الجهل كلا بل سببها الحقيقي هو ترك العمل بالعلم، ومجاهدة النفس عليه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply