خلق السماحة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ التقوَى.

عبادَ الله، ثبَت عنه أنّه قال: ((أيسرُ الدّين الحنيفيّةُ السّمحة))[1].

شريعةُ الإسلام كلٌّها خير ورحمةٌ وعدل ومنفَعة للبشريّة في دنياهم وآخِرَتهم لمن قبِلَها وآمَن بها والتزَمَها، ونبيّنا وصفَه الله بأنّه رحمةٌ للعالمين: وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، وقال عنه جلّ جلاله: لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. بعثه الله بالحنيفيّة السّمحَة، رفَع الله ببِعثتِه الآصارَ والأغلال التي [كانت] على مَن قبلنا مِن الأمم حينما وضِعت عليهم عقوبةً لهم قال - تعالى -: وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلالَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم [الأعراف: 157].

 

رفع الله الحرجَ عن هذهِ الأمّة فيما أمَرها به ونهاها عنه: وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ, [الحج: 78]. أخبرنا ربّنا أنه أراد بنا اليسرَ فيما شرعَ لنا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ [البقرة: 185]. وعندما يتأمَّل المسلم هذه الشريعةَ حقَّ التأمّل ليرى السماحةَ واليسرَ جليّين في الأوامر والنواهي، وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [الأنعام: 115].

 

فانظر إلى أصلِ الدّين توحيد ربِّ العالمين وإخلاص الدّين له، لما اشتدَّ الأمر على المسلمين بمكّة وعذِّب الضعفاءُ ومن لا ناصرَ له في الأرض، عذّبوا وأوذوا قال الله لهم: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنُّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106]. فأُبيح لهم النطقُ بكلمةِ الكفر تخلٌّصًا مِن عذابِ المشركين وظلمِهم وعدوانهم وربّك حكيم عليم.

 

ثم انظر إلى فرائضِ الإسلام، انظر إلى الطهارةِ التي جعَلَها الله شرطًا لصحّة الصلاة، وفي الحديث: ((لا يقبل الله صلاةً بلا طهور))[2]. هذه الطهارةُ بالماء التي هي شرطٌ لصحّة الصلاة عندما يفقِد المسلم الماءَ أو عندما يتعذَّر عليه استعمالُه لمرضٍ, أو قروحٍ, ونحو ذلك أبيحَ له أن ينتقِل إلى التيمّم: فَلَم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء: 43]، وفي الحديث: ((وجُعِلت ليَ الأرض مسجدًا وطهورا))[3].

 

انظر إلى الصلاةِ التي هي الرّكنُ الثاني من أركانِ الإسلام، أوجب الله لها القيامَ والرّكوعَ والسّجودَ واستقبالَ القبلة، إذًا فأركانُها وشروطُها قد تسقُط عند العَجز عنها، في الحديث: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع فقاعدًا، فإن لم تستطِع فعلى جَنب، فإن لم تستطِع فمستلقيًا))[4]. فيصلّيها المسلمُ على قدرِ حالِه، وفي الآية يقول الله: فَإِن خِفتُم فَرِجَالاً أَو رُكبَانًا [البقرة: 239]، مستقبلي القبلةَ أو غير مستقبليها عندما تدعو الضرورةُ إلى ذلك. وكم شرَع الله صلاةَ الخوف وما فيها من تخفيفٍ, في الأركانº لأن ذلك من يسرِ هذه الشريعة.

 

ثم انظر ـ أخي المسلم ـ أنَّ هذا الدينَ من يُسرِه وسماحته أنَّ المسلمَ إذا نوى الخيرَ وعجزَ عنه فإنّ الله يثيبه على قدرِ نيّته، في الحديث: ((إذا مرِض العبدُ أو سافر كتَب الله له ما كان يعمَله صحيحًا مقيما))[5].

 

انظر إلى الصيامِ، جعله الله ركنًا من أركانِ الإسلام، شهرًا في العام شهر رمضان. أوجب الله على المقيمِ الصحيحِ أن يصومَ رمضانَ في وقته أداءً، وجعل هذا ركنًا من أركانِ الإسلام، وأباح للمريضِ والمسافِرِ الفطرَ وأن يقضيَا أيّامًا أُخر، وأباح للشيخِ الهرِم الكبير الذي يُعجزه الصيام مُطلقًا أن يطعمَ كلَّ يوم مسكينًا عِوَضًا عن الصيام، ولذا قال الله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ [البقرة: 185].

 

فَرضَ الحجَّ على المسلم في عُمره مرّةً، وجعل هذا الفرضَ مشروطًا بالاستطاعة البدنيّة والماليّة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجٌّ البَيتِ مَن استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَن العَالَمِينَ [آل عمران: 97].

 

وجعل النفقةَ على الزوجةِ والأولاد على قدرِ استطاعة العبدِ: لِيُنفِق ذُو سَعَةٍ, مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَليُنفِق مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق: 7].

 

أيّها المسلم، وشريعةُ الإسلام مِن خُلقِها السماحةُ، والشريعةُ تدعو المسلمَ لأن يكونَ متخلِّقًا بالسماحةِ في تعامُله مع عباد اللهº لأنّ هذه السماحةَ التي يتخلَّق بها المسلم تقوِّي الإيمانَ في قلبه قبل كلِّ شيء وتضعِف الثوابَ له عند الله، ثم تشدٌّ أزرَه بإخوتِه، فتكون المحبّةُ والمودّة سائدةً بين أفرادِ المجتمع.

 

فشريعةُ الله إذا تخلَّق بها المسلمُ في تعامُله مع عبادِ الله حقًّا فإنها تجلِب له المحبةَ والمودّة وتجعل له في قلوبِ العباد محبّةً مع ما سبَق ذلك من رِضوان الله، وما وعَد الله به المسلمَ خيرٌ من هذا كلِّه، وَلَلآخِرَةُ خَيرٌ لَكَ مِن الأُولَى [الضحى: 4].

 

 

أيها المسلم، العبدُ في هذه الدنيا لا بدَّ له من تعامُلٍ, مع الناس أَخذًا وعطاءً والتقاءً مع أفرادِ المجتمع، فلا بدَّ أن يروِّض نفسه [على] السماحةِ في تصرّفاته كلِّهاº في بيعه، في شرائه، في قضائه، في استقضائه حقَّه، في تعامُله مع الناس، في سيرته وجلوسِه معهم وصحبته لهم، في كلِّ الأحوال. فإذا تخلَّق بالسماحةِ يسَّر الله أمرَه وبارك له في أحوالِه كلِّها.

 

أيّها المسلم البيع تبادُل منافع بين الأفرادِ، هذا يبذلُ سلعتَه، وذا يبذل قيمتَها، ونبيّنا أرشد المسلمَ أن يكونَ متخلِّقًا بخلُق السماحةِ في بيعه وشرائه، فيقول: ((رحِم الله امرءاً سَمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتَضَى))[6]، وقال: ((أفضل المؤمنين رجلٌ سمحٌ في بيعِه وسَمح في شرائه وسمحٌ إذا قَضى وسمح إذا اقتضى))[7].

 

نعم أيها المسلم، يكون المسلِم سمحًا في بيعِه، ليس الهدف أن يفرِّطَ في أمواله، ولا أن نقولَ تصرَّف فيها تصرّفَ السفيه فتدفعُها بلا قيمةٍ, تأخذها، هذا لا يقولُه أحَد، ولكنَّ السماحةَ في البيع تتمثَّل بطيبِ النفسِ وسخاءِ النّفس وكرَم النفس وجودِها، أنت بائعٌ ومستفيد، ولكنَّ السماحةَ لا بدَّ أن تصحبَك في بيعك. استقصاءُ الحقوق كاملةً تامّة لا يليق بك في موضعِ البيع، أنت تَبيع وتبحثُ عن الفائدة، وتطلُب المزيدَ من فضلِ الله، ولكن لتكُن السماحة واضحةً عليك وعلى نظراتِك وبسماتك أثناءَ بيعك، فتبيع حقًّا، وتطلُب حقًّك، وتعرِض سِلعتَك، ولكن اعلم أنّ السماحةَ خلُق كريم، وأنّ السماحةَ عنوان كرَم النّفس وجودِ النفس وطِيبِ الخلُق، وهي حقيقتُها عدمُ الاستقصاءِ التامّ في كلّ الأمور. فبعضُ الباعَةِ عندَما تفاوِضه في قيمةِ سِلعةٍ, يريد بيعَها بدَلَ أن يفاوضَك بخلُقٍ, طيّب إذا عرضتَ له سَومًا ما انقضَّ عليك غَضبًا واستهزاءً وسخريّة وقيلٍ, وقال ورفع الصوتَ وأتى ببذاءة ِالقول وفحش اللفظ، ليس هذا مِن خُلُق المسلم.

 

المسلمُ سمحٌ، يطلب حقًّا، ويبيع للاستفادَة، ولكن لا بدّ من السماحةِ في البيع حتى تكونَ الأمور سائرةً على المنهج الصحيح، ولا بدّ للمشتري أيضًا وهو الذي يريد الشراءَ ويرغَب فيه أن تكونَ لدَيه سماحةº سماحةٌ في شرائه، فلا ينبغي أن يكونَ هناك رفعُ صوتٍ, أو تبادُل سوء أو لمزٍ, أو عيبٍ, للبائع أو عيبٍ, لسِلعته أو استنقاصٍ, من قدره أو غير ذلك، لا، بل يكون سمحًا حتى في شرائه وفي بذلِه المال لقيمةِ سلعته، فتكون السماحة ظاهرةً عليه، فيتبادل الناس منافعَهم بنفوسٍ, طيّبة وخلُق كريم وكرَم نفسٍ, وعلوّ همّة.

 

ثم أيضًا المسلم سمحٌ في قضائه، فإذا كانَت الحقوقُ في ذمّته فليكن سَمحًا في قضائِه، بمعنى أن لا يماطِل بالحقوق، ولا يضطرَّ صاحبَ الحقِّ لرفعِ صوتِه فالنبيّ يقول: ((إنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالاً))[8]. فتكون سمحًا في قضائِك بأن تعطيَ الناسَ حقوقَهم في وقتِها، لا تماطل بهم، لا تخدعهم، لا تكذِب عليهم، لا تعطيهم المواعيدَ بعد المواعيد وأنت كاذِبٌ في وعدِك غيرُ وفيٍّ, بما التزمتَ به. إذا كان الأمرُ يشقٌّ عليك فتدبَّر أمرَك قبلَ أن تتعلَّقَ بذمتك حقوقُ الآخرين. فكن سمحًا في قضائِك بأن تحرِصَ على الوفاءِ وتعطيَ الناسَ حقوقَهم طيّبةً بذلك نفسُك غيرَ مماطلٍ, غيرَ كاذب غيرَ هارب، إنما أنت صادِق في الوعد صادقٌ في القول، لا يشعُر منك البائع بكذِبٍ, ولا إخلافِ وعدٍ, ولا أمورٍ, دنيئة، ولا تضطرّه إلى المحاكِمِ والترافُع إليها، بل أنت تَرى حقوقَ العباد واجبًا يذلها بطيبِ النّفس. هكذا يكون المسلم في قضائه.

 

ثم مَن له الحقٌّ أيضًا مطلوبٌ منه أن يكونَ سمحًا في اقتضائه، يراعي شعورَ الآخرين، ويراعي ظروفَهم، ويراعي أحوالَهم، هو حقًّا مطالِبٌ بحقّ ولا شكّ، مطالِب بحقٍّ, وله القول، لكن مع هَذا كلِّه فلا بدَّ من السماحة، فلا تلجِئ أخاك إلى ما لا يطيق، وخاطِبه بالقولِ الحسَن، وحتى في مرافعَتك كن عدلاً وسمحًا في أمورِك، فما يحِلّ المشاكلَ وينهيها بالطّرق الميسَّرةِ السّمحَة فذاك خيرٌ من أمورٍ, تقسو بها القلوبُ وتعظم بها الفجوَة بين الإخوان المسلمينº ولذا شُرِع التيسير في الاقتضاءِ، والله - جل وعلا - قال لنا: وَإِن كَانَ ذُو عُسرَةٍ, فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ, [البقرة: 280]، فأمرنا أن ننظِر المعسرَ عندما نقتضِي منه أن نُنظرَه إن علِمنا فقرَه وقلَّةَ ذاتِ يده، فلنُنظره إلى أن ييسِّرَ الله الأمرَ له، لكن أن نشمتَ به، ولكن أن نفضَحَه، ولكن أن نقولَ ونقولَ فيه ونحن نعلَم أنّه ليس ذا قدرةٍ, على الوفاء فذاك مما حرّم الله.

 

أخبرنا نبيّنا أنَّ عبدًا من عبادِ الله أوقفَه الله بين يدَيه، سأله عن حسناتِه فلم يكن إلاَّ قوله: إني كنتُ أبايِع الناس وآمُر غِلماني أن ييسِّروا على الموسِر ويُنظِروا المعسِر، قال الله: أنا أحقٌّ بالتجاوز منك، فتجاوَز الله عنه[9]. فربٌّنا أكرمُ الأكرمين وأجوَد الأجودين. أخبر أنّه ييسِّر للموسِر فيمهله، وينظر المعسِر المعدِم، لا يترافَع به إلى المحاكم، ولا يضطرّه إلى أن يسجَنَ، ولا يفضحه بين النّاس فيفقِد الناسُ الثقةَ به، ويقول: هذا الذي ماطلَ بحقِّي وظلمني، هذا الكذّاب، هذا الجاحد، هذا الظالم، هذا فاسِد الذمّة إلى آخره، لا يا أخي، إذا علِمتَ عسرَه وقِلّةَ ذات يدِه فاعلم أنّ إنظارَك له إلى القدرةِ صدقةٌ منك على نفسِك وسماحةٌ تخلَّقت بها، تلقى الله بها يومَ تكون أفقرَ الناس ولو لمثقالِ ذرّةٍ, يرجح بها ميزانُ عملِك.

 

أيّها المسلم، القرضُ من المرافِق، يُقرِض المسلم أخاه وقتًا ما، ولهذا شُرِع أيضًا للمقرِض أن يكونَ سمحًا في قضائِه، وشرِع للمقترِض أن يكون سمحًا أيضًا في وفائه. نبيٌّنا محمّد قد جبله الله على مكارمِ الأخلاق وفضائِل الأعمال، فهو خير الخَلق خُلقًا، هو أكمَل الخلق خلُقًا، وأكمل الخلقِ طيبَ نفسٍ, وسماحةَ معامَلة، وأكرَمُ الخلق في كلِّ الخصال الحميدة، وصدق الله إذ قال فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ, [القلم: 4]، فهو ينصِف من نفسِه قبل أن ينصِف الناس منه. اقتَرَض من رجلٍ, بَكرَة صغيرةً، فلما جاء ليستوفيَ المقرِضُ حقَّه قالوا: ما وجَدنا إلاَّ رباعًا خيارًا، قال: ((أعطوه إيّاه، فإنَّ خيرَكم أحسنُكم قضاءً))[10]، فصلواتُ الله وسلامُه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدّين.

 

أيّها المسلم، كن سَمحًا في اقتضاءِ الأُجرةِ، وكن سمحًا في قضاءِ حقِّ الأجير، لا تماطل بالأجير ولا تظلِمه، وكن سمحًا في بذلِ ما تحقَّق عليك في ذمَّتك مِن أُجرة، كما أنَّ المستأجِر يجب أن يكونَ سمحًا فيدفعُ الأجرةَ إلى صاحبها من غيرِ ضرَرٍ, وأذًى يلحقه.

 

أيّها المسلم، والسّماحة مطلوبةٌ منك أيضًا في المعاملاتِ العامّة مع المسلمين، وفي الوضعِ الاجتماعيّ مع المسلمين لا بدّ أن تكونَ سمحًا، سماحتُك تتمثَّل في عفوٍ, عمّن أساء، وفي صلةٍ, لمن قطَع، وفي إعطاءٍ, لمن منَع.

 

أيّها المسلم، اسمع الله يؤدِّب المسلمَ بالأدبِ الحسَن، يقول الله: ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ, [فصلت: 34، 35]، ويقول - جل وعلا -: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمُورِ [الشورى: 43]. فالحِلم على الجاهِل والعفوُ عن السّفيه وتحمٌّل الأذى يكسِبك خلُقًا كريمًا ومكانةً في مجتمعك، وقبل ذلك عند الله الثوابُ العظيم، فتكونُ لك المكانةُ المرموقَة، وتعرَف لك تلك المكارِم بصبرِك وعفوِك وحِلمك عن جاهل وعدمِ مخاطبِتك للسفهاء. يقول الله في وصفِ عبادِ الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحمَنِ الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الأَرضِ هَونًا وَإِذَا خَاطَبَهُم الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان: 63].

 

هكذا سماحةُ الإسلامِ في التعامُل، إنَّ المسلمَ سمحٌ في تعاملِه مع أصحابه، فلا يعاتِب على كلّ خطأ، بل يعفو ويتناسَى ويتجاهَل كثيرًا من الأشياء لتدومَ المودّة والإخاء. أنت مع زوجتِك لو تعاتِبُها كلَّ يومٍ, على كلِّ شيء لسئمت منك وضجِرت الحياةَ معك، ولكن إذا كنتَ تتغاضَى عن بعض الأشياءِ وتتناسى بعضَ الأشياء غير مخلّةٍ, بشرَف ولا دين، ولكن تساهُلٌ وتسامح، عند ذلك تدومُ المودّة.

 

أنس خادِم محمّد، خدمه عشرَ سنين، وها هو أنَس يخبِرنا عن خلُق النبيِّ مع من يخدِمه ومع من يقضِي حاجتَه، يقول أنَس: خدمتُ نبيَّكم عشرَ سنين، والله ما قال لي لشيء لم أفعله: لماذا لم تفعله؟ ولا لشيءٍ, فعلتُه لماذا فعلته؟ [11]. وأخبرنا أنس أيضًا أنّه إذا قرِّب له الطّعام إن أعجَبَه أكَل، وإن لم يعجِبه لم يعِب ذلك الطعامَ، ولكن قال: ((لا أشتهيه))[12]، فما في خُلقِه فضاضةٌ ولا فُحشٌ ولا سوءُ خلُق صلوات الله وسلامه عليه.

 

يقدِّم ربيعةُ الأسلميّ له وضوءَه فيقول: ((يا ربيعة، سلني حاجتَك))، لأنّه قدّم له وضوءَه، قال: ((سلني حاجتك))، كرَمُ النفسِ وعلوٌّ الهمّة يقول لهذا الصحابي لما قدّم له الوضوء: ((سلني حاجتك))، قال: أسألُك مرافقتَك في الجنّة، لقد طلَب أمرًا عظيمًا، وتطلَّعت نفسُه إلى هذهِ الحاجةِ الكبيرة التي يقول الله فيها: فَمَن زُحزِحَ عَن النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ [آل عمران: 185]، قال: ((يا ربيعة، أعِنِّي على نفسِك بكثرة السجود))[13].

 

سماحتُه في إرضاءِ الكلّ وإزالةِ اللَّبس عن كلّ أحد، فأصحابُه الكرام المهاجرون والأنصار كان معَهم في أسمحِ الخلُق وأعلاه وأكمله. لما انتهت غزوةُ حُنين وزَّع غنائمَه وخصَّ المؤلّفةَ قلوبُهم حديثي الإسلام بالأموالِ ترغيبًا لهم في الإسلام وتقويةً للإيمان، وترك أولئك القومَ الذين امتلأت قلوبُهم إيمانًا ويقينًا، فالدّين لا يعدِله عندهم شيء، فكأنَّ الأنصارَ وجدوا في أنفسهم إذ لم يُعطَوا من تلكَ الغنائِم وقال قائلهم: رحِم الله رسولَ الله، وجَد قومَه وعشيرتَه فأعرض عنّا، أو نحو ذلك، فجمَعَهم جميعَ الأنصار ولم يدخِل معهم أحدًا، وقال لهم: ((يا معشرَ الأنصار، ألم أجِدكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟!)) قالوا: الله ورسوله أمنٌّ، ((ألم أجِدكم متفرِّقين فألَّفكم الله بي؟!)) قالوا: الله ورسوله أمنّ، ((ألم أجِدكم عالةً فأغناكم الله بي؟!)) قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ((أتَرضونَ أن يرجعَ الناس بالشاء والبعير وترجِعون بالنبيِّ إلى رحالكم؟! المحيا محياكُم، والمماتُ مماتُكم، الأنصارُ شِعارٌ والناس دِثار))، قال: فبكى القومُ حتّى أخضَبوا لِحاهم وقالوا: رضِينا بالله وبرسولِه[14]. هذا الخلُق العظيم والسماحةُ العالَية التي يزيل فيها ما قد يُلقيه الشيطانُ في النفوسِº ليطهِّرَ قلوبَ أصحابه، فيعرفوا مكانته، صلوات الله وسلامه عليه.

 

يدخل مكّةَ فاتحًا منتصِرًا عاليَ الرأس بنصرِ الله وتأييده، وتجتمع قريش في الحرم ينتظرون مصيرَهم، وماذا سيكون حالهم، فمِنهم من قد قتل منهم مَن قتل، ومنهم من قد آذاه وآذى أصحابه، فماذا سيكون المآلُ والعاقبة؟ فيصعَد الكعبةَ ويقِف ببابها ويقول: ((يا معشر قريش، اذهَبوا فأنتُم الطلقاء))[15]، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.

 

فكن ـ أخي المسلم ـ متخلِّقًا بالسّماحة في أحوالك كلِّها، واقتدِ بنبيِّك، فهو خير قدوةٍ, لك وأسوةٍ, لك في أحوالك كلّها.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].

 

باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إِليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

----------------------------------------

[1] علقه البخاري في كتاب الإيمان مجزومًا به، ووصلَه في الأدب المفرد (287)، ورواه أحمد (1/236)، وعبد بن حميد (569)، والطبراني في الكبير (11/227) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة))، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (1/94)، وقال الهيثمي في المجمع (1/60): \"وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرّح بالسماع\"، وله شواهد كثيرة، ولذا أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (881)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2924).

[2] رواه مسلم في الطهارة (224) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - نحوه.

[3] رواه البخاري في التيمم (335)، ومسلم في المساجد (521) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.

[4] رواه البخاري في الصلاة (1117) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وليس فيه الصلاة مستلقيا.

[5] رواه البخاري في الجهاد (2996) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه نحوه.

[6] رواه البخاري في البيوع (2076) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - نحوه.

[7] رواه الطبراني في الأوسط (7544) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه، قال منذري في الترغيب (2/354): \"رواته ثقات\"، وتبعه الهيثمي في المجمع (4/75)، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (2853). وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في البيوع (1319)، وأبو يعلى (6238)، وقال الترمذي: \"هذا حديث غريب\"، وصححه الحاكم (2338)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1064).

[8] رواه البخاري في الاستقراض (2390، 2401)، ومسلم في المساقاة (1601) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3452)، ومسلم في المساقاة (1560، 1561) عن حذيفة وأبي مسعود البدري - رضي الله عنهما - نحوه.

[10] رواه البخاري في الوكالة (2305، 2306)، ومسلم في المساقاة (1601) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.

[11] أخرجه البخاري في الأدب (6038)، ومسلم في الفضائل (2309) نحوه.

[12] روى البخاري في الأطعمة (5409)، ومسلم في الأشربة (2064) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله عاب طعاما قط، كان إذا اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه سكت.

[13] رواه مسلم في الصلاة (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه.

[14] رواه البخاري في المغازي (4330)، ومسلم في الزكاة (1061) عن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه نحوه.

[15] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: \"حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:... \" فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ التّقوى.

اللهمَّ بارِك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا بفضلك رمضانَ، إنّك على كل شيء قدير.

 

أيّها الإخوة، شهرُ رجَب أحد الأشهر الحرم الذي قال الله فيه: إِنَّ عِدَّةَ الشٌّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم [التوبة: 36].

 

هذا الشّهرُ أحَدُ الأشهرِ الحرم، لكن المؤمنُ مأمورٌ باتّباع محمّد في كلّ أحواله. هذا الشهر ليس له خصوصيّةٌ من جِهة إحياءِ بعضِ لياليه أو صيامِه أو صيامِ بعض أيامه أو عمرة لأجل كونه في رجَب أو صيام أو صدقة في هذا الشّهر خاصّة، كلّ هذه لا أصلَ لها، فلا أصلَ لصلاةٍ, في لياليه، أو صيامِ بعض أيّامه أو كلّه، أو عمرة لكونه رجَب، أو أيّ عملٍ, يخصّ ذلك الشهرَ دون سائر الشهور، فتلك أمورٌ لا أصلَ لها في شريعة الإسلام، والمؤمنُ مأمورٌ بالخير في كلّ الأحوال والتقرٌّب إلى الله بما يرضيه، لكن تخصيصُ هذا الشهرِ بعبادةٍ, لكونِه رجَب هذا أمرٌ لا أصلَ له في الشرع، بل ذلك من البدَع التي نهانا عنها نبيٌّنا حيث يقول: ((من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو ردّ))[1]، وفي لفظٍ,: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))[2].

 

اعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخَيرَ الهديِ هدي محمّدٍ,، وشَرّ الأمورِ محدَثاتها، وكلَّ بدعةٍ, ضَلالة، وعَلَيكم بجمَاعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله عَلى الجَمَاعة، ومَن شَذّ شذّ في النّار.

 

وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى محمّد كما أمَركم بذلِكَ ربّكم حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا [الأحزاب: 56].

 

اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمَّد، وارضَ اللهمّ عَن خلفائِه الرّاشدين...

 

---------------------------------------

[1] رواه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) عن عائشة - رضي الله عنها -.

[2] هذه الرواية عند مسلم: كتاب الأقضية (1718)، وعلقها البخاري في الاعتصام.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply