بمكارم الأخلاق يتفاضل الناس في الإيمان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

  

عباد الله إن لمكارم الأخلاق (التي هي آداب الإسلام) جمال لا يوازنه جمال وحظ الإنسان منها يكون بقدر ما تخلق به من تلك الأخلاق ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متخلقاً بجميعها كان أجمل خلق الله أجمعين. وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق\" وجاء في حديث مرسل أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"حسن الخلق\".

وهذا يدل على أن حسن الخلق ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدين بدونه كالوقوف بعرفات بالنسبة للحج فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"الحج عرفة\" أي إنه ركن الحج العظيم الذي لا يكون الحج إلا به.

ومما يدل على أن للأخلاق مكانة عظيمة أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان وأن أفضلهم فيه أحسنهم خلقاً، جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أنه قال لما قيل له: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيماناً قال: \"أحسنهم أخلاقاً\".

ومن ذلك أن المؤمنين يتفاوتون في الظفر بحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرب منه يوم القيامة وأكثرهم ظفراً بحبه والقرب منه الذين حسنت أخلاقهم، جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً\". ومن ذلك أن حسن الخلق أمر لازم وشرط لابد منه للنجاة من النار والفوز بالجنة وأن إهمال هذا الشرط لا يغني عنه الصلاة والصيام، جاء في الحديث أن أحد المسلمين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها قال: \"لا خير فيها\".

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بأن يحسن خلقه وهو أحسن الناس خلقاً، وكان يقول في دعائه: \"اللهم كما حسنت خَلقي فحسن خُلقي\" ويقول: \"اللهم اهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت\" ومعلوم أنه لا يدعو إلا بما يحبه الله ويقربه منه.

ومن ذلك مدح الله - تعالى - للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن الخلق فقد جاء في القرآن: (وإنك لعلى خلق عظيم) والله لا يمدح إلا على الشيء العظيم، ومن ذلك كثرة الآيات القرآنية بموضوع الأخلاق أمراً بالجيد منها ومدحاً للمتصفين به ومع المدح الثواب، ونهياً عن الرديء منها وذم للمتصفين به ومع الذم العقاب، ولاشك أن كثرة الآيات في موضوع الأخلاق دليل على أهميتها.

وبالتالي فالإكثار من الأخلاق الفاضلة والإقلال منها يَكُونُ جمال الإنسان بنسبة ذلك الإكثار أو الإقلال، وكذلك ترك مكارم الأخلاق شين لتاركها كبير وعلى قدر ما تركه يكون شينه عند الكبير منا والصغير فمهما أكثرت أو أقللت من تركها يكون شينك بنسبة ذلك التقدير. ولذلك انظر إلى الكفار حيث أنهم تركوها كلها ولم يكن عندهم من مكارم الأخلاق شيء تجدهم في قبح لا نهاية له وليس ذلك الحُسن والجمال فيمن اتصف بمكارم الأخلاق عندنا فقط بل عند الله، به يمدح الله المؤمنين المتصفين بذلك ويدخلهم الجنة، فانظر أي نصيب نصيبك من تلك الخلال الحسان لتعرف قدرك وقيمتك عند الله وعند خلقه، إن الألم ليملأ الجوانح على الأخلاق الفاضلة وعلى عشاقها الفضلاء النبلاء ماتت وماتوا، أين أهل الإخلاص الذين يرون الموت خيراً من حياة الرياء.

أين أهل الصدق الذين يرون قطع ألسنتهم أخف عندهم من أن يكذبوا أو يتملقوا أو يداهنوا أو ينافقوا أو يغتابوا أو يتجسسوا على المؤمنين ليزجوهم بالسجون.

أين الذين إذا وعدوا صدقوا، وإذا عاهدوا وفوا، أين أهل العفو عند المقدرة، أين أهل العدل والإنصاف الذين حلمهم مثل الجبال الراسيات. أين الذين يلتمسون الكرب ليفرجوها، أين الذين يبتعدون عن الربا ومعامليه، أين الذين يعرفون الولاء والبراء ولا يألفون ولا يجالسون إلا أهل الصلاح ويبتعدون كل البعد عن أهل المعاصي.

أين الذين يبحثون عن الفقراء الذين لا مورد لهم فينعشوهم بما تيسر من زكاة أو صدقة أو تطوع، دراهم أو طعام أو كسوة. أو يتسببون لهم في وظائف يكفون بها وجوههم عن النظر لما في أيدي الناس.

أين الذين يؤدون الزكاة مكملة لمن يستحقها، لا يحاربون بها، ويبحثون عن أهل العوائد فإذا وجدوهم غير مستحقين لم يبالوا بهم ولم يعطوهم لعلمهم أنها لا تبرأ ذممهم بذلك.

أين الذين يبحثون عن الأرامل والأيتام ليجبروا قلوبهم بما من الله عليهم به، أين الذين يهجرون الفسقة والظلمة والمجرمين حتى ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم. أين الرجل المهذب الذي لا يلتبس في سره ولا في علانيته بحال يستحي من اطلاع العقلاء عليه ولا يعمل عملاً لا يرفعه عند الله درجة ولا يقول قولاً غير مفيد لسامعه فائدة في دينه ولا يضمر لعدوه سوءً إذا سالمه ولا يتخلق إلا بكل خلق جميل. أين الذين لا يعرفون إلا النصح للمسلمين يبعدون عن الغش كل البعد، بعث أبو حنيفة بمتاع إلى شريكه في التجارة حفص بن عبد الرحمن وأعلمه أن في ثوب منه عيباً واستوفى الثمن كاملاً لثوب غير كامل وقيل ثمن المتاع الذي بيع ثلاثون ألفاً أو خمسة وثلاثون ألفاً فأبى أبو حنيفة إلا أن يبعث لشريكه في التجارة يُكلفه أن يبحث عن المشتري ولكن لم يجده بعد البحث عنه. فأبى أبو حنيفة إلا انفصالاً من شريكه وتتاركا بل أبى أبو حنيفة أن يضيف الثمن إلى حر ماله وتصدق به كاملاً من شدة الورع. ويروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان ضرب قيمة كل حلة منه أربعمائة وضرب كل حلة قيمتها مائتان فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها واشتراها ومضى بها وهي على يديه. فاستقبله يونس فعرف حلته فقال للأعرابي بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوي أكثر من مائتين. فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا ومن فيها.

ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك وقال: أما استحيت؟ أما اتقيت الله؟ تربح مثل ثمنها وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها. قال: فهل رضيت له بما لا ترضاه لنفسك.

وروي عن محمد بن المنكدر أن غلامه باع لأعرابي في غيبته من الخمسيات بعشرة فلم يزل يطلب ذلك الأعرابي طول النهار ليرد عليه خمسة حتى وجده فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت. فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا ورد عليه خمسة، ومثل هذا كثير يوجد من الورعين الناصحين الذين يحبون لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم. نسأل الله أن يكثر أمثالهم وأن يقلل الغشاشين السراقين المنافقين الكذابين، أين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. أين الذين يحنون إلى بيوت الله حنين الإلف فارقه الإلف. أين الذين لا يطيب لهم مجلس إلا عند كتاب الله والبخاري ومسلم وسائر السنن أو ما أخذ منها أو ما هو وسيلة إليها. أين الذين إذا فاتهم قيام الليل جلسوا يبكون على ما فات. أين الذين درسوا سيرة المصطفى وأصحابه فكأنهم بينهم يترددون. أين الذين يتقدمون إلى بيوت الله قبل الوقت ويسبحون ويهللون، مات هؤلاء، وبلية من أكبر البلاء أن نفقد هذا الطراز، فهل لك يا أخي أن تسلك سبيل هؤلاء لتكون قدوة ومثلاً للعاملين. وتفوز برضا رب العالمين فتحظى بالفوز بسكنى جنات النعيم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الحور العين والفواكه وغير ذلك فإن رغبت في ذلك فاجتهد في تحسين عملك الذي هو المهر لذلك: قال بعضهم:

فإن كنت للمهر الذي عز عليك قادرا***** فنافس وسابق نحوها كل سابق

وإن كنت مثلي عاجزاً فارض بالدنا***** فبالدون يرضى الدون عند العلائق

رعى الله من أضحى وأمسى مشمراً***** لنيل المعالي قاطعاً كل عائق

إلى أن علا فوق المقامات في العلا ***** ونال المنى من قرب مولى الخلائق

 

اللهم اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار، ونجنا من عذاب النار وأسكنا الجنة دار القرار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نقلا من كتاب موارد الظمآن لدروس الزمان تأليف عبد العزيز محمد السلمان

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply