الإيثار ( قصة قصيرة )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ثلاثون ريالاً كل ما في الجيب.. يا إلهي!

إما أن أركب لمسافة مشوار واحد، وأقطع مسافة المشوار الثاني مشياً على الأقدام، وبذلك أكون قد ادّخرت الخمسة عشر ريالاً المتبقية ليوم غدٍ, صباحاً، لنفس الغرض.

وإما أن أركب الآن لمسافة مشوارين معاً بالثلاثين كلها، وبالتالي سأقطع المسافة كلها غداً مشياً.

وعند ظهيرة يوم غدٍ, بمشيئة الله - آخر يوم من الشهر - أكون قد استلمت الراتب، وسوف أتبحبح بالركوب للمشوارين معاً.

أما إذا تأخرت المرتبات عن موعدها - وهذا ما يحدث بالفعل في بعض الشهور - فأستلف من أحد زملائي عادل أو ماجد شيئاً من المال لأتواصل به - إن كان معهما – وإلا... آه! فسوف أقطعها كاملة على الأقدام، أمام هذين الخيارين فَضَّل جلال، الذي خرج للتو من عمله في صنعاء الخيار الأول بعد أن تيقن أن المبلغ الذي معه ليس سوى ثلاثين ريالاً.

ها هو ذا ينزل من الحافلة في شارع (الرياض).

شمس آخر أيام تموز الشديدة الحرارة تسطع فوق رأسه، وهو يقطع شارع (بغداد)، يحثّ الخطى نحو منزله الذي كلفه كثيراً من مرتبه مقابل سكناه.

يأخذ نفساً عميقاً وهو ينظر لإحدى البقالات ممتلئة بالفواكه بشتى أصنافها، فهناك التفاح الأحمر الطازج، وهناك في الجهة المقابلة المانجو والبطيخ، وما بينهما تتدلى عناقيد العنب بألوانها الجذابة، إلى غير ذلك.

وعلى بضعة أمتار من هذا المنظر الشهي هناك منظر بهي، مستودع للُعب الأطفال بأحجامها، وأشكالها المختلفة، وبألوانها الزاهية.

زفر جلال زفرة تنمّ عن شظف العيش، تذكر زوجته الطيبة الودود، وولديه المشرقين إشراقة الصباح اللذين تركهما صباحاً وهما يلحان في الطلب:

(بابا): تفاحة، (بابا): لعبة.

آه! خمسة عشر ريالاً، ماذا تجدي؟ غداً إن شاء الله أربع تفاحات ولعبتين.

ماذا لو كان لديه من المال ما ينفّس ويروّح به على نفسه وأسرته، تمنى لو كان مسئولاً كبيراً في الدولة، المال يتدفق من حوله، الفلل الجميلة ببساتينها ومائها ورونقها مفّتحة الأبواب، السيارات الجديدة الفخمة بين يديه.

(أعوذ بالله منك يا شيطان) صحا من حلمه، تذكر أن الغنى قد يفسد عليه حياته وأولاده، ويفسد عليه صلاحه، وينفّر الناس منه، يكفي أنه محبوب لدى أهله وذويه وجيرانه ومن يعرفونه، هذا هو الغنى وهذه هي السعادة الحقيقية.

خمسة عشر ريالاً، ليكن ذلك، هذا خير، سأركب بها غداً.

وقبيل أن يتجه للمدخل الفرعي من شارع بغداد باتجاه منزله، قاطعه رجل عليه أثر التعب، في الأربعين من عمره، هكذا توحي ملامحه: شعر رأسه الأسود بدأ يغزوه الشيب، ضخم الجسم، طويل القامة، مهذّب الشكل.

ما إن ردّ عليه السلام جلال وصافحه، حتى قال بلغة يشوبها الحياء والخجل والتردد، لغةٍ, يتبين المصغى إليها بأن صاحبها يقف مثل هذا الموقف لأول مرة، قال: العفو منك يا أخي، أرجو منك - إن تكرّمت - مساعدتي بقيمة المواصلات التي توصلني إلى (شُميلة)*.

ولكي يثبت حاجته الماسّة أردف: منزلي هناك، وجيبـي صفر، وأنا...

لم يستطيع جلال أن يرفع نظره في نظر الرجل حياءاً من موقفه أمامه، وحياءاً من حقارة المبلغ الذي في جيبه.

لكن لم يدعه يكمل كلامه، وقبل أن يفترقا، ودون أن ينبس جلال بكلمة، وقد بدت علامات التأثر في إطراقته، أدخل يده في جيبه آلياً وأعطاه الخمسة عشر ريالاً!!.

______________________

* منطقة في صنعاء.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply