مظلومون في مجتمعاتنا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وقفة إنصاف!

هذا هو الشعار الذي ترفعه نخبة من مفكرينا الذين ساءهم ما يتعرض له المبتلون في مجتمعاتنا من ظلم وإساءة فهم، ومعاملة، فهم مهمشون اجتماعيًا، مشوهو الصورة إعلاميًا، يتم التعامل معهم بمرجعيات بعيدة عن الموقف الإسلامي الجميل من هذه الفئة التي لم يخل منها المجتمع الإسلامي الأول، الذي قدم أروع صور احترام وتقدير أصحاب الابتلاءات.

 

شهادة هؤلاء المفكرين نقدمها لتكون دعوة لإعادة النظر فى مواقفنا الأسرية، والاجتماعية، والإعلامية من ذوى الاحتياجات الخاصة.

د. عبد المقصود باشا - أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: إذا طالعنا التاريخ الإسلامي وجدنا أمثلة ونماذج كثيرة تحض على التعامل الخاص والسوي مع ذوى الاحتياجات الخاصة، بل إن الله جل فى علاه أمر بذلك، وحض عليه، بل ووجه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عتابًا حتى يلقى مثل هؤلاء الناس العناية كلها من المجتمع.

 

وكلنا يعرف سبب نزول سورة (عبس)، والتوجيه لنا جميعًا بقوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى}، فقد عوتب خير البشر لتوليه عن شخص «أعمى» لا يراه، ولكن الله - سبحانه وتعالى - يريد أن يربى خلقه على توقير هؤلاء وتقديرهم، والاهتمام بهم.

 

ويضيف د. عبد المقصود أن مفهوم ذوى الاحتياجات الخاصة فى الإسلام لا يقتصر على المبتلين أو المعاقين، فالمسنون وفاقدو العائل لهم احتياجات خاصة أيضًا، اعتنى بها الإسلام.

 

فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقابل عجوزًا يهوديًا يتكئ على عصاه، يتسول فى الطرقات، فيسأله عمر: ما ألجأك إلى هذا؟ فيقول العجوز اليهودى: الحاجة، فيأخذه بيده، يكاد أن يحمله، ثم يذهب به إلى خازن بيت المال، فيقول له عمر (رضي الله عنه): أيها الخازن انظر إلى هذا وأقرانه، فليكن لهم نصيب شهري من بيت مال المسلمين، فلا يضطرون بعدها إلى ذل المسألة.

 

فتأمل أيها القارئ الكريم قول الله - عز وجل - تجاه الأعمى، وتصرف عمر بن الخطاب تجاه اليهودى الطاعن في السن، أبعد هذا يمكن أن تكون هناك حضارة اهتمت بهذه النوعيات من البشر قدر اهتمام الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة؟

 

فقد قال ابن بطوطة - صاحب الرحلات العظيمة - التي جاب فيها أقطار الدنيا فى عصره أنه رأى أثناء رحلته إلى الأندلس دارًا واسعة الأرجاء، فيها المتنزهات والمستشفيات والمطابخ، فلما سأل لمن هذه الدور الكثيرة ذات الأسوار الضخمة والمطابخ العديدة، والمشافي المتخصصة، فقيل له: إنها للمطلقات والعوانس الذين قعدت بهن ظروف الحياة.

وكانت هذه الدور تسع ألف مطلقة وعانس، تؤمن فيها حياتهن من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، وعلاج.

 

ولم يكن مثل هذه الدور فى كل بلاد أوروبا في ذلك الوقت، ولا شك أن المطلقات والعوانس أيضًا ذوات احتياجات خاصة.

 

الصورة الحسنة

د. شعيب الغباشي - أستاذ الصحافة الإسلامية بجامعة الأزهر: إذا قيمنا دور وسائل الإعلام في خدمة المعوقين نجدها تركز على فئات مجتمعية معينة، وتغفل وتتغافل، وتهمش فئات أخرى، وهذا لون من الضعف وقلة التوازن في تناول هذه الوسائل، ومن هذه الطوائف المهمشة فئات ذوى الاحتياجات الخاصة، فلا نكاد نراهم فى وسائل الإعلام.

 

وإن حدث فإنهم يظهرون بصورة مشوهة وسلبية تقزز المشاهد، وتدفعه إلى عدم الاكتراث بهم، ومثال ذلك ما تم عرضه في فيلم يقدم قصة رجل كفيف غير مستقيم الأخلاق، وغير منضبط التصرفات، ويمارس الفاحشة، ويقترف ما يتناقض مع ما يتوهم البعض أنه عليه من دين أو علم شرعي.

ويقع على عاتق وسائل الإعلام إبراز الواقع الذي يعيشه هؤلاء المبتلون بصورته الحقيقية من غير تزييف، أو محاباة.

وعلى الجانب الآخر هؤلاء لهم احتياجات إعلامية وفنية وتربوية، على وسائل الإعلام أن تلبيها لهم، وأن تحققها، بمعنى أن تقدم أعمالاً خاصة بهم ولهم مترجمة بلغة الإشارة للصم والبكم، وتهتم بالمؤثرات الصوتية للمكفوفين، ويجب تعميم خدمة الترجمة هذه فى كل المسلسلات والبرامج، حتى تحقق هدف التواصل مع هذه الشريحة المهمة فى المجتمع والمهمشة في الحياة.

 

عباقرة ومبدعون

د. محمود حماد - أستاذ الإذاعة والتليفزيون بقسم الصحافة والإعلام جامعة الأزهر: إذا اعتبرنا أن الأطفال المبتلين مشكلة، فينبغي أن تتولى الدولة عنايتها بدراسة هذه المشكلة، وتقديم الحلول التي تساعد أسر هؤلاء الأطفال على التعامل معهم، فتقيم المراكز التأهيلية والترفيهية والتربوية التي تأمن فيها الأسر على أبنائها، وتقدم فيها خدمة حقيقية، بحيث لا يقتصر الأمر على الرعاية أو الاهتمام فقط من ناحية الأكل والشرب، وإنما ينبغي أن تمتد الرعاية إلى الناحية الطبية والنفسية والإعداد والتدريب، حتى تنمو القدرات الخاصة عند هؤلاء الأطفال، بحيث يتعلمون مهارات وخبرات تمكنهم من إعالة أنفسهم، أو الاعتماد على المجتمع فى أدنى الحدود، وبالتالي يجب على كل أجهزة الإعلام فى الدولة أن تقدم الصورة الإيجابية لهؤلاء، باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من كيان المجتمع، وليسوا مجرد تمائم أو شيوخًا طيبين فهؤلاء الناس يمكن أن يكونوا عباقرة ومبدعين، وقد حدث ذلك بالفعلº إذ قامت إحدى عالمات النفس الاجتماعي حول احتياجات المعاقون، وكيفية تنمية المهارات عندهم، وتمكنت بالفعل من إخراج مبدعين في مجالات عديدة من خلال بعض النماذج التي انتقتها، وأعدت لها برامج تدريب ورعاية وتأهيل جيدة.

 

عدم الخجل

د. سعيدة أبو سوسوا - أستاذ الصحة النفسية بكلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر: بدأت وسائل الإعلام تهتم في هذه الأيام بذوي الاحتياجات الخاصة أكثر من السنوات الماضية، والدور الذي يقع على عاتقها من وجهة نظري هو دور التوعية المستنيرة التي تعتمد على النظرية والتطبيق.

 

وتبدأ هذه التوعية داخل الأسرة بدءًا بالأم وتدريبها على كيفية التعامل السوي مع ابنها المعوق، وألا تحرج منه، فبعض الناس قد يخجلون من ابنهم المعوق لنقص في أنفسهم، ولجهل في دينهم، ولهؤلاء أقول: لا تخجلوا من أطفالكم المعوقين، وكونوا لهم سندًا في هذه الحياة، فهم نعمة عظيمة لمن صبر عليها، وأحسن استخدامها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه»، فهذا فضل تشاركون فيه الأنبياء، وأولى الصبر من الناس.

 

وأقول لأم المعوق: لا تفرقي في المعاملة بين طفلك المعوق وبين إخوته العاديين بدعوى أنه لا يفهم، فمن الواجب عليك أن تحيطيه بمزيد من العطف والحنان والرعاية، خصوصًا إذا كان مبتلى ذهنيًا، وليس الرعاية حكرًا على الأم وحدها، بل واجبة على الأسرة كلها من الأب والأبناء والأهل والأقارب، فهؤلاء عليهم جميعًا مساعدة الأم في ذلكº لأن الطفل المبتلى يحتاج إلى رعاية خاصة، وخدمات أكثر من الفرد العادي.

 

وتضيف د. سعيدة: إنني أعيب على بعض الآباء ضجرهم بأولادهم المعوقين مع أن الرسول-صلى الله عليه وسلم - قال فى حديثه الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع فى بيته ومسئول عن رعيته»، وهذا الضجر خطأ كبير، وقسوة غير مقبول، فهؤلاء يتسمون بقدرات عقلية محدودة لا تتفق مع أعمارهم.

ومع الأسف الشديد نحن نرى في مجتمعاتنا أناسًا قد نزعت الرحمة والشفقة من قلوبهم، وربما يكونون من أهل هؤلاء الأطفال، ويستغلون المعوقين استغلالاً سيئًا بحثًا عن التربح المشبوه من خلال التسول.

وعلى الأسر المسلمة التي أصيبت بنوع من هذا البلاء أن توجه اهتماماتها نحو تنمية قدرات هؤلاء الأطفال، ودفعهم نحو التعلم، وحتى لا يقعوا فى براثن الجهل والأمية اللذين يزيدان الأمر سوءًا، وليبتغوا من وراء ذلك الأجر والثواب من الله الكريم.

 

سياسة الدمج

د. أمينة كاظم - أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس: على المجتمع أن يتقبل هؤلاء الأفراد بصدر رحب، وأن يتبنى سياسة الدمج بينهم وبين غيرهم من الأفراد العاديين، خصوصًا فى المدارس والنوادي والمحافل الترفيهية، مع العمل على رفع كفاءتهم المهارية عن طريق متخصصين مهرة، خاصة في السن المبكرة في الحضانة، وفي مراحل التعليم المختلفة ليكونوا فيما بعد أعضاء فعالين في المجتمع ومتكيفين مع واقعهم المقدر والمحتوم، وقد رأينا الكثيرين منهم قد تحدوا الإعاقة، وهبوا يشاركون في الأنشطة المختلفة خاصة الرياضية منها، والتي قد يعجز عنها إنسان عادى فنراهم في مباريات السباحة وغيرها، وقد تفوقوا على غيرهم.

 

ونشاهد أيضًا الكثير من إنجازاتهم المحلية والعالمية في كافة مجالات الحياة، وما ذلك كله إلا لأنهم تحدوا إعاقتهم، وتمكنوا من إرادتهم حتى قويت فيهم.

 

تنمية الجوانب الإيجابية

د. رفعت عبد الباسط - أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية جامعة حلوان: هم فئة من فئات المجتمع يجب الاهتمام بهم، والوقوف بجانبهم، وتقديم الرعاية الكاملة لهم من الدولة والمجتمع، بحيث يكون لهم دور إيجابي، ويجب توعية الناس بأصول التعامل معهم، وإنشاء مؤسسات تنظم دورات تدريبية لهم، وللتعرف على خصائصهم النفسية، والأخطاء التي قد يرتكبها الآخرون في التعامل معهم، والحمد لله يوجد الآن الكثير من هذه المؤسسات.

 

ولابد أن نركز على الجوانب الإيجابية فيهم، حتى يصل إليهم أن كل إنسان فيه نقص وقصور، والكمال لله ولرسوله، فبعض الناس يميل إلى التعلم، والبعض الآخر يعرض عنه، وبعضهم يخاف، والبعض الآخر شجاع وهكذا.

 

فما من إنسان على وجه البسيطة إلا وفيه جوانب نقص تجبرها جوانب تميز أخرى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply