البراعة في الحديث


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بين فيه أن الناس لا يحبون أن تزجي الوقت في الحديث عن نفسك وتجاربك وخبراتك ثم تتجاهل الآخرين ولا تستمع إليهم فإن لهم تجارب وخبرات وأطروحات.

إن أردت أن تكسب ودهم وتظفر بصداقتهم فأتح لهم الفرصة ليتحدثوا عن تجاربهم وأحسن الإصغاء والاستماع إليهم، وأشعرهم باهتمامك بهم.

الكثير من الناس ابتلي بالثرثرة وكثرة الكلام والحديث عن نفسه وإنجازاته وخبراته ولا يتيح مجالاً للآخرين في الحديث إما ترفعاً، أو محبة للاستئثار أو حباًّ للظهور، وهذا قد جنى على نفسه من عدة أوجه: حرم نفسه من خبرات وتجارب الآخرين لاستئثاره بالحديث دونهم، واكتسب ازدراء الآخرين وتهكمهم به لعدم إتاحة الفرصة لهم في الحديث، وحرم نفسه أيضاً من مجالسة أهل الخبرات والطاقات والقدرات المتميزين لأن مثل هؤلاء لا يحبون تضييع أوقاتهم عند من يستأثر بالمجلس للتحدث عن إنجازاته.

لقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدب الحديث واحترام الناس في المجالس وإتاحة الفرصة للمتحدث لكي يقول ويبدي ما عنده.

بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصغي إلى حديث أعدائه ويتيح لهم الفرصة ليتحدثوا عن كل ما في أنفسهم ويظهر اهتمامه بذلك حتى وهو ينقل له ألفاظ السب والاتهام.

كما روى جابر بن عبد الله قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا. فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه. فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد.

فأتاه عتبة فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرد عليه شيئاً. قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك. إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشَتَّتَّ أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب. لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً. والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بسم الله الرحمن الرحيم ?حم تنزيل من الرحمن الرحيم? حتى بلغ: ?فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود? [فصلت: 1-13]. فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا.

فرجع إلى قريش، فقال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا والذي نصبها بَنِيَّةً، ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود(1).

ثم قال: وكثير من الناس يؤثر فيهم سؤالك عن عمله وتخصصه وإصغائك لحديثه، وإظهار الاهتمام والإعجاب بتخصصه، حتى ولو لم تكن تعلم عنه شيئا.

لقد لقي هذا الجانب اهتماماً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان كثيراً ما يثني على أصحابه ويظهر بروزهم في الجوانب التي يفوقون بها غيرهم، كما قال في شأن خالد بن الوليد: «حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم»(2)، وقال أيضاً: «أرحم أمتي أبو بكر وأشدها في دين الله - عز وجل - عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبي بن كعب الأنصاري، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن لكل أمة أمين وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(3).

يقول كعب بن مالك لما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس عن كعب فقال العباس: هذا كعب بن مالك. قال كعب: فلا أنسى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشاعر؟

 

---------------------------------------

(1) مسند عبد بن حميد [1123]، ومسند أبي يعلى [1818].

(2) صحيح البخاري [4014].

(3) رواه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (6/227) وصححه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply