السفر آداب وسنن وأحكام


  

بسم الله الرحمن الرحيم

في السفر التمتع بمظاهر الطبيعة الخلابة، ومباهجها الجذابة، ومياهها المنسابة، فالمسافر يتأمل الجبال الشاهقة[1]، والبراري والقفار الواسعة، والبحار والأنهار العجيبة، وأنواع المخلوقات من حيوان وطير ونبات، وكلٌّ ذلك شاهد بوحدانية الخالق جل جلاله، يتأمل ويتدبرها من رزق حسن البصيرة والتفكر.

وقد أمر الله - تعالى -بالسير في الأرض للتدبر في خلقه، فقال: (قُل سِيرُوا فِي الأَرضِ فَانظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ).

قال بعض الحكماء: المسافر يسمع العجائب، ويكتب التجارب، ويجلب المكاسب، وقال آخر: الأسفار مما تزيدك علماً بقدرة الله وحكمته، وتدعوك إلى شكر نعمته.

 

تلك الطبيعةُ قِف بنا يا ساري *** حتى أُريك بديع صنع الباري

فالأرض حولك والسماءُ اهتزتا *** لروائع  الآيات  والآثار

ولقد تمر على الغدير تُخُالُه *** والنبت مرآةٌ زهت بإطار

حلو التسلسلِ موجهُ وخريره *** كأناملٍ, سارت على أوتار

ينسابُ في مخضلَّةٍ, مبتلَّةٍ, *** منسوجةً من سندسٍ, ونضار

وترى السماء ضُحىً وفي جنح الضحى *** مُنشقةً عن أنهرٍ, وبحار

في كلِّ ناحيةٍ, سلكت ومذهبٍ, *** جبلان من صخرٍ, وماءٍ, جار

 

وإن من نعم الله - تعالى -علينا أن يسر لنا وسائل السفر الحديثة المريحة التي لم تكن موجودةً من قبل، قال - سبحانه - عن الأنعام: (وَتَحمِلُ أَثقَالَكُم إِلَى بَلَدٍ, لَم تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُم لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالخَيلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَركَبُوهَا وَزِينَةً) قال الشيخ أبو بكر الجزائري - حفظه الله - في تفسيره عند قوله - تعالى -: (وَيَخلُقُ مَا لا تَعلَمُونَ): \" أي: مما هو مركوبٌ وغير مركوبٍ, من مخلوقاتٍ, عجيبة، ومن المركوب هذه السيارات على اختلافها، والطائرات والقطارات السريعة والبطيئة، هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده \".

وهذه السطور جمع مختصر لآداب وأحكام وسنن السفرº فاستحضر- أيها المسافر - النية الصالحة فإنما الأعمال بالنيات، وابدأ بصلاة الاستخارة فهي مسنونةٌ في الأمور المباحة والمندوب إليها، والحكمة منها قبل السفر إبطال الاستقسام بالأزلام وهو ما كانت تفعله العرب في الجاهلية قبل الإسلام، وتشرع الوصية قبل السفر لأنهُ مَظِنَّةُ هلكةٍ,، وتجب لمن عليه دينٌ أو وديعة أو عليه واجب.

 

وقد وصَّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسافر بتقوى الله - تعالى -لأن التقوى خير الزاد، وينبغي رد الودائع إلى أصحابها لأنها من الأمانة، وكذلك إرضاء الوالدين وتوديعهم مع الأهل والإخوان، ومن السنة التوديع بما قاله - عليه الصلاة والسلام - لابن عمر: \" أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك \" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني - رحمهم الله - تعالى -.

 

ومن المهم إعداد نفقة السفر والإكثار منها ويجب أن تكون خاليةً من الربا والحرام، فالمسافر لا يدري ما يعرض له في سفره، والسفر مظنة الحاجة إلى النفقة ولأجل أن يبذل في طريقه ويواسي بها المحتاج، ومن السنة قول دعاء الخروج من المنزل، وينبغي أن يختار المسلم لسفره الصحبة الطيبة، وقد قيل: الرفيق قبل الطريق، وقيل أيضاً:

يزينُ الغريبُ إذا ما اغترب *** ثلاثٌ فمنهن حسن الأدب

وثانيةٌ حسنُ أخلاقهِ *** وثالثةٌ اجتناب الرِّيب

ويستحب الخروج يوم الخميس لقول كعبٍ, بن مالك - رضي الله عنه -: \" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في غزوة تبوك يوم الخميس وكان يُحبٌّ أن يخرج يوم الخميس \" رواه البخاري.

وحافظ على دعاء ركوب السيارة فإنه مهمٌ، ولا تنس دعاء السفر فهو دعاءٌ عظيم، يُطمئن القلب، ويفرح النفس، وهو حفظ للعبد بإذن الله - تعالى -، ومن السنة التأمير في السفر لقوله - عليه الصلاة والسلام -: \" إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ, فليؤمروا أحدهم \" رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح.

وينبغي على أمير الجماعة أن يتفقد جماعته ويشجع الضعيف ويعين المحتاج، وعليه أيضاً وعلى رب الأسرة الاستفادة من أوقات السفر وعدم صرفه كُلِّهُ للهو واللعب، بل يخالطه درس علميٌ، وطرائف مفيدة، وقراءة لكتاب الله، ومسابقات ممتعة، وسماع الأشرطة النافعة.

ويشرع للمسافر بذل المعروف خلال رحلة السفر، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ويستحب التناهد في السفر والنهد: أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئاً من النفقة يدفعونه إلى رجلٍ, ينفق عليهم منه ويأكلون جميعاً.

قيل للإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أيٌّما أحب إليك يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق؟ قال: يرافق، هذا أرفق يتعاونون، وقد تناهد الصالحون، كان الحسن إذا سافر ألقى معهم، ويزيد أيضاً بقدر ما يلقي - يعني في السفر -.

وينبغي توزيع العمل خلال السفر بين المرافقين، ليكون السفر أحسن نظاماً وترتيباً، وعلى كل مسافرٍ, أن يحافظ على الآداب الشرعية، وأن يعطي الطريق حقه، وينبغي على سائق السيارة إذا أحس بالنعاس أن يتوقف ليُنيبَ غيره أو يتوضأ ليجانب النعاس، أو يتناول أكلاً أو شراباً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

وإن مما يحذر منه إلقاء النفايات ونحوها من نوافذ السيارات وهذا في الحضر والسفر فإن ذلك من الأذى وسوء الأدب، وقد جاء الشارع بالأمر بإماطة الأذى عن الطريق وأنه صدقه، متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وينبغي على الصحبة في السفر مناصحة الآخرين وإرشادهم إلى كل خيرٍ, والتعاون على البر والتقوى فالدين النصيحة، والمسلم يراد منه أن يكون مباركاً أينما كان، ويكون ذلك بالنصيحة الفردية، وتوزيع الأشرطة والكتب والمطويات النافعة فإن لها أثراً واضحاً ملموساً، وربما أنك أهديت شريطاً وسمعهُ عاص أو مقصر فكان سبباً لهدايته وصلاحه، ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق.

وإذا ضل المسافر الطريق فينبغي أن يقول (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) وقد ذكر هذا الذكر العلامة ابن عثيمين عن شيخه العلامة ابن سعدي - رحمهما الله - تعالى - عندما ضلَّ الطريق فهداه الله إليه.

وينبغي الرفق بالسيارة فلا يسير بها مسافةً طويلة خارجةً عن العادة فذلك مدعاة لفسادها وتعطيلها، وإذا نزل المسافر ليلاً فينبغي عليه أن يتباعد عن الطريق لما جاء عنه - عليه الصلاة والسلام - كما في صحيح مسلم: \" وإذا عرَّستُم بالليل فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل \".

وأن يقول دعاء المنزل وهو (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهو هام جداً، ويستحبٌّ الاجتماع عند النزول وعند الأكل لأن فيه القوة والعزة والمنعة والبركة، وإذا كان مع المسافر نساءٌ فعليه أن يرفق بهن أكثر، وليكثر المسافر من دعاء الله - تعالى -لنفسه ولوالديه ولجميع المسلمين، والدعاء على الكفرة والمشركين والمعتدين ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني - رحمهم الله - تعالى - قال - عليه الصلاة والسلام -: \" ثلاثُ دعواتٍ, مستجاباتٌ لا شك فيهن، دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم \".

ويستحب للمسافر التكبير إذا صعد الثنايا، والتسبيح إذا هبط، وأن يقول دعاء دخول القرية ونحوها، كل ذلك صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن أحبه تمام المحبة وأحب سنته فعليه أن يتعلمها ليكون على بينةٍ, وعلى بصيرةٍ, من دينه جعلنا الله من أتباع نبيه ظاهراً وباطناً إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.

 

ومن الأحكام المتعلقة بالسفر ما قاله الإمام ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: \" لا يجوز للإنسان أن يترخص برخص السفر، لا في ترك صيامٍ, ولا قصر الصلاة، ولا تيمم حتى يغادر البلد، - ولو كان قد شد رحله - فهو في البلد فلا يترخص \".

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأعمال التي تفوته بسبب المرض أو السفر تكتب له وإن لم يعملها فقال فيما رواه البخاري - رحمه الله تعالى -: \" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً \".

ويشرع الأذان للمسافر ولو كان واحداً فإنه لا يسمع صوت المؤذن في الفلاة شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة، وأما المسافة التي تعتبر مسافة قصرٍ, فقد قال الإمام ابن باز - رحمه الله تعالى -: \"...لو سافر ثمانين كيلاً أو ما يقارب ذلك فإنها تعتبر مسافة قصر عند جمهور أهل العلم \".

وأما بالنسبة للجمع فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: \" فعل كلِّ صلاةٍ, في وقتها أفضل إذا لم يكن به حاجةٌ إلى جمعٍ,، فإن غالب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يصليها في السفر، إنما يصليها في أوقاتها، وإنما كان الجمع منه مراتٍ, قليلة \".

وقال عن صلاة الجمعة: \" المسافرون لا يعقدون جمعة \".

قال أهل العلم: وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يسافر فلا يصلي الجمعة في سفرٍ,.

والمشروع في السفر ترك الرواتب ما عدا الوتر وسنة الفجر فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحافظ عليها في إقامته وسفره.

قال الإمام ابن باز - رحمه الله تعالى -: \" المشروع ترك الرواتب في السفر ما عدا الوتر وسنة الفجر، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وغيره أنه كان يدع الرواتب في السفر ما عدا الوتر وسنة الفجر، أما النوافل المطلقة فمشروعٌ في السفر والحضر، وهكذا ذوات الأسباب كسنة الوضوء وسنة الطواف وصلاة الضحى والتهجد في الليل لأحاديث وردت في ذلك، والله ولي التوفيق \".

وقال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: \" يجب أن نعلم أن المسافر مطلوبٌ منه أن يتنفل بجميع النوافل ما عدا راتبة الظهر وراتبة المغرب وراتبة العشاء، والباقي يفعل كل شيء من التطوع، فإن قال: أنا أحب أن أتطوع قبل الظهر وبعد المغرب وبعد العشاء، قلنا لا مانع تطوع لكن بغير نية الراتبة، بنية النفل المطلق\".

وإن جمع المسافر المغرب والعشاء في وقت الأولى فله أن يصلي الوتر، وهل يكفيهما ذكرٌ واحدٌ أو لكل واحد ذكر؟

قال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: \" الظاهر أنه يكفي ذكرٌ واحدٌ لأنهما عبادتان من جنسٍ, واحد، فيكتفي بأحدهما عن الآخر، وإن سبح لهذه تسبيحه العادي، ولهذا تسبيحه العادي فهو أحسن \".

ويجوز التطوع جماعةً كما لو كانوا في مخيماتٍ,، لكن لا تُتَّخذ عادةً ولا يخصص لها وقت معين.

ومن السنن المهجورة في السفر إلا من شاء الله صلاة النافلة على الدابة والراحلة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به ويوتر على راحلته. رواه البخاري.

 

ويستحب للمسافر الاستعجال في الرجوع إلى أهله بعد قضاء شغله لقوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث المتفق عليه: \" السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله \" ويقول عند رجوعه الحديث المتفق عليه: \" آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون \".

 

ويسن لمن قدم من سفره أن يبدأ بالمسجد ويصلي ركعتين وهي سنةٌ غفل عنها الكثير إلا من شاء الله، ويستحب أن يُلقَّى القادم من سفرٍ, بأولاده لإظهار الفرح والسرور والترابط الأسري.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

----------------------------------------

[1] أنيس المسافر د. ناصر الزهراني ص18.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply