كلمات في الأدب 3 - 7


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه أجمعين.

ونتيجة لما تقدم من أدب الأنبياء وما كان عليه من نماذج على الأدب مع الله ومع الناس فقد أورد البعض شبهة أن ذلك خاص بالأنبياء فقط لعصمتهم ولذلك ردَّ الشيخ على هذه الشبهة بضرب نماذج وأمثلة من أدب الصالحين مع الله ومع الناس.       

 

نماذج من صبر الصالحين

تجد هذا عند الكثير من الصالحين، حتى لا يقول قائل إنَّ هذا للأنبياء ومن يصل إلى مقام الأنبياء، فتجد كثيراً من الصالحين سطروا أمثلةً من الصبر بكل أنواعه، ذُكـر أنَّ رجلاً مرَّ في طريقٍ, بعدما ضاقت به السبل، وضاقت به المعيشة، وخرج متسخطاً على قدر الله، فمرَّ فسمع هاتفاً بالطريق يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلا به كثيراً من عباده وفضلني على كثيرٍ, من خلقه تفضيلاً، فيبحثُ عن صاحب الصوت، فإذا به رجلٌ ملقى تحت الشجرةٍ, مقطوع مشرد، مُطرود أعمى، فقد رجليه ويديه، ولا يتحركُ منه غير لسانه وسمعه، وقد اجتمع الذبابُ عليه من الجذام والمرض الذي أصابه، فاقترب منه وقال: يا هذا أأنت الذي تقول هذا الكلام؟ قال: نعمº تقول الحمد لله الذي عافاني!! ممَّا عافاك الله عز وجل ؟ فقال: ابتعد عني يا بطَّال. ألم يبقي لي قلباً أذكره به، ولساناً أشكره به، والله إنَّ هذه من أعظم نعمهِ عز وجل علي، وإنّني بهذا قد فُضلتُ عليك وعلى أمثالك.

وابن تيمية ماذا حصل له وماذا جرى؟ والإمام أحمد رحمه الله تعالى والإمام محمد بن عبد الوهاب وغيرهم ماذا حصل لهم؟!

أرسل أحدُ إخوان الإمام أحمد إليهِ رسالةً وهو في السجن، بعدما ضُرب وجُلد ونيل منه، وسُجن أكثرَ من أربعةٍ, وعشرين شهراً بالسجن، تحت وابلِ العذاب والسياط عليه رحمة الله يقول في رسالته:

 هذه الخطوبُ ستنتهي يا أحمد *** فإذا جزعت من الخطوب فمن لها

 الصبر يقطع ما ترى فاصبر لها *** فعسى بها أن تنجلي ولعلها

فردَّ عليه الإمام أحمد خلف الرقعة فقال:

صبَّرتني ووعظتني فأنا لها  *** فستنجلي بل لا أقول لعلَّها

ويحلها من كان يملكُ حلها *** ثقةً به إذ كان يملكُ حلها

 

ثانياً: اليقين

اليقين لا شك أنه من الأدب مع الله عز و جل، لماذا ؟ لأنَّ الله سبحانه وتعالى وعد أنبيائه وعبادهُ بالفرج، ووعدهم بالنصر، ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشهَادُ)) (غافر: 51).

هذا وعدٌ من الله تعالى، فثقتك بهذا الوعد، وترقبك للنصر وأملك به، هذا لا شكَّ من أعظمِ الأدب مع الله عزوجل، وبالعكس اليأس والقنوط، وفقد الأمل بالنصر، سوءً أدب مع الله، وتكذيب لوعد الله عزوجل.

إنَّ اليقين هو الإيمان كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، (وما أوتي امرؤٌ بعد اليقين خيرٌ من العافية) رواه الترمذي (3558) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال هذا حديث غريب، واليقين صفةً لا تكاد تفارقُ الأنبياء في كلِّ وقت، بل في كل يومٍ, وليلة، بل في كل ساعةٍ, ودقيقة.

واليقينُ لهُ ثمراته في حياةِ المسلم، الذي يرضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، ويرضى بقدر الله وقدرته، حلوه ومره، وخيره وشره، ويوقن أنَّ ما أصابهُ لم يكن ليخطئهُ، وما أخطأهُ لم يكن ليصيبه، لا يجبنُ عن كلمةِ الحق، ولا يخافُ على رزقه وأجلهِ، ولا يخشى في الله تعالى لومة لائم، ولا يتسللُ الإحباطُ واليأسُ والقنوطُ إلى نفسه، إذا ما أصيبَ في شخصهِ أو ماله، أو أصيب المسلمون، أو أصيبَ الدين أو المسلمون بنكسةٍ, أو نكبةٍ,، بل يبقى معهُ الأملُ واليقين بعزِ الإسلام وظهوره، وانتصاره وانتشاره، ولننظر في حياة الأنبياءعليهم الصلاة والسلام:

النموذج الأول: يقين إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

إبراهيم عليه الصلاة والسلام يُلقى في النار، فيقول: حسبي الله، في روايةٍ, أنَّهُ جاءهُ جبريل، لما أُلقي بالمنجنيق، فقال يا إبراهيم: ألك حاجة؟!! وهو بين السماءِ والأرض، يشاهدُ النارَ حامية، قد جُمع لها منذُ شهورٍ, الحطب، حتى يقول المفسرون: يمرُ الطير فيشوى في السماءِ من شدةِ وهجها، ويسقطُ مشوياً.

فيقول لجبريل: أمَّا إليك فلا، وإمَّا إلى الله عز وجل فنعم. ذكر ذلك الإمامُ أحمد، فماذا وجد ثمرة اليقين: ((قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرداً وَسَلاماً عَلَى إِبرَاهِيمَ)) (الأنبياء: 69)،

 هذه النارُ ما أحرقت من إبراهيم إلاَّ شيئاً واحداً، وهو الحبلُ والغل الذي في يده، وأمَّا غير ذلك فقد تحولت برداً وسلاماً على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

 

النموذج الثاني: يقين أصحاب الكهف:

ماذا قال أهلُ الكهفِ عندما أرادوا دخول الكهف، الذي هو مظنةَ العناكبِ والمخاوف: ((فَأوُوا إِلَى الكَهفِ يَنشُر لَكُم رَبٌّكُم مِن رَحمَتِهِ)) إنَّها الثقة بالله تعالى، واليقين برب العالمين، مع أنَّهم سوف يؤون إلى كهفٍ, ضيق، ويخرجون من سعةِ الدنيا إلى ضيقِ الكهف، حيثُ الأحراش والعناكب، والمخاوف والحشرات، مع ذلك يرتقبون ((يَنشُر لَكُم رَبٌّكُم مِن رَحمَتِهِ وَيُهَيِّئ لَكُم مِن أَمرِكُم مِرفَقا ً)).

 

النموذج الثالث: يقين أمِّ موسى:

هذه أمٌّ موسى تخاف على موسى، وجواسيس فرعون يبحثون عن الحوامل، ويقتلون أولادهن، ويعلمون أنَّ أمٌّ موسى حامله، وهي إسرائيلية ستلدُ إسرائيلياً، وفرعون قطع على نفسه أن يقتل كل إسرائيلي يولدُ في ذلك العام، كما أفتتهُ الكهنة لمَّا راءَ الرؤيا، فلمَّا ولدتهُ وخافت عليه، يأتيها وحي الله عزوجل: ((فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ)) (القصص: من الآية7) إذا خفتي عليه فالقيه سبحان الله هل يلقى في البحر إلاَّ المبلول المذلول؟! لكن وعد الله عزوجل أوثق، إذا خفتي عليه فألقيهِ في اليم، لأنَّهُ في عنايةِ الله وحراستهِ وحفظه.

فإذا العنايةُ أحرستك عيونها *** نم فالحوادثُ كلهنَّ أمانُ

واقتد بها الجوزاء فهي حبائلٌ *** واقتد بها العنقاءَ فهي عنان

 عناية الله سبحانه وتعالى، فستجيب و تضعهُ في التابوت، وتلقيهِ في اليم، ويحملهُ اليمٌّ رويداً رويداُ، لا تدري هل يبتلعهُ البحرُ أو تبتلعه موجة أو يغوص؟! ولكن الذي تدري أنَّ الله عز وجل بشرها ليس بنجاته بل برسالته، ((إِنَّا رَادٌّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ))، ويرقب طرفها الحزين طرفها الخائف، هذا التابوت والتيارُ ينقلهُ حتى يذهب به ويصطدم على رصيفِ قصرِ فرعون، فتتسابق الجواري إليه وتفزع، حتى كادت تصرخُ من شدةِ الهلع، لولا أن ربطنا على قلبها أن كادت لتبدي به، ((لَولا أَن رَبَطنَا عَلَى قَلبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ)) (القصص: من الآية10).

 

النموذج الرابع: يقين موسى عليه السلام:

وكذلك يقينُ موسى عليه الصلاة والسلام الذي قال لهُ الله عزوجل وبشره: ((لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمَعُ وَأَرَى)) (طـه: من الآية46).

أصطحب هذه التأمينات والضمانات معه في كلِّ موقف:

 خاف عليه الصلاة والسلام لما رأى الحيَّات التي تسعى وسحرهم، فأمرهُ الله عز وجل فألقى عصاه، فإذا هي تلقفُ ما يأفكون.

 وكذلك لمَّا خرج وحشدَ فرعون له، وخرج هارباً من فرعون، والتفت فإذا بفرعون خلفهُ بجيشٍ, قد سدَّ عليه الآفاق، فإذا البحرُ أمامه والعدو خلفه، قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلاَّ لا يدركونكم!! ثقةً بالله عز وجل، قال: ((إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ * فَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرِب بِعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلٌّ فِرقٍ, كَالطَّودِ العَظِيمِ)) (الشعراء: 63، 62).

أُذكِّر بهذا حتى يزول اليأس والقنوط من قلوب الكثير من المسلمين، الذين يرون في كل يومٍ, للإسلام كارثةً وواقعة، ويرون للإسلام في كلِّ يومٍ, نكبةً ونكسة، فربما تسلل اليأسُ والقنوطُ إلى قلوبهم، وربَّما تصرفوا تصرفاتٍ, لا تناسبُ ولا تلائم، وضرت أكثر مما نفعت، وجلبت على الدعوة وعلى أخوانهم شراً ما، اللهُ يعلمُ حدودهُ ومنتهاه، فنذكر بمثل هذه النماذج، حتى يحصل لدينا اليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، وحتى نعلم أنَّ اليقينَ إنَّما هو أعظم الأدب مع الله سبحانه وتعالى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply