تمشيخ الحدث


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحدثُ: الشاب فتيٌّ السن، غض الفؤاد، صافي الذهن.

وتمشيخه: تصدره للناس في المحراب والمنبر، و[منتديات النت] يفتي ويوجه، ويبدي رأيه لا فيما يناسب سِنّه، وليس ينقله عن الأكابر متثبتاً فيما يروي، ولا هو شيءٌ حاك في صدره فأبداه لمن يرجو عنده نُصحاً، لا شيء من هذا، فكلٌّ ذلك قد تجاوزه الشيخُ الحَدَث، ولم يعد يعيشُ همَّ نفسه، بل فرّغ قلبه لهموم الناس وقضاياهم، وراح يَحُلٌّ مشكلاتهمº فربما سمعتَ ابناً محضَ البنوة خالصَها يتكلم عن تربية الأبناء! وآخرَ في مطلع المراهقة يُنَظِّرُ للتعامل مع المراهق! وإذا لم تطرب أذناك بمثل هذا فما أظن ثالثهم عنك ببعيدº ذاك الذي يتحدث في القضايا المعاصرة، في واقع الأمة وهي تتقلب في زمن الفتن، فيخبط خبط عشواء، ويذهب يميناً وشمالاً، تحدوه عاطفةٌ لا نشك في صدقها، وهمُّ قَلَّ في الناس من يحمله، ولكنه ولو أصاب فقد أخطأ!! أخطأ لأن العاطفة تُحرك، والحكمة توجه، وهو يفتئتُ بأُولاهما على الأخرى، وأخطأ لأن شأن الفتن أكبر من أن يدركه الحدثº وإن رأى الحق فيه واضحاً، فرب حقٍ, لا سبيل إليه، وهل يعي الحدث أنه ليس كلٌّ حقٍ, يُقال! قال علي - رضي الله عنه -: \"حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟\"[1]، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: \"ما أنت بمحدثٍ, قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة\"[2]، وقال أيوب: \"لا تحدثوا الناس بما لا يعلمون فتضروهم\"[3]، هذا لو كان هو يعقل ما يقول، ويقف عند ما ينبغي له الوقوف عنده، فكيف إذا كنا نعيش من الفتن ما قال عنه حذيفة: \"أشد الفتن أن يُعرض عليك الخير والشرº فلا تدري أيهما تركب\"[4]، وقال: \"ما الخمر صرفاً بأذهب لعقول الرجال من الفتن\"[5]، فكيف بربك تكون عقول الأحداث!!

قيل لمالك بن أنس: إن عند ابن عيينة عن الزهري أشياء ليست عندك! فقال مالك: \"وأنا كلّ ما سمعته من الحديث أُحدث به الناسº أنا إذاً أريد أن أضلهم!!\"[6] وأي شيءٍ, ذاك الذي عند مالك ولا يحدث به؟ إنه ليس إلا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -? ولكنه الفقه الذي يغيب عن أولئك الذين يحدثون بكل ما سمعوا، وكفى به إثماً، إنّ الإقبال على الخير من الحدث سِمَةُ نجابة، وعلامة فضلٍ, هلّت بوادره، لذا فلا عجب أن نجد من العلماء عنايةً بالأحداث، وتقديماً لهم على غيرهم، عن عطاء عن رجل قال: كُنّا جلوساً مع حذيفة، فمرّ رجلٌ، فقال له حذيفة: يا فلان ما يمنعك أن تجالسنا؟ قال: والله ما يمنعني من ذاك إلا هؤلاء الشباب الذين هم حولك، قال: فغضب حذيفة وقال: أما سمعت الله - تعالى- يقول: (( قَالُوا سَمِعنَا فَتًى يَذكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ ))، (( إِنَّهُم فِتيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم )) وهل الخير إلا في الشباب!.

وعن يزيد أن الحسن قال: \" قدموا إلينا أحداثَكم فإنهم أفرغ قلوباً، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يتمه له أتمه\"[7]، ومُحالٌ إن كُتب للشاب حياةٌº أن يظل شاباً، فإذا كبر أسعفه ما كان بنى لنفسه من قبلُ، قال عروة لبنيه: \"يا بني تعلموا فإنكم إن تكونوا صغار قوم عسى أن تكونوا كبارهم، واسوأتاه ماذا أقبح من شيخ جاهل!\"[8] فالحدثُ عاجل أخذِه خيرٌ من آجله، وآجل عطائه أنفع من عاجله، فإن ركب هواه ذهب عاجل ما يرتجى منه وآجله، قال الشافعي: \"إذا تصدر الحدث فاته علم كثير\"[9]، وقال إبراهيم بن أدهم: \" كنا إذا رأينا الحدثَ يتكلم مع الكبار أيسنا من أخلاقه، ومن كل خير عنده\"[10]، وقد يتعجل الحدثُ لبادرة نبوغ فاق بها أقرانه، وصار إليهم إماماً، فيتصدر ولما يستوِ على سوقه، حدثوا أن أبا علي الفارسي اجتاز بالموصل فمر بالجامع، وأبو الفتح ابن جني في حلقة يُقرىء النحو وهو شاب، فسأله أبو علي عن مسألة في التصريف فقصّر فيها، فقال له: زببتَ وأنتَ حصرم، فسأل عنه فقيل له: هذا أبو علي الفارسي! فترك حلقتَه وتبعه، وظل يلازمه أربعين سنةً، واعتنى بالتصريف، فما أحد أعلم منه به، فلما مات أبو علي تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد.[11]

ولربما يحتجُ الحدثُ على ما أقول بما رُوي أن الشافعي قال: \"كنتُ يتيماً في حِجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلِّم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام\"[12]، وقال أبو بكر الأعين: \" كتبنا عن البخاري على باب الفريابي وما في وجهه شعرة\"[13]، وقال الجنيد: \"كنتُ أفتي في حلقة أبي ثور الكلبي ولي عشرون سنة\"[14]، يقول ابن عبد البر: واستشهد بعضهم بأن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - كان يُستفتى وهو صغير، وأن معاذ بن جبل وعتّاب بن أسيد كانا يفتيان وهما صغيران، وولاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الولايات مع صغر أسنانهما، ومثل هذا في العلماء كثير[15]، وحتى لا نطيل من جهة، ولا نُملّ من جهة أخرى، ولأنه ليس لنا أن ننتزع هذه الروايات من سياقاتهاº نكتفي بإشارات نَزِنُ من خلالها المسألة، ومِن الله نستلهم الرشاد:

الأولى: مِن أين كانت تغترف تلك الدلاء؟ وأي شيءٍ, بلغه هؤلاء الأفذاذ الأحداث فحدثوا وأفتوا؟

قال الشافعي: \"[16]حفظتُ القرآن وأنا ابن سبع سنين، وقرأتُ الموطأ وأنا ابن عشر سنين\"، أما البخاري فمن يطيق ما أطاق؟ يقول عن بداياته: أُلهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب، فقيل كم كان سِنٌّك؟ فقال: عشرَ سنين أو أقل، ثم خرجتُ من الكُتّاب بعد العشر، فجعلتُ أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يوماً فيما كان يقرأ للناس \"سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم\" فقلتُ له: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلتُ له: ارجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلتُ: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلمَ مني وأحكم كتابَه، وقال: صدقت، قيل: ابنَ كم كنتَ حين رددتَ عليه؟ قال: ابن إحدى عشرةَ سنة، فلما طعنتُ في ست عشرة سنة كنتُ قد حفظتُ كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفتُ كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة، فلما حججتُ رجع أخي بها وتخلفتُ في طلب الحديث.

وكم ياتُرى كانت كتبُ ابن المبارك التي حفظها وحفظ معها كتب وكيع؟ عن إبراهيم قال: كانت كتب ابن المبارك التي حدّث بها عشرين ألفاً أو أحد وعشرين ألفاً\"[17]، قال سليم بن مجاهد: كنتُ عند محمد بن سلام فقال: لو جئت قبلُ لرأيت صبياً يحفظ سبعين ألف حديث - يريد البخاري - قال: فخرجتُ في طلبه حتى لحقته، قلتُ: أنت الذي يقول إني أحفظ سبعين ألف حديث! قال: نعم، وأكثر! ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعينº إلا عرّفتك مولد أكثرِهم ووفاتَهم ومساكنَهم، ولستُ أروي حديثاً من حديث الصحابة أو التابعين إلاّ ولي من ذلك أصلٌ أحفظه حفظاً من كتاب الله وسنة رسول الله?\"[18]

أما ثالثهم وهو الجنيد فيقول: كنتُ بين يدي السَرِي ألعبُ وأنا ابن سبع سنين، فتكلموا في الشكر، فقال: يا غلام ما الشكر؟ قلتُ: أن لا يعصى الله بنعمه، فقال: أخشى أن يكون حظُك من الله لسانُك، قال الجنيد: فلا أزال أبكي على قوله.

ومن مثل هؤلاء؟! لئن عجز الأحداثُ أن يكون على شاكلتهمº فما الأشياخ بأقل عجزاً!! لكنّ الذي نريده هاهنا شيء آخرº نتساءل هل يتكلم من يتكلم بعلم؟ هل يقول ما ينبغي قوله؟ وهل يُبلِّغ المقالة كما قيلت؟ وأي شيءٍ, تَعملُ أو يريدُ أن تعملَ عظته في سامعيها؟

ثم - وهذه الثانية - من الذي زكّى الفكرةَ وصاحبَها ليشقا طريقهما إلى قلوب الناس؟ من أعطاه الإشارة ليبدأ؟ إنه لا بد للحدث من شيخٍ, أو أستاذٍ, يوجهه ويقوِّمه ويسدده، لا يَحسُن بالحدث أن يخوض فيما لا يُحسن، أو فيما لا يُقبل فيه دعوى أنه يُحسن! لِمَ لا يتكلم فيما لا نزاع فيه من المحكمات الواضحات، وفي كلِّ ما يسوغ أن يأتي من مثله!! لماذا يأنف الحدث من هذا الأسلوب؟ ويتبرم من هذه الوصاية؟ أو يخاف مصادرة الفكرة، وخروجها غيرَ معزوةٍ, إلى فضيلته؟!

إننا حين نربي أنفسنا على مثل الذي وجد الشافعيُ في نفسه وهو يقول: \"وددتُ أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا يُنسب إلي منه شيء!\"[19] حينها لن نجد غضاضةً في أن نُكلِّم ذوي السن مِنّا فيما سكتوا عنه من حقº ليُجلّوا موقفَهم، أو يتداركوا تقصيرَهم، فإن خالفونا طلبنا الحق عند أهله، فإن لم نجد لنا فيه سنداً فلنراجع أنفسنا فثمة خللٌ فيما ندعيه حقاً!! الثالثة: حين تكون بلوانا - أحداثاً وأشياخاً - قلةُ حظنا من العلم، وضعفُ ما في أيدينا منهº فلا أقل من أن يتصدر القومَ أمثلُهم طريقة، وأرشدهم عقلاً، وأحسنهم رأياً، ثم يستند فيما يُحدِّث به إلى كلام العلماء الرابانيين فعنهم يصدر، وإليهم يرجع، قال ابن شاقلا: لما جلستُ في جامع المنصور رويتُ عن أحمد أن رجلاً سأله فقال: إذا حفظ الرجل مئة ألف حديث يكون فقيهاً؟ قال: لا، قال: فمئتي ألف حديث؟ قال: لا، قال: فثلاثمئة؟ قال: لا، قال: فأربعمئة؟ فقال بيده هكذا وحركها [يعني لا]، فقال لي رجل: فأنتَ تحفظُها؟ فقلتُ: إن لم أحفظها فإني أفتي بقول من يحفظها وأكثرَ منها.[20]

الرابعة: أن من أدب الحدث أن لا يتقدم بين يدي من يكبره سناً، بل يعرف للسن فضيلته، وإن خال رأيه أرشد، ومعرفته أحكم! عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي? فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: \"كبِّر كبِّر\" وهو أحدث القوم، فسكتَ فتكلما[21]، على أن عبد الرحمن هو أخو القتيل، وأولى الثلاثة بدمه! قال النووي: وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل[22]، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخبروني بشجرةٍ, تشبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، ولا ولا ولا... تؤتي أكلها كل حين، قال ابن عمر - رضي الله عنه - فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمانº فكرهتُ أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي النخلة، فلما قمنا قلتُ لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم، قال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم، أو أقول شيئاً. قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا\"[23]، وأنى لابن عمر - رضي الله عنهما - أن يتقدم بين يدي الأشياخ، وهو الذي روى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرني جبريل أن أُكبِّر [أو قال: قدموا الكُبَرَ]\"[24] يقول المناوي: وفيه أن السن من الأوصاف التي يقدم بها، ومحله ما إذا لم يعارض فضيلةَ السن أرجحُ منها، وإلا قدم الأرجح[25]، عن ابن بريدة قال: لقد سمعت سمرة بن جندب - رضي الله عنه - يقول: لقد كنتُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً فكنتُ أحفظ عنه، وما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني. وقال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة: ما لك لا تحدث! فقال: أمّا وأنت حيُّ فلا! وعن عبيد الله بن عمر قال: كان يحيى بن سعيد يحدثنا، فيسحٌّ علينا مثل اللؤلؤ!! فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالاً لربيعة وإعظاماً له، وعن الحسن الخلال قال: كنا عند معتمر بن سليمان يحدثناº إذ أقبل ابنُ المبارك فقطع معتمرُ حديثه فقيل له: حدِّثنا! فقال: إنّا لا نتكلم عند كبرائنا\"[26]، وحضر ابن المبارك عند حماد بن زيد فقال أصحابُ الحديث لحماد: سل أبا عبدالرحمن أن يحدثنا، فقال: يا أبا عبدالرحمن تُحدثهم فإنهم قد سألوني؟ قال: سبحان الله يا أبا إسماعيل، أُحدث وأنت حاضر!! فقال: أقسمتُ عليك لتفعلن، فقال: خذوا حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد.. فما حدث بحرف إلا عن حماد!\"[27] قال مالك بن مغول \"كنتُ أمشي مع طلحة بن مُصرِّف فصِرنا إلى مضيق، فتقدمني ثم قال لي: لو كنتُ أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك\"، وقال يعقوب بن سفيان: بلغني أن الحسن وعلياً ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسنُ قبل علي، فلم يُرَ قط الحسنُ مع علي في مجلس إلاّ جلس عليٌ دونه، ولم يكن يتكلم مع الحسن إذا اجتمعا في مجلس.[28]

الخامسة: ههنا أصلٌ لا يُصار إلى غيره إلا بمسوغ، وهذا الأصل: أن الحدث يتلقى، ويجتهد في التحصيل، والذي يتصدر هو ذو السن إذا فقه، قال ابن خلاد: الذي يصح عندي من طريق الأثر والنظر في الحدِّ الذي إذا بلغه الناقلُ حَسُنَ به أن يُحدِّث هو أن يستوفي الخمسين، لأنها انتهاء الكهولة، وفيها مجتمع الأشد، وليس بمستنكر أن يحدث عند استيفاء الأربعين لأنها حدٌّ الاستواء ومنتهى الكمال، نبىء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين، وفي الأربعين تتناهى عزيمة الإنسان وقوته، ويتوفر عقله ويجود رأيه، قال الخطيب: فإن احتيج إليه في رواية الحديث قبل أن تعلو سنه فيجب عليه أن يحدث ولا يمتنع، لأن نشر العلم عند الحاجة إليه لازم، والممتنع من ذلك عاص آثم\"[29]، والإمام أحمد - رحمه الله - لم يجلس للفتيا والتحديث إلا بعد الأربعين، وأبى أن يحدث قبلها، وسئل أن يحدث بحديث عبدالرزاق، فقال: أما وعبد الرزاق حيُّ فلا! ويقارن الشيخ أبو زهرة بين موقف الإمام أحمد وموقف من تصدر دون الأربعين من الأئمة كمالك والشافعي ثم يفسره بشدة حرص أحمد على متابعة السنة، فإن الأنبياء لم يُبعثوا إلا عند هذه السن، فاستحيا أحمد أن يتصدر قبلها، ومع ذلك لم يمتنع من إفتاء من استفتاه قبل هذه السن، فقد رؤي يفتي بالخيف وله أربع وثلاثون سنة، ولم يكن تأخر تصدره من قلة نبوغ أو تأخره، فقد عدّ الشافعي من عجائب الزمان: صغيراً كلما قال شيئاً صدّقه الكبارº وهو أحمد\"[30]، وعن الهيثم بن جميل قال: سمعت شَريكاً يقول: \"لم يزل لكل قوم حجةٌ في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجةٌ لأهل زمانه، فقام فتىً من مجلس الهيثم، فلما توارى قال الهيثم: إن عاش هذا الفتى يكون حجة لأهل زمانه، قيل: من كان الفتى؟ قال: أحمد بن حنبل\"[31]، ولعلك تجد الأمر واضحاًً في قصة عمر - رضي الله عنه - وإذنه لابن عباس - رضي الله عنهما - في مجالسة كبار الصحابة - رضي الله عنهم -[32]، ولربما يفوتنا مع هذه القصة التي تُساق في فضيلة الحدثِ إذا نبغ وفُتح عليهº أن الأصل هو أن لا يتصدر الحدثُ، ولا يُقرن بالكبار حتى يكون كما كان ابن عباس - رضي الله عنهما -، وإلا ما ساغ للبدريين الاعتراض، ولا احتاج عمر إلى حجةٍ, تقوي موقفه![33] قال بُندار: سألوني الحديثَ وأنا ابن ثماني عشرة فاستحييت أن أحدثهم في المدينة، فأخرجتهم إلى البستان فأطعمتهم الرطب وحدثتهم.[34]

السادسة: تأمل معي أن الشافعي والجنيد كانا يخلفان شيخيهما! وابن المبارك والبخاري وبندار سُئلوا أن يُحدِّثوا فحدثوا! بل أبى ابن المبارك، واستحيا بندار!! وفرقٌ بين هذا وأضرابِه وبين ما يحصل في زماننا من التصدر الذي يصنعه الحدث لنفسه، أو يصنعه له بعض البسطاء الذين ينادونه لأجل نداوة صوته، أو جرأته على المحراب والمنبر: يا شيخ!! أو يا فضيلة الشيخ!! ويُصدق فضيلته أنه شيخ، ويجاهد نفسه على الإخلاص، وأن لا تَكبُر عليه نفسُه فتعجبه! ومع المجاهدة يجتهد في أن يؤكد مشيخته شَعَرَ أو لم يَشعُر، بل إن منهم من يلبس [البشت] ويغير نبرة صوته، ويتصنع حركات وهيئات يتمشيخ بها أمام الجمهور! حتى لربما اعتنى بغرائب الأقوال، ولطائف المسائل.

يقول علي بن المديني: \"إذا رأيت الحدَثَ أولَ ما يكتبُ الحديثº يجمعُ حديثَ الغسل، وحديث من كذب فاكتب على قفاهُ: لا يفلح\"[35]، وما ذاك إلا أن هذين الحديثين يصلحان للاستعراض لكثرةِ طُرُقهما، وأَولى بالطالب أن ينتهي إليهما لا أن يبدأ بهما، وهنا مسألةٌ أخرى وهي: أنه لا بد للشيخ أن يدفع هذا الحدثَ إلى ما لا يُفسد عليه قلبَه، فإن خاف عليه كفّه عن طريق الهلكة، وأعانه على نفسه وعلى الشيطان، فإن خُلِّي لهواه خُشي عليه!! وفرقٌ أيضاً بين أن يشير الحدثُ برأيه، ويحاور بأدب، وبين أن يمسك هو زمام المسألة، وينفرد لها، عن الزهري قال: كان مجلس عمر مغتصاً من القراء شباباً كانوا أو كهولاً فربما استشارهم ويقول: لا يمنع أحداً منكم حداثةُ سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثةِ السن وقدمه، ولكن الله يضعه حيث شاء.[36]

إن للحَدَث دوراً في الدعوة والتعليم، وحفظ القرآن وتحفيظه، وبثِّ الخير حتى فيمن يكبره سناً، وكلٌّ ذلك شيءº وتصدره شيءٌ آخر، إننا لا ندعو إلى الكبت والمصادرة والأحادية... وسائر ما نُرمى به مِن تُهَم، ولكننا نشهد انفلاتاً يسمونه انفتاحاً، وتخليطاً يدعونه حواراً، وعبثاً عنوانه حرية رأي! فإن لم نحكم الأمور، ونزن المسائل فقل: \"علينا السلام\"!.

________________

[1]- صحيح البخاري: كتاب العلم/ الباب 49

[2] - رواه مسلم في المقدمة

[3]- جامع الخطيب 2/109

[4] - الاستيعاب 1/335

[5] - مصنف ابن أبي شيبة 7/475

[6] - جامع الخطيب 2/109

[7] - جامع الخطيب 1/310

[8] - صفة الصفوة 2/85

[9] - صفة الصفوة 2/252

[10] - حلية الأولياء 8/29

[11] - معجم الأدباء 4/589، وزببت أي صرت زبيباً والحصرم قال في الللسان: أول العنب، وقيل الثمر قبل النضج، و الحصرمة حبة العنب حين تنبت.

[12]- حلية الأولياء 9/73

[13] - الجامع 1/325، السير 12/401

[14] - السير 14/67

[15] - الجامع 1/618

[16] - السير 10/11

[17] - طبقات الحنفية ص531، والمقصود بهذا العدد والله أعلم الأجزاء الحديثية.

[18] - السير 12/393

[19] - حلية الأولياء 9/118

[20] - المقصد الارشد 2/291

[21] - صحيح البخاري: كتاب الجزية والموادعة/ الباب 12 وكتاب الأحكام/ الباب 38، ومسلم برقم (1669) وفي رواية لهما \"فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمحيصة: \"كبر كبر\" [يريد السن] فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة\" وتأمل أن محيصة هو شاهد القصة وليس أخوه، فتأمل!!.

[22] - شرح مسلم 11/210

[23] - صحيح البخاري: كتاب التفسير/ سورة إبراهيم، ومسلم (2811)

[24] - صحيح الجامع (1382)، جامع الخطيب (247)

[25] - فيض القدير 2/193

[26] - جامع الخطيب 1/318

[27] - السير 8/382

[28] - جامع الخطيب 1/170

[29] - جامع الخطيب 1/323

[30] - ابن حنبل لأبي زهرة ص30

[31] - السير 8/425

[32] - انظر جامع الخطيب 1/311

[33] - جامع الخطيب 1/311

[34] - السير 12/147، جامع الخطيب 1/325

[35] - جامع الخطيب 2/301

[36] - جامع بيان العلم 1/618

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply