الهدية .. وأبعادها النفسية والاجتماعية ( 2 - 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنواع الهدية وأعراضها:

وللهديّةِ أنواعٌ كثيرةٌº فقد تكون طعاماً أو شراباً، نحوَ إتحافِ الأضيافِ، كما قدّمت زوجةُ أبي أُسَيد للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نُقاعة التمرº حينما جاء يزورهم - صلى الله عليه وسلم - في العرس.فقد روى البخاري عن سهل بن سعد أنّ أمَّ أسيد سُلامة بنت وُهَيبٍ, أنقَعَت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تمراتٍ, في تَورٍ, مِن حجارةٍ, من الليلº (فلما فرَغَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن الطعامِ أماثَته لهº فسقتهُ: تُتحِفُهُ بذلك).[1]

 

أغراض الهدية:

لا ريبَ أنَّ الهدية تختلف على حسبِ نيةِ صاحبهاº كما قال عليُّ - رضي الله عنه -: (المواهب ثلاثة: موهبةٌ يُراد بها وجهُ الله، وموهبةٌ يُراد بها وجهُ الناس، وموهبةٌ يراد بها الثواب)º فالواهبُ ـ كما قال القرطبي ـ \"لا يخلو في هبته مِن ثلاثة أحوال: أحدها أن يريد بها وجهَ الله - تعالى -، ويبتغي عليها الثواب منه. والثاني: أن يريد بها وجوه الناس رياءº ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها، والثالث: أن يريد بها الثواب من الموهوب له. وقال - صلى الله عليه وسلم - (الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىءٍ, ما نوى)º فأما إذا أراد بهبته وجه الله - تعالى -وابتغى عليه الثواب من عندهº فله ذلك عند الله بفضله ورحمته، قال الله - عز وجل -: (وما آتيتم مَن زكاةٍ, تُرِيدُون وَجهَ الله فأولئك هم المضعِفُون). وكذلك من يصل قرابتهº ليكون غنيّاً حتى لا يكونَ كَلاº فالنية في ذلك متبوعةٌ فإن كان لَيَتظاهَرُ بذلك دنيا فليس لوجه الله، وإن كان لما له عليه من حق القرابة وبينهما من وشيجة الرحمº فإنه لوجه الله. وأما من أراد بهبته وجوهَ الناس رياءº ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلهاº فلا منفعة له في هبته لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الآخرة، قال الله - عز وجل -: (يأيها الذين آمنوا لا تُبطِلُوا صَدَقاتِكم بالمنِ والأذَى كالذي يُنفِقُ مالَه رِئاءَ الناس) الآية\". [2]

 

الهدية التجارية:

وقد ذكرَ المفسِّرُون الهدية التي يعطيها بعضُ الطامعينº رغبةً في اكتسابِ أموالِ الناس، فقال الطبري - رحمه الله - في تفسيرِ قولِه - تعالى -: (ومآ آتَيتُم مِن رِباً لِيَربُوَ في أموالِ الناسِ فلا يَربُو عِندَ الله ومآ آتيتم من زكاة تريدون وَجهَ الله فأولئك هم المضعِفُون): \"يقول - تعالى -ذكره: وما أعطيتم أيها الناس بعضكم بعضا من عطية لتزداد في أموال الناسº برجوع ثوابها إليه ممن أعطاه ذلكº (فلا يربو عند الله) يقول: فلا يزداد ذلك عند اللهº لأن صاحبه لم يعطه من أعطاه مبتغيا به وجهه\". [3] ونقلَ الطبري هذا التفسير كذلك عن ابن عباسِ وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم النخعي وطاوس وقتادة والضحاك، كل هؤلاء قالوا: \"هو الرجل يهدي إلى الرجل الهديةº لِيُثِيبَه أفضلَ منها\". [4]

 

الهدية و الرشوة:

مِن الحكمةِ والوَرَعِ أن ينظر المرءُ في الغرضِ مِن الهديةِ التي يقدمها لغيرِه أو الدوافع التي جعلت الآخرين يقدمون له الهديةº ولذلك قال مسروق - رحمه الله -: \"إنَّ القاضي إذا أخذ الهديةº فقد أكل السٌّحت\". [5]

 

وقد قال الجصاص: \"كَرِهَ عُمَرُ بن عبد العزيز قبولَ الهدية، فقيل له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الهدية ويثيب عليها، فقال كانت حينئذ هديةº وهي اليوم سُحتٌ! ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهديه قبل القضاءº فكأنه إنما كره منها ما أهدي له لأجل أنه قاضº ولولا ذلك لم يهد له. وقد دل على هذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (هلا جلسَ في بيتِ أبيه وأمِّهº فنظر أيُهدَى له أم لا ؟ ) فأخبر أنه إنما أهدي لهº لأنه عامِلٌ ولولا أنه عامِلٌ لم يُهدَ له، وأنه لا يحل له. وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد أعلم به لم يهده إليه لأجل القضاءº فجائزٌ له قَبُولُه على حسب ما كان يَقبَلُه قبل ذلك\". [6]

 

وقد أشارَ البخاريٌّ إلى البواعِثِ النفسيّة للهديّة في ترجمتِهِ البديعةِ في كتاب (الحِيَل) (بابَ احتيالِ العامِلِ ليُهدَى له)! إشارةً إلى أنَّه \"لولا الطمعُ في وَضعِهِ من الحقِّº ما أُهديَ له\". [7] وروى الشافعي باب (الهدية للوالي بسبب الولاية) من (الأم) عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال (استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأزد يقال له ابن اللٌّتبِية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي! فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال: (ما بال العامل نَبعَثُه على بعضِ أعمالِنا، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمهº فينظر أيُهدَى له أم لا؟ فوالذي نفسي بيده لا يأخذ أحدٌ منها شيئاًº إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيرا له رُغاء، أو بقرةٌ لها خُوار، أو شاة تَيعَرُ. ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرَةَ إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلَّغتُ! اللهم هل بَلَّغتُ!). [8]

 

كراهة قَبُولِ هَدايا الجُفاة:

كره بعضُ العلماءِ قَبُولِ هَدايا الجُفاة، كما قال ابنُ كثير: \" لما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه أضعافها º حتى رضي قال: لقد هممتُ أن لا أقبلَ هديةً إلا من قريشي أو ثقفي أو أنصارى أو دوسيº لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن: مكة والطائف والمدينة واليمنº فهم ألطف أخلاقا من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء \". [9]

 

قليلُ الهَديةِ وكَثِيرُها:

ليس الاعتبارُ في الهديّةِ بالكثير من الغنيِّ الذي لا يُحصِي ما لديهº فأحسَنُ العطاءِ عَطاءُ الفَقِيرِ الذي لا يَبخَلُ بل يُؤثِرُ مع كَونِهِ لا يَكادُ يَجِدُ ما يُعطِيهِº وما أكثرَ القليلَ إذا كان نابِعاً من قَلبٍ, نَبِيلٍ, وما أجزَلَ العطاءَ إذا كان عن كَرَمٍ, أصيلٍ,! كما قيل:

 

قليـلٌ مِنكَ يَنفَعُنِي ولَكِن  ***  قَلِيـلُكَ لا يُقـالُ لَهُ قَلِيلُ!

قليلٌ مِنكَ يَنفَعُنِي ولَكِن   ***  قَلِيلُكَ لا يُقالُ لَهُ قَلِيلُ!

 

وما أحسنَ ما قيلَ في هذا المعنى:

لا تنظرَنَّ إلى زَهِيدِ هَديّةٍ,  ***  بَل فانظُرَنَّ لِقَلبِ مَن أهداها!

لا تنظرَنَّ إلى زَهِيدِ هَديّةٍ,  ***  بَل فانظُرَنَّ لِقَلبِ مَن أهداها!

 

أعظم الهدايا:

ولا ريبَ أنَّ أعظمَ هَدِيّةٍ, يُقَدِّمُها المرءُ لأخيه: نَصِيحَةٌ صادِقةٌ ومعرفةٌ نافِعةٌ وكلمةٌ صالحةٌ! كما روى البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل كعب بن عُجرَة - رضي الله عنه - أنَّه قال لابنِ أبي مُلَيكَةَ: ألا أُهدِي لك هديَّةً؟ قال: بلىº فأهدِها لي! فأهداهُ الصلاةَ الإبراهيميّة على النبي - صلى الله عليه وسلم -!

ورَحِمَ اللهُ أبا عبد الرحمن الحُبُلِي فقد روى الدارمي في سُنَنِهِ عن شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلِي يقول: \"ليس هديَّةٌ أفضلَ مِن كلمةِ حِكمَةٍ, تُهدِيها لأخيك\"! [10]

 

أفكارُنا هديةٌ لإسعادِ الآخرين:

وما أحسنَ تعبيرَ سيد قطب عن هذا المعنى بقولِه: \"إنَّ الفرحَ الصافي هو الثمرةُ الطبيعية لأن نرى أفكارنا وعقائدنا مِلكاً للآخَرِين، ونحن بعدُ أحياء. إنَّ مُجَرَّد َتصوٌّرِنا لها أنها ستصبح ولو بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض زاداً للآخرين وريّاً، ليكفي لأن تفيض قلوبنا بالرضا والسعادة والاطمئنان! (التجار) وحدهم هم الذين يحرصون على (العلاقات التجارية) لبضائعهم، كي لا يَستغِلٌّها الآخَرُون، ويَسلبُوهم حَقَّهم مِن الربح، أما المفكِّرُون وأصحاب العقائد، فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم، ويؤمنوا بها إلى حد أن ينسبوها لأنفسهم، لا إلى أصحابها الأولين! إنهم لا يعتقدون أنهم \"أصحاب\" هذه الأفكار والعقائد، وإنما هم مجرد \"وسطاء\" في نقلها وترجمتها. إنهم يُحِسٌّون أنَّ النبعَ الذي يَستمِدٌّون منه ليس من خَلقِهم، ولا مِن صُنعِ أيدِيهم. وكل فرحهم المقدّسº إنما هـو ثمرة اطمئنانهم إلى أنهم على اتصال بهـذا النبع الأصيل\"! [11]

 

--------------------------------------------

[1] رواه البخاري في كتاب النكاح. فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10/313. دار الفكر. بيروت. ط1. 1414هـ.

[2] الجامع لأحكام القرآن 14/38.

[3] جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 21/45.

[4] المرجع السابق 21/46.

[5] أحكام القرآن للجصاص 4/85.

[6] أحكام القرآن للجصاص 4/87.

[7] فتح الباري 14/369.

[8] الأم 2/58.

[9] تفسير القرآن العظيم 2/384.

[10] سنن الدارمي 1/100. دار الفكر القاهرة. ط 1398 هـ.

[11] أفراح الروح لسيد قطب دار عمار، تحقيق د. صلاح الخالدي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply