هذا الماءُ.. فأينَ الصَّفاء؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

      المسلمُ رمزُ الطهارةِ في عالمٍ, قَذِرٍ, في أفكارِه، متدنِّسٍ, في عقائده، متلطِّخٍ, في أخلاقه بكلّ ألوانِ الرِّجس الماديِّ والنَّجَس المعنويِّ كما قال الله - عزّ وجلّ -: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام).[1]

 

ولله درٌّ صاحبِ الظلال حيث قال:ـ عند قول الله – تعالى -: (فأنجيناه وأهلَه إلا امرأتَه كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين)[2] ـ "تُرى كان هذا المطرُ المُغرِقُ والماء الدّافقº لتطهير الأرض من ذلك الدّنس الذي كانوا فيه، والوَحَل الذي عاشوا فيه وماتوا فيه" ![3]

 

وأما المسلمُ الواعي فهو يعتقد الطهارة ديناً لأنه يعلم أنّ (الطهور شطر الإيمان)،[4] ويُوقن أنّ (من توضّأ، فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره)![5]

ولكنّ بعض المسلمين في هذا الزمان صار يهتمٌّ بطهارةِ جسدِه وثوبِه أعظمَ من اهتمامِه بطهارةِ عقلِهِ وقلبِهِ! مع أنّ الجسد قد يُطهِّره الماءُ خمسَ مرّات، وأمّا القلبُ فيحتاج إلى سبعين ـ أو مئة ـ من الاستغفار والتوبة وسائر التسبيحات!

 

ويدلٌّك على أهميّة الطهارتين: الظاهرة منهما والباطنة أنّ الطهارة مُشتقّةٌ من النقاء، كما قال العلامة ابن فارس: "الطاء والهاء والراء: أصلٌ واحدٌ صحيحٌ، يدلّ على نقاءٍ, وزوالِ دَنَسٍ, " .[6]

 

لاسيما وقد عَدَّ أهلُ العلمِ الهدايةَ من أنواع الطهارة، كما قال الله - عز وجل -: (أُولئك الذين لـم يُرِد اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلوبَهم)] 7[ أَي أَن يَهدِيَهم".[8]

 

وكذلك اعتبروا سلامةَ القلبِ طهارةً، فقال ابن الجوزي: "منه قولُه - تعالى - في البقرة: (ذلكم أزكى لكم وأطهر)،[9] يريد: أطهر لقلب الرجل والمرأة من الرّيبة، وفي الأحزاب (ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهنّ) ،[10] أي من الرّيبة والدّنس".[11] وقال ابن منظور: "قوله - تعالـى -: (وثِـيَابَكَ فَطَهِّر)º معناه وقَلبَكَ فَطهِّرº وعلـيه قول عنترة: 

فَشَكَكتُ بالرٌّمحِ الأَصَمِّ ثِيابَه     لـيس الكَريمُ علـى القَنَا بِمُـحَرَّمِ

أَي قَلبَه، وقـيل: معنى (وثـيابك فطهّر) [12]، أَي نَفسَك وقـيل: معناه لا تَكُن غادِراً فتُدَنِّس ثـيابَك فإِن الغادر دَنِسُ الثِّـياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر دَنِسُ الثـياب".[13]

 

وقد أشار أهلُ التفسير إلى العلاقة بين الطّهارة الظاهرة والباطنة، كما قال أبو الفداء ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير قول الله - عزّ وجل -: (إذ يُغَشِّيكم النٌّعاسَ أمنةً منه ويُنزِّلُ عليكم من السماء ماءً ليطهِّرَكم به ويُذهبَ عنكم رِجسَ الشيطان) [14]: "(ليطهِّرَكم به) أي من حدثٍ, أصغر أو أكبر، وهو تطهير الظاهر، (ويُذهب عنكم رجسَ الشيطان) أي من وسوسةٍ, أو خاطرٍ, سيِّءٍ,، وهو تطهير الباطن"![15]

 

وورد في السنة النبويّة كذلك ما يشهد لهذا المعنى، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبّر في الصلاة سكت هنيهةً قبل القراءة، فقلتُ: يا رسولَ الله بأبي أنت وأمّي أرأيتَ سكوتَك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: (أقول: اللهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهمّ نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيض من الدَّنس، اللهمّ اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبَرَد) رواه الجماعة إلا الترمذي".[16]

 

وقد مثّل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفقهَ في الدّين بالماء يصيب الأرضَ النقيّة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس: فشربوا وسقَوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تُمسك ماءً ولا تُنبت كَلَأً. فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به)). [17]

 

ورحم الله العلامة ابن الجوزي والإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة فقد نبّها في [منهاج القاصدين] و[مختصره] على هذا المعنى بكلامٍ, نفيسٍ, يؤكّد أهميّة طهارة القلب من الأدناس المعنويّة المُهلِكة: مثل الكِبر والحسد والرياء...نسأل الله أن يسلِّمنا والمسلمين من تلك الأدواء ذلك "أنّ الطهارة: أربعة أنواع: تطهيرُ الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات، والثانية: تطهير الجوارح من الذنوب والآثام، والثالثة: تطهيرُ القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة، والرابعة: تطهيرُ السرّ عمّا سوى الله – تعالى - وهذا هو الغاية القصوى فمن قويت بصيرتُه سمت إلى هذا المطلوب، ومن عميت بصيرتُه لم يفهم من مراتب الطهارة إلا المرتبة الأولى فتراه يُضيع أكثرَ زمانِه الشريف في المبالغة في الاستنجاء وغسل الثياب ظنّاً منه بحكم الوسوسة وقلّة العلم أنّ الطهارة  المطلوبةَ هذه هي فقط وجهلاً بسِيَر المتقدِّمين الذين كانوا يستغرقون الزّمان في تطهير القلوب.. ".[18]

 

ولعلّ استحضارَ خلقِ الإنسان من ماءٍ,، وحاجتِه في الطهارة إلى استعمال الماء جعل العلماء والأدباء يقرّبون كثيراً بين صفات الإنسان وخاصيّات الماء، كما قيل:

أتطلب من أخٍ, خلقاً جليلا!           وخَلقُ المرءِ من ماءٍ, مهينِ!

فسامح إن تَكَدَّرَ وُدٌّ خِلٍّ,                فإنّ المرءَ من ماءٍ, وطينِ!

وقال أبو تمام:

دِمَنٌ طالما التقت أدمُعُ         المُزنِ عليها وأدمُعُ العُشّاقِ!

ولم يكتفوا بذلك، حتى اشتقٌّوا من صفات الماء ما عبّروا به عن أحوالهم من التغيٌّر والتلوٌّن وما يعتريهم من الأهواء إذ ليس التغيٌّرُ خاصّاً بأوصاف الماء فلربّما أصاب أخلاقَ العبادِ منه أشياء حتى يتغيّر اللونُ والطعمُ والرائحة! كما قيل:

مجالسُهم مثلُ الرّياض أنيقةٌ   لقد طاب منها الرِّيحُ واللّونُ والطعمُ![19]

وقال محمد بن حازم:

تلوَّنتَ ألواناً عليَّ كثيرةً    وخالط عذباً من إخائك مالحُ![20]

كما ذكروا التكدير والصفاء الذي يلاقونه في الحياةº تشبيهاً بكدورة الماء وصفائه، كما قيل:

وماذا أرجِّي من حياةٍ, تكدّرت ؟  ولو قد صفت كانت كأحلامِ نائمِ!

وأنشد المتنبّي في هذا المعنى:

جَمَحَ الزمانُ فما لذيذٌ خالصٌ         مـمّا يشوبُ ولا سرورٌ كاملٌ!

وما أحسنَ ما قيل:

وذَكَّرَني حُلوُ الزمانِ وطِيبُهُ            مَجالِسَ قَومٍ, يملؤون المجالِسا!

حديثاً وأشعاراً وفقهاً وحكمةً         وبِراًّ ومعروفاً وإلفاً مُؤانِسا!

ولم يجدوا كالماء أشبهَ بمشاعرهم حين تفيض، كما قال أبو تمّام:

شكوتُ وما الشكوى لمثليَ عادةٌ     ولكن تفيضُ الكأسُ عند امتلائها!

وكثيراً ما يستعيرون الماءَ صافياً ومُكدَّراً لِوَصفِ الصّداقة والإخاء كما قيل:

وإخوانٍ, تَخَذتـُهُمُو دُروعاً           فكانُوها... ولكن للأعادي!

وقالوا: قد صَفَت منّا قُلُوبٌ          لقد صَدَقُوا ولكن عن وِدادي!

 

وربّما هُرِعُوا إلى الماء عذباً ومالحاً يَستَلهِمُون معانيَ المديحِ والهِجاء، كما قال ذو الأصبع العدواني: 

  لو كُنتَ ماءً كنتَ لا          عَذبَ المذاقِ ولا مَسوسا!

  مِلحاً بعيدَ القَعرِ قد            فَلَّت حِجارَتُهُ الفؤوسا![21]

وقد كَنَّى بعضُ عُلماءِ الحديث عن بعض الكذّابين بالعين المالحة، كما قال مسلم في مقدّمة صحيحِهِ: "سمعتُ عُبيد الله بن عمر القواريريَّ يقول: سمعتُ حمّادَ بنَ زيد يقول لرجلٍ, بعدما جلس مهديٌّ بن هلال بأيّامٍ,: (ما هذه العينُ المالحةُ التي نَبَعَت قِبَلَكم؟! قال: نعم يا أبا إسماعيل). قال النووي: "أما مهدي هذا فمتفقٌ على ضعفه...وقوله العين المالحة: كنايةٌ عن ضعفِه وجَرحِهِ".[22]

وقد يعبِّرون بالماء الزٌّلال في نقد الرِّجال، كما قيل:

      ومن يكُ ذا فمٍ, مرٍّ, مريضٍ,     يجد مُرّاً به الماء الزٌّلالا!

وأمّا وظيفةُ الغَسلِ والتطهير التي هي أشهرُ صِفَاتِ الماء، فما أغفلَها العلماءُ والشعراءُ على حَدٍّ, سَواءٍ,، حتى قال الذهبيٌّ في تراجُم الأخيارِ وتجاوُزِهِ عن زلات الكبار: "الماءُ إذا بلغ القلّتين لم يحمل الخبث"! وقال بعضُ الأدباء:

اغسل يديكَ من الثقاتِ       واصرمهمُ صَرمَ البتاتِ!

ما الودٌّ إلا باللِّسانِ!           فَكُن لِسانيَّ الصِّفاتِ!

وما أحسنَ وأروعَ ما رواه مسلم رحمه الله في كتاب [الجنّة] من الصحيح في الحديث القدسي الشريف: (إنّي خلقتُ عِبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطينُº فاجتالتهم عن دينهم)، ففيه: (أنزلتُ عليك كتاباً لا يغسله الماء)! قال النووي: "أما قوله - تعالى - (لا يغسله الماء) فمعناه محفوظٌ في الصدور لا يتطرّق إليه الذهاب، بل يبقى على ممرِّ الأزمان".[23]

وأمّا إرواء الغليل فصفةٌ من أعظم صفات الماء، وقد  أكثر من تمثلها الشعراء، كما قال المتنبّي في هذا المعنى:

أظمَتنِيَ الدنيا فلمّا جئتُها      مُستَسقِياً مطرَت علَيَّ نوائبا!

ولله درٌّ مسلم بن الحجاج فإنه كان يتذوّق حلاوةَ كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: "حديث فلانٍ, أروى وأشبع"![24]

وأما ماءُ العِفَّةِ والحياء، فيكنّون به عن حفظ النفس وعزّتها وقناعتها، ولله درٌّ الشريف الرّضي حيث قال:

     إذا ما الحُرٌّ أجدبَ في زمانٍ,            فعِفَّتُهُ له زادٌ وماءُ!

ويريد العلماءُ بقِلّةِ (ماء الوجه) غلبةَ الطمعِ وخِسَّةَ الطَّبعِ،كما قالوا:

إذا قَلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤه           فلا خيرَ في وجهٍ, إذا قلَّ ماؤه!

حَياءَك فاحفظهُ عليك فإنما            يدلٌّ على وجهِ الكريمِ حَياؤه!

وبعد، فهذه ثِيابُنا قد تطهَّرت فهل آنَ للصدور أن تنقى وتطهر؟ كما قال المعرّي:

      ثوبِيَ مُحتاجٌ إلى غاسلٍ,        وليتَ قلبي مِثلَهُ في النقاء!

وهاهو الماءُ من حولِنا عذبٌ فُراتٌ سائغٌ شرابُه! فهل تُرى صَفَت منّا القلوب؟! فصدورُ الصالحِين بِحارٌ لا تُكدِّرُها الدلاء! وما أحسنَ ما قال التهامي:

لـمّا صَفَا قلبُهُ شَفَّت سرائرُهُ         والشيءُ في كُلِّ صافٍ, غَيرُ مُكتَتَمِ!

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.

--------------------------------------------------

[1]  التوبة 28.

[2]  الأعراف 83-84.

[3]  في ظلال القرآن لسيّد قطب 8/1316. دار الشروق. القاهرة. الطبعة الشرعيّة الثلاثون. 1422هـ.

[4]  رواه مسلم مستفتحاً به كتابَ الطهارة. شرح النووي 3/100. دار إحياء التراث العربي. ط3.

[5]  رواه مسلم كذلك.

[6]  معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/428. دار الكتب العلميّة.

[7]  المائدة 41.

[8]  اللسان 4/506.

[9]  آية 232.

[10]  آية 53.

[11]  نزهة النواظر ص 422.

[12]  آية 4.

[13]  اللسان 4/506.

[14]  الأنفال 11.

[15]  تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/387. جمعيّة إحياء التراث الإسلامي. ط5- 1420هـ.

[16]  فقه السنّة لسيّد سابق 1/18. دار الفتح للإعلام العربي. ط1. 1418هـ.

[17] رواه  البخاري في كتاب العلم. باب(فضل من علِم وعلّم). فتح الباري 1/236.

[18]  مختصر ابن قدامة لمنهاج القاصدين لابن الجوزي ص 28. مكتبة دار البيان. دمشق. ط2. 1420هـ.

[19]  ورثة الأنبياء لعبد الملك القاسم ص 78. دار القاسم. الرياض. ط1. 1418هـ.

[20]  المجموع 1/129.

[21]  لسان العرب 6/218.

[22]  شرح النووي على مسلم 1/14.

[23]  المرجع السابق 17/198.

[24]  ذكر مسلم هذه العبارة بألفاظٍ, قريبةٍ,، منها: ما جاء في كتاب الصلاة. باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذرٌ. شرح النووي 4/143.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply