حينما تخالفني الرأي ...


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 حدثني شاهد عيان عن مجلس نقاش شبه علمي _ و هو إلى المراء أقرب _ مع واحد من المتحدثين عن أمورٍ, جفَّ فيها القلم، و رفعت فيها الصحف.

و كان جملة الحال من نقاشهم أن كلاً رادُّ و مردودٌ عليه، و كلاً حاج و محجوج، و كلاً منتصرٌ و مغلوب.

و السبب أن لا أصل متَّفَقٌ فيه بين القوم، و في انعدام الأصول سقوط الدلائل.

إن مجالس المناظرات و النقاش تفتقرُ إلى أصولٍ, مهمات حتى تكون على وجهٍ, صائب، و في فقدانها مكمنُ الخطأ و موطن الغلط.

 

(1) أتاني هواها:

النفوس ميَّالَةٌ، و تسترقُ السمع لتظفر بمن يؤيدها على ميولها، و الله يقول: { إن النفس لأمارة بالسوء }.

إن العلم الشرعي مبني على أصول و قواعد، إليها يَهرَعُ القوم عند التخاصم، و إليها يفزعون حالَ الاختلاف.

و الفقه المبني على هذا هو المقبول، و هو المرضي، و ما عداه فالإعراض عنه منقبة، و الصدود عنه محمدة.

يكتم أقوام بعض الآراء لهم خشية الاستنكار من الناس تجاه ما يتبنونه، فإذا ما لقوا قوماً يشطحون جانباً و يضربون بالواقع عرض الحائط يستنفرون خيلهم، و يجلبون بها و برجلهم تجاه القائل، فيحظى بالوصم بـ: العالم ، البطل ، الفقيه ،،،.

و من قبل لم يحظَ و لا بربع لقب، و الآن استحقها لكلامه في أمر مالت إليه النفس.

قد شَرِقَ قوم بأمورٍ, و مسائل في دين الله، لم ترتفع أنفسهم لقبول الخلاف فيها فأبوا إلا التضييق و التحجير.

و الخلاف في الفروع رحمة.

فلهؤلاء نقول: إن دين الله مرتكز على أصول، و مبني على قواعد و الأخذ بفهم فلان و علان ليس منه في شيء فاعلموا هذا و خذوه و إلا فأحجموا عنه، و دعوا العلوم لأهلها لستم منها في شيء.

ألمّا تكلم بعضٌ فيما تشتهون أخذتم بالصولات و الجولات، و رفعتم المتكلم فوق مقامه، و بريحٍ, صرصر أرسلتموها على من جاوزه في العلم برمية حجر حيث خالفَ رغائب النفس؟ ألا بئس القوم قومٌ يجعلون دين الله ـ تعالى ـ تحت سيطرة النفس و الهوى.

 

(2) حين تكون النصوص مراكب:

و أستغفر الله _ تعالى _ إن كان في الكلام سوءٌ، أو اعتراه خلل التعبير.

و هذا هو واقع كثيرين، إذا رَغِبَ في أمر، و طمع في حكم استنفر ما يملك من آلات بدائية فتصفح الكتاب و السنة آخذاً منها ما يوافق الرغبة، و يحقق الشهوة، ضارباً بصائب الفقه أرضَ القدم.

و هل النصوص ( مراكبَ ) و ( دوابَّ ) لقوم لا يفقهون مقاصدها؟  إن الأخذ من النصوص مرجعه إلى من ملك الآلة، و أتقن الصنعة، و أعني بها: صنعة الفقه.

و ليست الأمور عبثاً يَستَطِرُ فئامٌ صغارَ العقول و الفهوم أحكاماً من كتاب الله و سنة نبيه - صلى الله عليه و سلم-.

و الأخذ بهما له ضوابط تضبط الفقه المستنبط منهما، حتى لا يكون الفقه شاذاً، و حتى لا يتطفل عليهما من قلَّ دينه، و عُدِمَ ورعه.

و العبرة بتقرير من هو معتبر عند العلماء قوله، و مأخوذ عندهم بالنظر و الفحص.º أما من قوله و عدمه سواء، فلا سواء.

و من هو المعتبر عند الفقهاء، و من هو المأخوذ قوله لديهم؟

هو: الفقيه ، المجتهد ، الإمام ، العالم ، و من عداه فلا. فتَنَبَّه و تفطَّن.

و لهذه الألقاب معانٍ, و الأصل حملها على ما اصطلح عليه أهلها لا ما اصطلح عليه الأجانب عن العلم.

 

(3) فاستخفَّ قومه:

إن الاستخفاف بالعقول، و الاستهجان بالفهوم سَوءَةُ أدب، و دناءةُ خُلُقٍ,.

و الأقبح من ذلك: أن يكون الاستخفاف مستوراً بالكتاب و السنة، و مُلبَسَاً لباس التقرير الحق.

و هذا تغرير و غبن، و مخادعة لعقول الناس و أفهامهم.

إذا كنتَ يا هذا ممن يروم الحق و تبيانه، و يقصد هدم الباطل و نقض بنيانه فاعمد إلى نهج الأوائل في تقرير الأدلة، و سَوقِ حجج الخصوم، مع النقض و التقرير السوي الصحيح.

هذا إذا كنت أهلاً لذاك، أما والأهلية معدومة فلك أقولُ:

دعِ الكتابَةَ لستَ منها ** و لو سوَّدَّتَ وجهك بالمداد

إن هذا النوع من الطرح المتضمن:

1) تقرير الرأي الشخصي.

2) لَيُ أعناق النصوص لتمشيتها تأييداً لذاك الرأي.

3) الهدم القوي لحجج الخصم، و الطرح لرأيه.

4) الوصف للخصم بألفاظ: الفسق ، و الجهل.

كلٌّ هذه من الاستخفاف بعقل المقابل المتلقي لمضمون المطروح، و من الاستهجان لعقله بأنه ليس أهلاً أن يُعطى ما يتفهمه بل يُعطى الشيء كاملاً، خشية الفتنة.

فلو كان أيَّ راءٍ, لرأي حين يكتبُ ما يعضدُ رأيه يطرح ذلك بقالَبٍ, علمي رصين، و يقرر المسائل بتقرير منهجي لكان ذلك مقبولاً.

أما و الطرحُ إنما هو تحجير للسَعةِ، و رفعاً للخلاف الواقع بحجة أوهى من بيت العنكبوت فلا، و لا كرامة.

و هذا ما وقع فيه بعضٌ من الكُتَّابِ في بعض المسائل المنتشرة.

 

(4) كُن واسع القلب للنقاش:

الجادة المطروقة عند عامة الصالحين هي البحث عن الحق، و السعي للوصول إليـه.

و إلى ذلك كان السلوك في ذاك الدرب، و لأجله كان التنوع في البحث عن الحق.

و من تلك السبل: النقاش و المناظرات، و فائدتها معلومة معروفة، و إيصال الحق من خلالها أقوى من ناحية الطرح المجرد.

و الأصل الجامع للطرفين هو: السعاية نحو الحق مع أيٍ, كان.

إلا أن هذا الأصل تخلَّفَ في زمنٍ, استأسد فيه من خلا من أصول النقاش العلمي، فترى الواحد من القوم _ كالذي أشرنا إليه _ حين يناقَشُ بين حالين:

الأولى: أن يكون متقبلاً للنقاش بصدرٍ, رحب.

الثانية: ألا يقبل الحوار في ذلك.

و المطلب الأساس في الحوارات هو أن يكون الخصم قابلاً للحق إذا ظهر، و لا يتهرب منه.

إلا أنه يجنح البعض إلى السكوت، و إلى التصرف بتصرفات غير محمودة إذا حُجَّ من قبل الخصم.

و هذه تخالف سعة الصدر و رحابته في الحوارات، و تقضي له بأنه كاسد البضاعة في العلم.

 

(5) بين قولَين:

اشتهرت في الناس قالةٌ بديعة، عظيمة، و هي: قولي صحيح يحتمل الخطأ، و قولك خطأ يحتمل الصحة.

و ليت من يقولها بلسانه يقولها بفعاله.

إن كثيراً من المتحاورين يبغون الحق في حواراتهم، لكن يترسب لدى البعض منهم أن قوله حق و صواب، و قول المقابل له باطل و خطأ.

نعمº قد يكون منهم من يأخذ بتلك القالة في الظاهر و التنظير، أما عند ميدان الواقع نراها متخلفة مهملة.

إن الحق عند كلٍّ, _ بزعمه _ و لكن الاعتبار بالدليل العاضد، و القرائن المؤيدة للقول.

و ما أجمل أن يتمثل الكل بتلك القاعدة، و يهملوا القاعدة الأخرى: قولي صواب لا يحتمل الخطأ، و قولك خطأ لا يحتمل الصواب.

 

(6) قوارب نجاءٍ,:

بعد هذه الإلماعات المتعلقة بتقرير العلم عند البعض ممن جهل الجادة، و سلك درباً منكوساً، أسطر ههنا كلمات هن إضاءات، و قالات إلماعات، تنير درباً، و تعين أخاً.

 

أولاً: أن الأصل في المسلمين _ و العلماء منهم خاصة _ عدم مخالفة الشريعة في أي شيء منها.

قال شيخ الإسلام: وليُعلَم انه ليس أحد من الأئمة- المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً - يتعمد مخالفة رسول لله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنة, دقيق ولا جليل.

فانهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول – صلى لله عليه وسلم - ,وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) أ.هـ . [رفع الملام ص :4].

 

ثانياً: أن الخلاف في الأمة سائغ و محمود في الفروع.

قال الإمام يحي بن سعيد الأنصاري: ما برح أولوا الفتوى يفتون، فيحل هذا و يحرم هذا، فلا يرى المحرِّم أن المُحِلَّ هلك لتحليله، و لا يرى المُحِلٌّ أن المحرِّم هلك لتحريمه. [ جامع بيان العلم و فضله 2:80 ]

 

ثالثاً: المسائل المخالف فيها.

إن الخلاف القائم بين علماء الدين لا يخرج عن مسألتين:

الأولى: مسألة في الأصول (الاعتقاد)

الثاني: مسألة في الفروع (الفقه وغيره)

وقبل أن يخطأ العالم في مخالفته لابد من معرفة ما يأتي:

رابعاً: دوران المسائل بين الوفاق والخلاف.

بعد أن ننظر إلى العالم وكونه خالف غيره في أي من المسألتين الآنفتين فإن الواجب أن ينظر إليهما من خلال جهتين:

الأولى: جهة الوفاق والإجماع.

الثانية: جهة الخلاف.

فإن كان العالم قد أخذا بمسألة انعقد عليها الإجماع ولم يَقُم فيها خلاف فإنه يخطأ بأدب وعلم.

وأما أن كان العالم قد أخذ بمسألة قام الخلاف فيها قديماً فلا يجوز أن يخطأ أو يجهل.

قال سفيان الثوري – رحمه الله - :(إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه).  (الفقيه والمتفقه 2/69).

 

على أنه لابد من التنبيه إلى أن الناس قد سلكوا مذاهبَ و اقتدوا بعلماء، و لهم أقوالهم و منازلهم في نفوسهم، و هذا يتبين منه أن ملاحظة الحال التي عليها القوم مهمة جداً، و مخاطبتهم بلغتك، و محاكمتهم إلى نهجك من الأمور التي لا يُسلِّمُ بها البعضُ من الناس، فعليك بمراعاة أحوال القوم.

علماً بأن الخصم إذا كان آخذاً بمذهب فهو لن يدعه لقول خصمه إن لم يكن القول الذي تعلَّقَ به قولاً في مذهب.

 

هذه إلمعات مجملة موجزة آثرت طرحها ليعم نفعها، و لتبرأ بها الذمة.

و الله الموفق، و الهادي إلى سواء الصراط.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply