السيرة النبوية والدعوة إلى الله (1)


  

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ جانبَ الدعوةِ إلى الله في السيرةِ النَّبويَّة الشَّريفَةِ يَشمَلُ السيرةَ كلَّهاº فرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شاهدٌ ومبشِّرٌ ونذِيرٌ وداعٍ, إلى اللهِ، بل هو إمامُ الدٌّعاةِ وسيِّدُهُم صلوات الله وسلامه عليهº يقول الله - تعالى -:

{يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجًا مٌّنِيرًا} [الأحزاب: 45-46].

عن عَطَاءِ بنِ يَسَار قال: \"لَقِيتُ عبدَ الله بن عمرو بن العاصº فقلتُ: أخبِرني عن صِفَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التَّورَاةِº فقال عبد الله: أَجَل، إنه لَمَوصوفٌ في التَّورَاةِ بصِفَتِهِ في القُرآن: {يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وحِرزًا للأُميِّينَ، أنتَ عبدي ورسولي، سميتُكَ المُتَوَكِّلَ، لستَ بفَظٍّ, ولا غليظٍ,، ولا سَخَّاب في الأَسواق، ولا يَدفَع السَّيِّئَةَ بالسَّيِّئَةِ، ولكن يَعفو ويَغفِر، ولن يَقبِضَه الله حتى يُقِيمَ به المِلَّةَ العَوجَاءَ، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيَفتَح به أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا\"º رواه البُخَاري برقم (4838)، وأحمد (2/174).

وهذا وصفٌ يَنطبِق عليه، - صلى الله عليه وسلم -.

 

هذاº وقد روى ابن أبي حاتِم، ونَقَلَه عنه ابنُ كَثِيرٍ, - في تفسير هذه الآيةِ - نصًّا جميلًا عن وَهبِ بن مُنَبِّهٍ, معناه صحيحٌ، نورِده هنا لصِحَّةِ مَعناه، ودِقَّة وصفِهِ لسيِّدِنا رسولِ الله، الداعيةِ الرسولِ.

 

قال وهبٌ: \"إنَّ الله أَوحَى إلى نبيٍّ, من أنبياءِ بني إِسرَائِيلَ:... وَأَبعَثُ نَبِيًّا أُمِّيًّا، ليس أَعمَى من عُميَانٍ,، أَبعَثُهُ لَيسَ بفَظٍّ, ولا غَليظٍ,، ولا صَخَّابٍ, في الأسواقِ، لو يَمُرٌّ إلى جَنبِ السِّرَاجِ لم يُطفِئهُ مِن سَكِينَتِهِ، ولو يَمشِي على القَصَبِ اليَابِسِ لم يُسمَع مِن تَحتِ قَدَمَيهِ، أَبعَثُهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لا يَقُولُ الخَنَا، أَفتَحُ بِهِ أَعيُنًا عُميًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلفًا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمرٍ, جَمِيلٍ,، وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ, كَرِيمٍ,، وَأَجعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، والبِرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقوَى ضمَيرَهُ، وَالحِكمةَ مَنطِقَهُ، والصدقَ والوفاءَ طبيعَتَهُ، والعَفوَ وَالمَعرُوفَ خُلُقَهُ، والحقَّ شريعَتَهُ، والعَدلَ سِيرتَهُ، وَالهُدَى إمامَهُ، والإسلامَ مِلَّتَهُ، وأحمدُ اسمَهُ، أَهدي به بَعدَ الضلالةِ، وأُعَلِّمُ به بَعدَ الجَهالةِ، وأَرفَعُ بِهِ بَعدَ الخَمالَةِ، وأُعَرِّفُ به بَعدَ النٌّكرَةِ، وأُكَثِّرُ به بَعدَ القِلَّةِ، وأُغنِي به بَعدَ العَيلَةِ، وأَجمعُ به بَعدَ الفُرقَةِ، وأُؤَلِّفُ به بَين أُممٍ, مُتَفَرِّقةٍ, وقلوبٍ, مُختَلِفَةٍ,، وأَهوَاءٍ, مُتَشَتِّتَةٍ,، وأَستَنقِذُ به فِئَامًا منَ الناسِ عظيمةً مِنَ الهَلَكَةِ، وأَجعَلُ أُمَّتَهُ خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت للناسِ، يَأمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنهَونَ عنِ المُنكَرِ، مُوَحِّدِينَ مُؤمِنِينَ مُخلِصِينَ، مُصَدِّقِينَ بما جَاءَت بِهِ رُسُلِي، أُلهِمُهُمُ التسبيحَ والتحميدَ، والثَّنَاءَ والتَّكبيرَ والتوحيدَ، في مَساجِدِهم ومَجالِسِهم ومَضاجِعِهم ومُنقَلَبِهم ومَثواهم يُصَلٌّون لي قيامًا وقعودًا، ويقاتِلون في سبيل الله صُفوفًا وزُحُوفًا، ويَخرُجُونَ من ديارهم ابتغاء مرضاتي أُلوفًا، يُطهِّرونَ الوجوه والأطرافَ، ويَشُدٌّون الثيابَ في الأَنصافِ، قُربَانُهم دماؤهم، وأَنَاجِيلُهم في صُدورِهم، رُهبانٌ بالليل، لُيُوثٌ بالنهار، وأَجعَلُ في أهل بَيتِهِ وذُرِّيِّتِهِ السابقِينَ والصِّدِّيقِينَ والشهداءَ والصالحينَ، أُمَّتُهُ مِن بَعدِهِ يَهدُون بالحقِّ، وبه يَعدِلون، أُعِزٌّ مَن نَصَرَهم، وأُؤَيِّدُ مَن دعا لهم، وأَجعَلُ دَائِرَةَ السَّوءِ على مَن خالَفَهم أو بَغَى عليهم، أو أراد أن يَنتَزِعَ شيئًا مما في أَيدِيهم، أَجعَلُهم وَرَثَةً لنبيِّهم، والدعاةَ إلى ربهم، يَأمرون بالمعروفِ ويَنهَونَ عنِ المُنكَرِ، ويُقيمونَ الصلاةَ ويُؤتونَ الزكاةَ، ويُوفُونَ بعَهدهم\". [1]

إنه نصُّ جميل، وردت فيه جُملةٌ مِن صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعويَّةِ، ووَرَدَ فيه ذِكرٌ لفضلِهِ العظيم على أُمَّتِهِ التي هداها الله به، فكان فيها - بفضل الاقتداء به.

 

صفاتُ الدٌّعاةِ الصادِقِينَ:

إِنَّ مَوضوعَ الدعوةِ في السيرة النبويَّةِ يَشمَلُ السيرةَ كُلَّهاº ولِذا فلن أَستطِيعُ في هذه الكلمةِ عَرضَ مَوَاقفِ الرسولِ الدَّعَوِيَّةِ، أَسرِدُها سردًا كَاملًا، لأن ذلك يقتضيني عَرضَ السيرة النبويَّة عَرضًا كاملًا، مِن أوَّلِها إلى آخِرها، ولكنني سأَعرِض إمكانيَّةَ استفادةِ الداعيةِ منَ السيرة في دَعوتِهِ ومخاطَبَتِهِ النَّاسَ، وإلى إمكانيَّةِ استفادةِ المَدعُوِّينَ منَ السيرة.

والموضوع حتى بهذه الحدودِ واسعٌ جدًّاº ولذا فسآتي ببعض الأفكارِ والخواطرِ عن هذا الموضوعِ.

 

وأَوَدٌّ أن أَذكُرَ عَلاقَتِي بالسِّيرةِ أولاً:

إنَّ مَوضوعَ السيرةِ ليس غريبًا عَلَيَّº فمنذ أيامِ الطفولةِ المُبَكِّرةِ كانت لي صِلةٌ وثيقةٌ بأحداثِ السيرة عن طريق السَّمَاع، وما زِلتُ أَذكُرُ تلكَ القَصَصَ الرائعةَ المحبَّبَة عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي كُنتُ أَسمَعُها من والِدَتي - رحمها الله - فقد كانت تَقُصٌّها عَلَينا بأسلوبٍ, محبَّبٍ, جَذَّابٍ,، وبلُغَةٍ, مَفهومةٍ, من قِبَلِنا، ولقد كانت تلك القَصَصُ أَحَبَّ شَيءٍ, إلَينا، نَنتَظِرها بفارغِ الصبر، - رحمها الله - رحمة واسعة، وجزاها عني وعن إخوتي وأخواتي الخَير الجزيل.

ورَحِمَ اللهُ سيدي الوالد، الذي كان يَجمَعنا بعدَما جاوزنا مرحلة الطفولة، ودخلنا مرحلة الفُتُوَّةِ والشباب، كان يَجمعُنا على قراءة السيرةِ، وغالبًا ما كان يَعهَدُ إليَّ بقراءةِ الجزءِ المُخَصَّصِ لتلك الجَلسَةِ تشجيعًا مِنه وتعليمًا، وكان لذلك التَّصرٌّفِ الأثرُ الكبيرُ في نَفسي وفي تكويني العلميِّ، - رحمه الله - رَحمَةً واسعة، وجزاه عني الخَير. (ربِّ اغفر لي ولوالديَّ، رب ارحَمهُما كما رَبَّيَانِي صغيرًا).

ثمَّ بعدَ أن بدأتُ بطلبِ العِلمِ، وصِرتُ أَخطُبُ الجُمَعَ وأُلقِي الدروسَ في المَسجِد، كانت السيرةُ النبويَّةُ مَرجعًا مُهِمًّا لي.

ولما رَزَقَنِي الله أولادًا، من بَنِينَ وبناتٍ, كنتُ أَعقِدُ لهم درسًا يَوميًّا، وكان عِمادُ هذا الدرسِ السيرةَ النبويَّةَ.

وتَعَلَّقَ الأولادُ بحضورِ هذه الجَلسَةِ تَعَلٌّقًا شَديدًا، حَتَّى كانت عُقُوبةُ مَن يُذنِبُ مِنَ الأولادِ حِرمانَه حُضُورَ الدرسِ.

لقد كانت هذه العُقُوبةُ هي العُقُوبةَ الكبرى عندهمº فكان الولدُ المحرومُ يَبكِي ويُوسِّط أُمَّهُ ويَتَعَهَّدُ بالتَّوبة وبألا يَعودَ إلى مُقَارَفة هذا الذنبِ مقابِلَ أن يُسمَحَ له بالحُضُور.

وكانت هذه الجَلسَةُ نافعةً للأولادِ أعظمَ النفعِ ولله الحمدُ والمِنَّةُ، حتى أكمَلنا دراسةَ السيرةِ كلِّها.

وبقِيتُ آنَسُ بالسيرةِ فأَفزَعُ إليها، أَقرَؤها بَينِي وبَين نفسي، وأَستَشهِدُ بأحداثِها في كِتاباتِي وأحادِيثِي.

وصلَّى الله على محمدٍ,، وآله وصَحبه وسلِّم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر:تفسير ابن كثير. سورة الأحزاب الآيتان {يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ}...الآية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply