الشمائل النبوية آثار وأخبار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، وبعد، فليست الشمائلُ النبوية مجردَ قصصٍ, وأخبار، وإنما نفحاتٌ وآثارٌ، وما زال دأبُ الصالحين تتبٌّع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - العِلمية والعَمَلية.

وقد أخرجَ البخاري - رحمه الله - في كتاب الحج (باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: العقيقُ وادٍ, مُبارَك) عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -: (قد أناخ بنا سالم يتوخَّى بالمُناخِ الذي كان عبد الله يُنِيخُ يتحرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي).

ذَكرَ العقيقَ فهاجَه تَذكارُهُ ***صَبُّ عن الأحبابِ شَطَّ مزارُهُ

وهَفَت إلى سَلعٍ, نوازعُ قلبِهِ *** فتَضَرَّمَت بين الجوانِحِ نارُهُ

لولا هواهُ لَما ثَنت أعطافَهُ ***بانُ الحِجازِ ورَندُهُ وعَرارُهُ!

ورَحِم الله المحبَّ الطبري ما أحسنَ قولَه في (القِرى لقاصِدِ أُمِّ القرى): \"ينبغي لِمَن قَصَدَ آثارَ النٌّبوَّةِ أن يَعُمَّ بِصَلاتِهِ الأماكنَ التي هي مَظِنَّةُ صَلاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فيهاº رجاءَ أن يَظفَرَ بِمُصَلَّى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن كلِّ مكانٍ,:

خليليَّ هذا رَبعُ عَزةَ فاعقِلا *** قَلُوصَيكُما ثم انزِلا حيثُ حَلَّتِ

ومُسَّا تراباً طيِّباً مَسَّ ذيلـَها *** وبيتاً وظِلاً حيثُ باتَت وظَلَّتِ

ولا تيأسا أن يعفوَ الله عنكما*** إذا أنتُما صلَّيتُما حيثُ صَلَّتِ\"[1]

فهذه الأرضُ قد وَطئتها أقدامُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفاحَت في أرجائها أنفاسُه الطاهرة، وسار في جَنباتِها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - أجمعين.

وأستشرفُ الأعلامَ حتى يدلَّنِي *** على طِيبِها مَرٌّ الرِّياحِ النَواسِمِ

وما أنسـمُ الأرواحَ إلا لأنَّها *** تَمُرٌّ على تلك الرٌّبَى والمعالِمِ!

ورَحِم الله ابنَ دقيق العيد حيث قال:

يا سائراً نحوَ الحجاز مُشمِّراً *** اجهَد فَدَيتُك فِي المَسِير وَفِي السٌّرى

إن كَلَّتِ النٌّجبُ الركائبُ تارةً *** فأعِد لَهَا ذِكرَ الحَبيبِ مُكَرَّرا

قِف بالمنازلِ والمَناهِلِ مِن لَدُن *** وادي قباءَ إِلَى حِمى أمِّ القُرَى

وتوَخَّ آثارَ النَّبي فَضَع بِهَا *** مُتَشرِّفاً خَدَّيكَ فِي عَفر الثَّرَى

وَإذَا رَأيتَ مَهابِطَ الوحيِ الَّتِي *** نَشَرت عَلَى الآفاق نُوراً نَوَّرَا

فاعلَم بأنَّكَ مَا رَأيتَ شَبِيهَهَا *** مُذ كُنتَ فِي ماضيَ الزَّمان ولا يُرى

شَرفاً لأمكنةٍ, تَنَزَّلَ بَينَها *** جِبريلُ عن ربِّ السماءِ مُخَبِّرا

فَتَأَثَّرَت عنهُ بأحسنِ بَهجةٍ, *** أَفدِي الجَمالَ مُؤثَّراً ومُؤَثِّرا

فتردَّدَ المُختارُ بَينَ بَعِيدِهَا *** وقَرِيبِها مُتَبدِّياً مُتَحَضِّرَا

ولله درٌّ ابنِ قدامة حيث قال - رحمه الله -: \"أما المدينة الشريفة، فإذا لاحت إليك فتذكَّر أنها البلدةُ التي اختارها الله لنبيِّهِ محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرع إليها هجرته وجعل فيها تُربتَه، ثم مثِّل في نفسِك مواضعَ أقدامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عند تردٌّدِهِ فيها وتصوَّر خشوعَه وسكينتَهº فإذا قصدتَ زيارةَ القبرِ فأحضِر قلبَك لتعظيمِهِ والهيبةِ له، ومثِّل صُورتَهُ الكريمة في خيالِك، واستحضِر عظيمَ مرتبتِهِ في قلبِك، ثم سَلِّم عليه، واعلم أنه عالِمٌ بحضورِك وتسليمِكَ كما وردَ في الحديث\". [2]

 

ورَحِم الله ابنَ الصباغ حيث قال:

يا ربعَ دارٍ, حلََّ فيها أحمدُ *** والسادةُ الخُلفاءُ والأبرارُ!

مَن لي بِخَدٍّ, في ثَراك مُمَرَّغٍ, *** ودُمُوعِ عَينٍ, سَحٌّها مِدرارُ!

مَن لِي بِلَمحةِ نظرةٍ, يُطفَى بها *** من لَفحِ مَلهُوبِ الجوانحِ نارُ!

من لِي بِمَوردِ عَذبِ ماءٍ, بَردُه *** يُشفَى به صَبُّ بَراه أُوارُ!

مَن لِي بأن أحظَى بزورةِ مَنزلٍ, *** لِلوَحيِ في جَنَباتِه آثارُ!

وقد كان علماءُ المسلمين وفُضلاؤهم يتحملون عَناءَ الأخطارِ ووَعثاءَ الأسفار، ولا يرغبون بأنفُسِهم عن زيارةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما نقلَ الحطاب عن المازري - رحمهما الله -: \"لقد عُمِلَ مجلسُ شيخِنا أبي الحسن اللَّخمي بصفاقص[3] وحولَه جمعٌ من أهل العلم مِن تلامذتِه وهم يتكلَّمون على هذه المسألة فأكثروا القول والتنازع فيها: فمن قائلٍ, بالإسقاطِ ومِن مُتوقِّفٍ, صامتٍ,، والشيخُ - رحمه الله - لا يتكلَّمُ، وكان معنا في المجلسِ الشيخ أبو الطيِّب الواعظ، وكُنا ما أبصَرناه. فأدخلَ رأسَه في الحلقة، وخاطبَ الشيخَ اللَّخمي، وقال: يا مولاي الشيخ

إن كان سَفكُ دمي أقصَى مُرادِهم *** فما غَلَت نظرةٌ منهم بِسَفكِ دمي!

فاستَحسنَ اللَّخمي هذه الإشارة\". [4]

وما ألطفَ ما رواه ابنُ كثير - رحمه الله - أنَّ وفداً من العراقيِّين حَجٌّوا سنةَ أربعٍ, وتسعين وثلاثمائة وكانوا يخافون قُطَّاعَ الطريق، ومعهما قارئان من أحسنِ الناس صَوتاً، \"وقد كان أميرُ العراقِ عَزمَ على العَودِ سريعاً إلى بغداد على طريقِهم التي جاؤوا منها، وأنٍ, لا يسيروا إلى المدينة النبويَّةº خوفاً من الأعراب...فشقَّ ذلك على الناس، فوقفَ هذان الرجلان القارئان على جادَّة الطريقِ التي منها يُعدَلُ إلى المدينة النبويَّة، وقرءا: مَا كَانَ لِأَهلِ المَدِينَةِ وَمَن حَولَهُم مِّنَ الأَعرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرغَبُوا بِأَنفُسِهِم عَن نَّفسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم لاَ يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِن عَدُوٍّ, نَّيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ الآيات (التوبة 120).فضجَّ الناسُ بالبكاء، وأمالت النوقُ أعناقها نحوهماº فمال الناسُ بأجمعهم والأمير إلى المدينة النبويّة، فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم\". [5]

أَحبابَنا هَل لِذاك العَهدِ تَذكارُ *** يُدنِي إلَيكُم إِذا لَم تُدنِنا الدارُ؟

بِنتُم فَلَم يُغنِنا مِن أُنسِكُم سَكَنٌ *** يَوماً وَلا راقَنا مِن بَعدِكُم جارُ!

تَجري المُنَى سانِحاتٍ, في خَواطِرِنا*** وَما لَها غَيرُ جَمعِ الشََّملِ أَوطارُ

قَد قَطَّع البُعدُ نَجوانا وَما بَرِحَت *** في القَلبِ مِنكُم أَحاديثٌ وَأَسرارُ

نَبيتُ في الرَّبعِ نَستَسقي الغَمامَ لَكُم *** وَقَد سَقَت رَبعَكم لِلدََّمعِ أَمطارُ

حَقُّ عَلَينا وَإِن غِبتُم زَيارتُهُ *** فَهَل نَراكُم وَأَنتُم فيهِ زُوَّارُ؟

أَمَّا الكَرى فَسَلُوا عَنهُ الخَيالَ إِذا ** وارَتهُ مِن ظُلُماتِ اللََّيلِ أَستارُ

يَطوفُ مِن حَولِنا حَتى يَعود وَقَد *** أَصابَهُ مِن رَشاشِ الدَمعِ آثارُ!

وليت شعري من لا يَحِنٌّ إلى زيارةِ طَيبة الطيِّبةº فإنَّ ذلك من علاماتِ حُبِّ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كما قال القاضي عياض - رحمه الله -: \"ومن إعظامه وإكبارِه إعظامُ جميعِ أسبابِه، وإكرامُ مَشاهِدِه وأَمكِنَتِه مِن مكَّة والمدينة ومَعاهدِه وما لَمِسَه - صلى الله عليه وسلم - أو عُرف به... وحُدِّثتُ أن أبا الفضل الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائراً وقرب من بيوتِها ترجَّلَ ومشى باكياً مُنشِداً:

ولَمَّا رأينا رَسمَ مَن لَم يَدَع لنا*** فُؤاداً لِعِرفانِ الرٌّسُومِ ولا لُباًّ!

نزَلنا عن الأكوارِ نَمشِي كرامةً*** لِمَن بانَ عنه أن نُلِمَّ بِهِ رَكبا!

... وجَدِيرٌ لِمَواطِنَ عُمِّرَت بالوَحيِ والتنزِيل، وتردَّد بها جبريلُ وميكائيل، وعرَجت منها الملائكةُ والرٌّوح، وضَجَّت عَرَصاتُها بالتقديسِ والتسبيح، واشتمَلَت تُربَتُها على جَسَدِ سيِّدِ البشر، وانتَشرَ عنها مِن دينِ الله وسُنَّةِ رسولِه ما انتشَر! مدارِسُ آيات، ومساجِدُ وصَلَوات، ومَشاهِدُ الفضائلِ والخيرات، ومَعاهِدُ البراهينِ والمعجِزات، ومَناسِكُ الدِّين، ومَشاعِرُ المسلمين، ومواقفُ سيِّدِ المرسَلِين، ومُتبوَّأ خاتَمِ النبيِّين! حيثُ انفَجرَت النٌّبوَّة، وأين فاضَ عُبابُها، ومَواطِنُ مَهبطِ الرسالة، وأولُ أرضٍ, مسَّ جلدَ المصطفى ترابُها: أن تُعظَّم عرصاتها، وتُتنَسَّم نفحاتُها، وتُقبَّلَ رُبُوعُها وجُدُرانُها:

يا دارَ خَيرِ المرسَلِين ومَن به *** هُدِيَ الأنامُ وخُصَّ بالآياتِ

عندي لأجلِك لَوعةٌ وصَبابةٌ *** وتَشَوٌّقٌ مُتوَقِّدُ الجمَراتِ!

وعَلَيَّ عَهدٌ إن مَلأتُ مَحاجِرِي *** مِن تِلكُمُ الجُدُرانِ والعَرَصاتِ!

لأُعَفِّرَنَّ مَصُونَ شَيبِي بينَها *** مِن كَثرةِ التقبِيلِ والرَّشَفاتِ!

لولا العَوادي والأعادي زُرتُها *** أبداً ولو سَحباً على الوَجَناتِ!

لَكِِن سأُهدِي من حَفِيلِ تحيَّتِي *** لِقَطِينِ تلك الدارِ والحُجُراتِ

أزكَى من المِسكِ المفتَّقِ نفحةً *** تغشاهُ بالآصالِ والبُكُراتِ\"[6]

ولا يخفى أنَّ الشمائلَ ليست قاصِرةً على الحنينِ والأشواق والآثارِ والأخبار، بل تشملُ الإتِّباعَ واكتساب الأخلاق، كما قال الله - عز وجل -: قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران 31).. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه.

 

--------------

[1] القرى لقاصد أم القرى ص 350.

[2] مختصر منهاج القاصدين ص50.

[3] مدينة من مدن تونس، يُنسَب إليها علي النوري الصفاقصي صاحب (غيث النفع في القراءات السبع).

[4] مواهب الجليل للحطاب 2/497-498. دار الفكر بيروت. ط2. 1398.

[5] البداية والنهاية لابن كثير 6/406. دار المعرفة بيروت. ط4- 1419هـ. وقد ذكرتُ هذه القصة في (الشمائل حنين وأشواق)، وكرَّرتها هنا في (الشمائل آثارٌ وأخبار)º لمناسبة القصة للمقالتين.

[6] الشفا ص260-262.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply