أشواق ورقة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الشوق الفاعل ذابل كغصون الخريف، يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعًا، تتبعثر نظراته في ترقب مَن يُعيد الحياة لقلب الحياة، نقي كشمس مكة، طاهر كزمزمها، ومكة غارقة في طوفان من الأوثان يحرسها ملأ يخاف منهم الخوف!.

وفي يوم جاشت نفس الكهل المبصر بعصاه، فزفرت بتلك الأمنية العجيبة: (يا ليتني فيها جذعاً)!!.

تُرى لِمَ كل هذه اللهفة المؤرقة للعودة للوراء؟!.

لِمَ تلك الأشواق لوقت القوة والعافية؟! أللذة؟! أللمتعة؟! ألاقتناص شيء من العبث الأحمر فاته؟! كلا، ولا يحق لنا طرق مثل هذه التساؤلات لأن أحرف الجملة أبت أن تختمها النقطة (ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا)[1].

نعم! فما ورقة بن نوفل من اللهو، ولا اللهو منه!! هزّه الشوقُ هزًّا عنيفًا، فبعث فيه من الطموح و الهمة وإرادة الخير والسعي لتحقيقه ما لم يكن له نظير، فتمنى أن يعود دولاب العمر للوراء، تمنى أن يسابق الزمن لنصرة دين جديد، قادم كالمستقبل، يتربص به الإجهاض، وإن لم يكن فالوأد في دروب مكة وخلف شجيراتها!.

حقًّا لقد ارتقى ورقة رُقيًّا عجيبًا، حين طمع في نصرة دين في مجتمع تراقُ فيه الدماء عشرات السنين لأجل ناقة! فما بالك بمن يهدد الآلهة التي تُنحَر لها عشرات النياق؟!.

وأي نصر؟! (مؤزرًا) وهذا يكفي! (ثم لم ينشب ورقة أن تُوفي)[2] وطُوِيَ بساطُ عمره فجوزي بذياك الشوق و الإيمان والتأييد، بالخلود في دار حملة المشاعل، و(لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين) [3].

 

لا لثقافة الإعذار:

بعد تلك اللقطات العجلى من الأخبار الصحيحة، يتحدد المسار وتتضح المعالم. فمما هو معلوم بداهة أن إتقان العمل وإنجازه يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بنوعية  النفسية المقبلة عليه فماذا لو تعاملنا مع  الدعوة إلى الله تعالى- ليس على أنها تبعة وحمل نلقيه عن كواهلنا، أو على أنها إعذار إلى ربنا؟ لا، لا ينبغي ذلك!.

بل علينا أن نُقبل عليها بنفسية المحب الشغوف للعمل، فنغلِّبُ عنصر الشوق المجنِّح على تلك العناصر الأخرى، فتكون نتيجة المعادلة: إحسان العمل وإنجازه وإتقانه، بل البحث عن الأفضل دومًا، فتُستهلك روح الشوق في الفاعلية واستثمار الفرص، ومضاعفة العطاء، ولتصعيد  الهمة والطموح، دون أن نجعل من ذياك الشوق تصعيدًا للعواطف، أو رفرفة في أحلام اليقظة بالنصر والتمكين تحوِّله إلى خَدَر لذيذ!. فما سبق عواطف جوفاء لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث! أو خروج تلك العواطف والأشواق في قالب إنجاز لحظي وقتي عشوائي فما كان نجاح  الدعوة أبدًا فورة، ولا وثبة كوثبة نار القش، تَشِبٌّ في لحظة وتخمد في أخرى! لا فإن ذاك غير مطلوب بل المطلوب هو تحويل العواطف إلى عزيمة وهمة وطموح وثَّاب يتغلب على الانكسارات  النفسية التي يصدمنا بها الواقع، فتستبدل العواطف ببرامج عمل واقعية مرسومة.

 

العاطفة ليست مرحلة:

لو تأملنا حال ورقة لوجدنا عجبًا فهو يعلم يقينًا أن المسألة مسألة بلاء، وغربة، وعناء وبرغم ذلك كله نجد شوقه يسابق الزمن، وأتبع ذلك بأن وضّح للنبي -صلى الله عليه وسلم- مَعلَمَ طريقه حين قال: (إذ يخرجك قومك) فقال  النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوَ مخرجيَّ هم؟) قال: (نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي) فإن لم يكن ثمة عمل في المستقبل فلا أقل من بعث  الهمة وتوضيح المسار للسالكين وإسداء النصح للمسترشدين.

والذي نحتاجه ليس البرود، ولا مشي السلحفاة، ولا حرق المراحل، والقفز فوق المعطيات، إنما تقدير الأمور التقدير الصحيح فالانطلاق -فقط- من تلهٌّب الإحساس بالواقع المرير للأمة دون منهج صحيح في التغيير في حد ذاته حَرق واستهلاك لخطوات  الدعوة التقدمية فـ (العاطفة ليست مرحلة من المراحل، وإنما هي مناخ نفسي وروحي، يشحن الفعل الإسلامي في كل حين، وينتشلها من مواقف البلادة والجمود والتردد واللامبالاة، ويمدٌّها بالوقود اللازم -إن صح التعبير الذي يحرك كل طاقات البذل والعطاء وفعل الخير) [4].

فوجود تلك الروح -روح الشوق للعمل- تجعل الداعية في حالة من التوتر الحيوي الصحي الضروري للعمل، وتدفع من تتضرم في قلبه تلك الأحاسيس إلى الإبداع، ومن ثم الابتكار في مجالات  الدعوة.

ونهاية المطاف في هذا الشوق: أن نكون مدججين بآليات البناء الجاد والعطاء المتقد، وفاعلية الشعور، ويقظة المشاعر.

وبعدُ، يا مِلح  الدنيا، هذه دعوة لكل من ذبلت أشواقه فغدت صفراء واهنة مهترئة، إلى أن يبدلها بأشواق خضراء كأشواق (ورقة) عسى أن يصاحبه في جنة الخلد!.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

*داعية وكاتب سعودي.

[1] صحيح البخاري كتاب الحيل باب التعبير، صحيح مسلم كتاب الإيمان، بدء الوحي.

[2] صحيح البخاري كتاب الحيل باب التعبير، صحيح مسلم كتاب الإيمان، بدء الوحي.

[3] صحيح الجامع الصغير، 7197، والسلسلة الصحيحة، 405 وقال صحيح.

[4] تجديد الصحوة الإسلامية، جمال سلطان، مجلة البيان، العدد [143].

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply