نموذج حضاري ( 4 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

النموذج الحضاري الإسلامي في الاقتداء بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم- (الجزء الرابع)

المعالم التربوية في رسالة خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم-:

ولنبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - مزية خاصة فهو أفضل الرسل وخاتم النبيين، ونستنبط من رسالته الحضارية بعض المعالم التربوية وهي:

 

1 اتصافه بالأخلاق اللازمة لأجيال الحضارة

فمحمد - صلى الله عليه وسلم- رسول الحضارة وحضارة الإسلام من أهم مميزاتها أنها حضارة أخلاقية، وهذا خلاف ما اكتنف الحضارات الغابرة والمعاصرة من سلوكيات لا أخلاقية. وخير شاهد على ذلك رسول الحضارة نفسه- صلى الله عليه وسلم-، فالمنهج الأخلاقي في حياته - صلى الله عليه وسلم- لم يبلغه بشر ولم يحصل عليه مخلوق، ويكفي شهادة خير الشاهدين - سبحانه وتعالى - حين يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,} (القلم: 4). فقد كان منهجه - صلى الله عليه وسلم- المنهج الأسنى الذي بنى خير حضارة وأخرج أفضل أمة، فلا بد من دراسته وتأمله وفهم دقائقه. يقول برغوث مبارك(1415): \" وذلك لما للوعي بهذا المنهج من فقه بصير وإدراك عميق وفهم سديد لسنن الدعوات وقوانين النهضات ومناهج البلاغات ومقاصد الديانات وأخلاق السياسات وحاجات النفسيات ومتطلبات العقليات واستعدادات الشخصيات وثقافات الجماعات وسلوكات الأمم الناجيات وشرائع الرحمة الميسرات. ففي المنهج النبوي سبيل لهداية الناس إلى الأعمال الصالحات والأقوال الصائبات والعبادات الصحيحات والمعاملات النافقات والمواقف المرضيات...والمنهج النبوي له قدرته على تركيب حضارة عالمية نموذجية تستجيب لقانون الفطرة العالمي\" (ص38).فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم- هو رائد الأخلاق في هذه الحضارة، وعلى نهجه وأسلوبه تربى أصحابه رضوان الله عليهم، وبهذه الأخلاق أثروا في الأمم والشعوب التي التقوا بها في السلم والحرب، في السلم من خلال التبادل التجاري والاقتصادي والمناكحة، وفي الحرب أثناء المعارك والحروب.

 

2 إبرازه - صلى الله عليه وسلم- للنماذج والأمثلة التي تضحي من أجل أهداف الحضارة

وذلك كما حصل من اختياره للمتربين الأوائل في مكة وإعدادهم للمستقبل، والتربية الحضارية تسعى لبناء رجال أقوياء يتحملون أعباء الحياة ويواجهون المشكلات بمنطقية وشجاعة، ولا يضعفون أمامها فيهربون إلى المخدرات أو الانتحار كما يحصل في الحضارات المادية. والدراسة التربوية للسيرة النبوية بما فيها من مواقف وأحداث ينبغي أن تعطى العناية الرائدة لأنها تمثل سيرة أكرم رسول وأفضل صداقة ومن خلالها بُنيت أنزه حضارة. ولما صدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بكلمة التوحيد، كانت تلك الكلمة زلزالاً صدع بنيان الوضع الجاهلي الذي عاشته قريش ومن حولها من قبائل العرب، وقد فهم العرب من تلك الكلمة أنها جاءت لتبني منهج حياة جديدة تعتمد في قوانينها ولوائحها على غير ما اعتادوه من قيم ومبادىء. وعلى مفاهيم هذه الكلمة تربت الجماعة الأولى من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بتوجيه وسياسة من المربي الحضاري محمد - صلى الله عليه وسلم-. وفي العهد المكي أُرسيت أسس عقدية تشبع بها الثلة المؤمنة وصبرت عليها وتحملت الأذى في سبيلها. وفي مكة كان الأسلوب القرآني والتطبيق النبوي يهدف إلى التمسك بالمنهج والصبر عليه، ولم تكن الأوامر الإلهية قد جاءت بالمواجهة العسكرية فهم لم تتهيأ نفوسهم لهذه المرحلة، وفي هذا مراعاة للظروف البيئية والإيمانية وتربية على الثبات واليقين. وفي مكة نزل قوله - تعالى -: {فلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان: 52). قال ابن كثير (ج3 ص321): \"به أي بالقرآن\". وحيث إن القرآن كتاب هداية وعلم وفيه الأحكام الدينية والشرائع الدنيوية، فإن الجهاد بالقرآن هو نوع من الجهاد الفكري الذي يربي الأجيال على التطلع للمقاصد العالية والمراتب النبيلة.

3 الاستفادة من مراحل السيرة النبوية في وضع مناهج التربية الحضارية

فللمنهج الحضاري الإسلامي أهدافه الخاصة المنطلقة من عقيدته ومبادئه، وهذا المنهج هو الذي تُربى عليه الأجيال. وما أجدر أن يستفيد المسئولون عن العملية التربوية من المرحلة المكية فيما يتعلق بالمناهج والأساليب التربوية. ومن ذلك ضرورة مخاطبة المتعلمين بما يناسبهم ومراعاة أحوالهم خاصة عند الابتداء في الطلب فلا يكلفوهم ما لاتحتمله أذهانهم أو ما لا تقدر عليه استعداداتهم.

وعندما فُتحت المؤسسة التربوية الأولى في الإسلام وهي دار الأرقم بن الأرقم حيث تلقت الجماعة المسلمة الأسس الفكرية لتعاليم الدين الجديد، تشربوا التحرر الثقافي في ظل مناخ فكري إسلامي خال من شوائب المناخ الجاهلي الموبوء. وهذا التأسيس يدفع المخلصين من أبناء الحضارة إلى الاستفادة من هذه المؤسسة إلى إيجاد صروح ثقافية تربوية معزولة في مناهجها وأساليبها عن محاضن العلمانية الماكرة، وذلك في غير عزلة عن العلم واكتشافاته المتجددة واختراعاته المفيدة.

 

4 العناية بالنابغين والموهوبين الذين تقوم عليهم الحضارة

وقد كان من أهداف التربية في العهد المكي خاصةً انتقاء العناصر الجيدة أو ما يسمى في العصر الحديث بالموهوبين أمثال أبي بكر وعثمان وعلي وطلحة، والحرص على إسلام صناديد قريش كعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وغيرهم. وكانت تلك الكوكبة نجوماً تلألأت في سماء مكة وكان لها دور عظيم فيما بعد في إقامة صرح الحضارة الإسلامية في المدينة، وكان لهم دور في تربية القادة والعلماء الذين ساهموا في تأسيس الحضارة بعد انتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى.

 

5 - الاستفادة من المنهج النبوي في تقوية الروابط الاجتماعية لثبات الحضارة

فالمجتمع الحضاري لا يمكن أن يقوم أو يبقى إذا كانت العلاقات بين أفراده تقوم على الصراع والحسد والبغضاء. وفي المدينة النبوية وُضعت اللبنة الأولى للدولة الإسلامية الوليدة فتحقق للمسلمين كيان مصغر عاشوا فيه آمنين على دينهم مطمئنين بين أهليهم، وتوثقت بين المؤمنين رابطة الأخوة، تلك الرابطة التي لم تعرفها ولن تصل إلى مستواها أي من المجتمعات الحضارية السابقة أو اللاحقة، وكون منهم رسولهم وقدوتهم مجتمعاً إيمانياً يقوم على الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين ولكل منهم دوره في البناء الحضاري. ونال المسلمون في المدينة التحرر الاقتصادي حيث عاشوا في مجتمع خال من الربا والمعاملات المالية المحرمة رغم وجود الثروة اليهودية بجوارهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply