واحتارت قريش


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما سمعت قريش آيات القرآن الكريم ذهلت واحتارت، ولم تستطع تصنيفه في ما ألفت من فنون القول والبيان: هل تصنفه ضمن الشعر؟ لا بالتأكيد. هل تشبهه بسجع الكهان؟ لم تجد لهذا الزعم دليلا تقنع به نفسها فكيف بغيرها من قبائل العرب؟ وذهب الوليد بن المغيرة وهو العارف بفنون الشعر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبا منه أن يقرأ عليه، فقرأ بعضا من آيات سورة النحل، فقال الوليد أعد، فأعاد. فما كان منه إلا أن حادث نفسه ومن حوله واصفا القرآن: “والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر”.

 

البحث عن وصف

واقترب موسم الحج وأحست قريش بخطورة اختلافها في شأن موقفها من القرآن وتحديد ماهيتهº وأدركت أنه لا بد لها من أن تتحد على وصف تصفه به، حتى لا تظهر أمام العرب بمظهر المتناقض. جاء في كتاب “الروض الآنف”: ”ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش.. إن وفود العرب ستقدم عليكم.. وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا... قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به، قال بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟

قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة.. وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وأن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره”.

 

وبدأت المساومات

وعملت قريش بنصيحة الوليد وأجمعت أمرها على عدم الاختلاف في الدعاية المضادة للقرآنº فكان النبي عند اتصاله بوفود العرب للحج يُعترض من قبل قريش بكونه مجرد ساحر يفرق المرء عن أبيه وعشيرته وبنيه! لكن كأي حملة دعائية كانت قريش من حيث لا تدري تذيع خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين العرب، وأحست بخطورة الأمر ففكرت في أسلوب المساومة بدل المواجهة. وقد سجلت كتب السيرة مساومات عديدة نذكر منها ما جاء في سيرة ابن هشام: فقال له عتبة: فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل يا أبا الوليد أسمع. قال يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.

قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم قال فاسمع منيº قال أفعل. فقال: “بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه” ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك”.

 

أساطير النضر:

ولما لم تنفع المساومات كان لا بد من رد فعل آخر. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على الناس قرآنا يجذبهم إليه ويشدهم إلى خطابه، فكرت قريش في بديل يشغل الناس عنه، فطلبت من النضر بن الحارث وهو الذي له علم بتواريخ الشعوب وأساطير الفرس أن يحكي للناس ما يلهيهم عن دعوة القرآن!! وفشل النضر أيضا، فما كان يقوله مجرد حكايات أساطير للتلهية يشبه ما تحكيه العجائز لأحفادها استجلابا لنومهم، بينما الذي يلقيه محمد - صلى الله عليه وسلم - آيات توقظ القلب والعقل وتحرك في داخل الإنسان حس الاستفهام والتساؤل، وتشككه في عقيدته الوثنية الساذجة، وتفتح أفقه العقلي وفطرته الكامنة أمام عقيدة أخرى وحدانية صافية واضحة. وأدركت قريش أن نعتها لما يقوله محمد بكونه مجرد أساطير الأولين، إن كان يصدق على شيء فإنه يصدق على خطاب النضر بن الحارث الذي انتدبته من بينها ليلهي الناس عن الدين الجديد!

 

ثلاثة أسئلة:

وأدركت قريش أن هذه الحقيقة الدينية التي يعلنها محمد لا يمكن أن تقاوم بحكي وسرد قصصي، بل لا يمكن أن تقاوم إلا بدين. وأدركت أن ما عندها من معتقد وثني لا يمكن أن يقاوم دعوة القرآن التوحيدية، فكان لا بد من طلب المعونة من خبراء! فبعثت وفدا إلى المدينة ليستشير اليهود وهم أهل كتاب، في شأن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي كيفية مقاومتها. ولم يكن اليهود أحسن حالاً من قريش في مقاومة خطاب النبي الجديد، إذ أعطوا لوفد قريش ثلاثة أسئلة لتعجيزه (سؤال عن فتية الكهف، والثاني عن ذي القرنين، والثالث عن ماهية الروح وحقيقتها). لكن لما طرحت الأسئلة الثلاثة على النبي سارع إلى القول: أجيبكم غدا”. وكان يحسب أن الوحي سرعان ما سيأتيه مجيبا عن هذا التحدي الجديد، لكن لم يحصل ما وعد، حيث تأخر الوحي اثنتي عشرة ليلة، وقيل أربعين يوما... وخلال هذه الليالي والأيام كانت قريش جذلة فرحانة بانتصارها، فقد عجز خصمها اللدود عن الإجابة عن أسئلتها المستعارة من يثرب. وحزن النبي حزنا شديدا، وأحس بالحرج، وزادت قريش في إحراجه كلما التقت به، لذا كان أول ما قاله النبي عندما جاءه جبريل: “لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا” فرد عليه الملك الكريم بالآية “وما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا”. ثم جاءت الإجابة في سورة الكهف.

 

حيرة المستشرقين:

وعندما نتأمل حيرة قريش لا نجدها تختلف كثيرا عن حيرة المستشرقين، وحيرة كل من يعاند هذا الدين! فهذه الحيرة تدفع المعاند إلى أن يصطنع وصفا كاذبا ينعت به الإسلام ونبيه، ففي بداية الاستشراف، ومع بداية التواصل المعرفي مع الإسلام، استشعر الكثير من المستشرقين أن ما جاء به نبي الإسلام على مستوى العقيدة هو أعمق وأصفى تعبير عن الوحدانية، ولا يمكن أن تقارن به عقيدة الأقانيم الثلاثة التي جاءت بها أناجيلهم. وما سطره القرآن في شأن خطيئة آدم، وتقرير المسؤولية الفردية أحق بالاقتناع من مفهوم الخطيئة الأبدية، وما يرتبط بها من خرافة الفداءº وما في القرآن من صور عن النبوة وأخلاق الأنبياء هي حقا ما يليق بمن اصطفاهم الله لإصلاح البشرية، وليس ما وصم به العهد القديم والجديد شخصيات الأنبياء من تهم وسلوكات لا أخلاقية! فكيف بعد كل هذا يمكن نفي النبوة عن محمد؟

لعل حيرة الاستشراق كانت أكبر من حيرة قريش، ولقد كان الوليد ذكيا حذرا في توصيف النبي فلم ينزلق إلى كذب مفضوح، بل حاول تغليف الكذبة قليلا، ولكن الاستشراق الأوروبي مستعينا بجهل الأوروبيين بالإسلام - أطلق كذبة مفضوحة للتغرير بالعامة، وهي أن محمداً كان كردينالا في كنيسة روما فلما تحقق له أنه لن يصل إلى مركز البابوية ثار على الكنيسة وذهب إلى جزيرة العرب وأعلن نفسه نبيا جديدا!

وبقيت هذه الكذبة المفضوحة متداولة طيلة قرون، وعندما انتشرت ترجمات معاني القرآن ونقلت بعض كتب علماء المسلمين، ثار على هذه الكذبة وسفهها المستشرقون، بل عدها المؤرخ ريتشارد سويثرن من أكثر العلامات الدالة على تحيز الرؤية الاستشراقية ولا إنصافها للإسلام ونبيه.

اللهم اهدنا واهـد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply