صبره صلى الله عليه وسلم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الصبر شعار المرسلين كما دل عليه قول الله - تعالى -: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كـُذِّبوا…)(الأنعام/34)، وقد رغـّـب الشرع الحنيف في الصبر وحث عليه، وأثنى على أهله.

ولقد كان رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر رسل الله دعوة وبلاغـًا وجهادًا، لذا كان أكثرهم إيذاءً وابتلاءً، منذ بزوغ فجر دعوته إلى أن لحق بربه - جل وعلا -.

فقد لقى الأذى بمكة من قريش وغيرهم، وبعد أن هاجر إلى المدينة لقي من المشركين والمنافقين واليهود أذىً شديدًا، وما كانت تزيده هذه الشدائد والمحن إلا إصرارًا وثباتــًا، بما منَّ الله - تعالى -عليه من تثبيت قلبه، وما آتاه الله - عز وجل - من الصبر، وفيما يلي نستعرض نماذج من صبره - صلى الله عليه وسلم -.

 

صبره في طريق الدعوة إلى الله:

منذ بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته إلى الله، واجهه المشركون بشتى أنواع الأذى، من رميه بالسحر والكهانة والشعر والجنون، إلى إيذائه جسديـًا فرموه بالحجارة وشقوا وجهه، ودبروا قتله ومن ذلك:

1- ما أخرجه البخاري - رحمه الله تعالى - من حديث عروة بن الزبير - رحمه الله - قال: سألت ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ـ لعنه الله ـ فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقـًا شديدًا فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)(غافر/28).

 

2- وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: \" بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة - عليها السلام - فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [اللهم عليك الملأ من قريش أبا جهل بن هشام، وعتبة من ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف] أو [أبي بن خلف] ـ شك الراوي ـ قال الراوي: فرأيتهم قتلوا يوم بدر، فألقوا في بئر غير أمية أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر \".

 هكذا عانى - صلى الله عليه وسلم - من قومه الشدة والأذى وهو صابر محتسب، فلما أيس من نجاح دعوته في قومه مع ما هم عليه من العداء والإيذاء، طمع في أن ينصره قوم آخرون من غير قومه، فعمد إلى الطائف رجاء أن يُؤوهُ وينصروه على قومه ويمنعوه منهم، لأنهم: \" كانوا أخواله ولم يكن بينه وبينهم عداوة \" إلا أنهم ردوا عليه أقبح رد وأشده.

1- فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: [لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله - تعالى -وحده لا يشرك به شيئـًا \"(البخاري ومسلم).

وهكذا واجه النبي هذا الإيذاء والجهل بالصبر الجميل، حتى أنه أبى أن يدعو عليهم.

وقد انتهت هذه المرحلة بمحاولة المشركين قتله - صلى الله عليه وسلم - كما أشار الله - تعالى -إلى ذلك بقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)(الأنفال/30).

ولما هاجر صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة لم يقل صبره عما كان عليه أمره في مكة، فلئن كان في مكة صابرًا على المشركين فحسب، فإنه في المدينة قد صبر على مَن هم أكثر أذية وعددًا وطوائف، إنهم المنافقون، واليهود والمشركون، فقد كانت كل واحدة من هذه الطوائف تكيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته كيدًا وتصطنع له أذية لا تألو جهدًا في ذلك، وهو يتلقى ذلك كله بقلب راسخ بالإيمان واثق بنصر الله، ورباطة جأش، لا يتزعزع من حوادث الأعداء وكيد الألداء.

 

صبره - صلى الله عليه وسلم - على المنافقين في المدينة:

أما المنافقون فقد كان الصبر عليهم مُرًّا، إذ لا حيلة له غير الصبرº لأنهم يزعمون الإسلام، ويظهرون الولاء لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهم في الحقيقة يبطنون الكفر ويتربصون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الدوائر، وهم عيون للأعداء الخارجيين يتتبعون عورات المسلمين، ويخططون للقضاء عليهم، ولكن ذلك في السر، إذ لا يعلم ذلك أحد إلا الله - تعالى - ثم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بإعلام الله - تعالى -له.

ولطالما كان المسلمون يكتشفون رائحة النفاق من أحدهم، فيستأذنون النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله فيقول - عليه الصلاة والسلام -: [ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه](رواه البخاري ومسلم)..إن ذلك الصبر لا متنفس فيه، وهو أشد ما يكون على المرء، وسأذكر هنا قصة واحدة تبين مدى صبره - صلى الله عليه وسلم - على أذى المنافقين:

فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارًا عليه إكَاف، تحته قطيفة فدَكِيَّة، وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - قال: فلما غشيت المجلس عجاجة الدَّابة، خمَّر عبد الله بن أبي أنفه ثم قال: لا تغبِّروا علينا، فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء ـ يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقـًا فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى همـّوا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب ـ يريد عبد الله بن أبي ـ قال كذا وكذا؟ فقال سعد - رضي الله عنه - : اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البـُحيرة أن يتوجوه فيعصِّبوه بالعصابة ـ أي يجعلوه ملكـًا عليهم ـ فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك، فلذلك فعل به ما رأيت، قال: فعفا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -)(رواه البخاري وسلم).

فانظر أي صبر يقدر على مثله أحد بيده القدرة على عقاب مثل هذا القائل غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ يتجرأ هذا الجلف على الانتقاص من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ذو الجناب العظيم، ويصده عن دعوته، وهو المأمور بالبلاغ المبين.

 

صبره - صلى الله عليه وسلم - على اليهود:

وأما اليهود فقد كان صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم شديدًا، إذ أنهم أهل خديعة ومكر وحقد دفين، فإنهم لم يكتفوا بكتم صفاته التي يجدونها في التوراة، والتي يعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم، والتي لو بينوها للناس لدخلوا في دين الله أفواجـًا من أول دعوته - صلى الله عليه وسلم -º لأن الكل كان يسلم لليهود بأنهم أهل كتاب، وأن لهم علمـًا برسل الله، فلو أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه من بيان صفاته - صلى الله عليه وسلم - للناس، وأشهروا ذلك في المجتمعات، لما تردد أحد في الاستجابة له - صلى الله عليه وسلم -.

بيد أنهم غيروا صفاته - عليه الصلاة والسلام -، وجحدوا نبوته، وأغروا به المشركين وقالوا لهم: \" إنكم أهدى سبيلاً من محمد وأصحابه \" مما كان له أثر عائق في صد الناس عن دين الله - تعالى -، ومشجع لهم على عداوة المؤمنين، كل ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - صابر على معاملتهم وعلى خيانتهم وما يتوقعه من غدرهم حتى حكم الله بينه وبينهم، وذلك في يوم قريظة حين حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - بحكم الله - تعالى -بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، لما نقضوا العهد الذي بينهم وبينه، وظاهروا المشركين يوم الأحزاب على قتاله - صلى الله عليه وسلم -، وأجلى من أجلّى منهم من بني قينقاع وبني قريظة، ثم فتح خيبر فأبقى أهلها إلى حين.

 

صبره صلى الله عليه وسلم على المشركين في العهد المدني:

وأما صبره - عليه الصلاة والسلام - على المشركين في العهد المدني فلم يكن كصبره عليهم في العهد المكي، فإن صبره عليهم في هذا العهد كان صبرًا في ميادين القتال والمنازلة، صبرًا على كلوم الأسنة والرماح والسيوف التي ينفد معها صبر أولي العزم والقوة.

لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينفد صبره، ولم ينثن عزمه، وهو يخوض معركة بعد أخرى، ويجهز جيشـًا تلو آخر، حتى آتاه الله الفتح المبين والعز والتمكين.

ولقد نال من ذلك أذىً كبيرًا، حيث كسرت رباعيته، وشج وجهه الشريف في غزوة أحد وأثخنته الجراح ـ بنفسي هو وأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم - ـ وهو مع ذلك صابر محتسب، لا يلوي، ولا يولِّي الأدبار، كما يفعل كبار الأبطال، فلم يزد على أن قال: [كيف يفلح قوم شجُوا نبيهم وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله] فلم يلبث أن أنزل الله عليه: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)(آل عمران/128)(رواه البخاري ومسلم).

يعاتبه الله على ذلك، ومنه تعلم أن صبره - عليه الصلاة والسلام - كان مُرادًا لله - تعالى -لعظم قدره عنده، لأن الامتحان والبلاء على قدر المنزلة كما جاء في الحديث: [أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل](الترمذي وقال: حسن صحيح).

ولعل هذا هو سر تكرار أوامر الله - عز وجل - له - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الصبر كما في قوله - تعالى -: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)(الأحقاف/35)، وقوله - تعالى -: (واصبر وما صبرك إلا بالله)(النحل/127)، وقوله - سبحانه -: (فاصبر على ما يقولون)(طه/130) وقوله عز شأنه: (فاصبر إن وعد الله حقٌ)(الروم/60)، وقوله تقدست أسماؤه: (واصبر لحُكم ربك فإنك بأعيننا)(الطور /48)، إلى غير ذلك.

ولقد لبَّى - صلى الله عليه وسلم - تكليف ربه له بذلك وطبقه أيما تطبيق، كما علمته من خلال هذه المواقف العظيمة، المقتطفة من مواقفه الكثيرة في الصبر في كل مجالات الحياة، إذ لم يكن صبره - صلى الله عليه وسلم - قاصرًا على عناء الدعوة والجهاد، بل وعلى لأواء الحياة كذلك.

 

صبره - صلى الله عليه وسلم - على لأواء الحياة وشدتها:

 فقد جاء عن أنس - رضي الله عنه - أنه  - صلى الله عليه وسلم - قال: \" لقد أخِفتُ في الله، وما يخاف أحد، وقد أوذيت في الله، وما يُؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال \" (رواه الترمذي وغيره وهو حسن).

 وقد روى البخاري - رحمه الله - عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها-أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار. فقلت ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبياتهم فيسقيناه.

 

صبره - صلى الله عليه وسلم - على فقد الأولاد:

فقد أخرج ابن سعد عن أنس - رضي الله عنه - قال: [رأيت إبراهيم وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: [تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون].

وبعد 00 فهذه نماذج من صبره - صلى الله عليه وسلم -، وهو من جملة شيمه النبيلة وأخلاقه الكريمة التي أدبه بها ربه تبارك وتعالى.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

المراجــع

1- حياة الصحابة: \" الكاندهلوي \".

2- أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -:\" د. أحمد عبد العزيز الحدَّاد \".

3- الرحيق المختوم: \" المباركفوري \".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply