حوادث من السيرة فيها دروس وعبر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

فائدة في الذب عن عرض المسلم من قصة كعب بن مالك وتخلفه في غزوة تبوك:

حصلت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الحوادث فيها عبرة وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان في غزوة تبوك وتخلف كعب بن مالك - رضي الله عنه - سأل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ تبوك فقال رجل: يا رسول الله حبسه براده والنظر في عطفيه أو غير ذلك من الكلمات التي فيها تجريح لهذا الصحابي فقام رجل من المسلمين وقال منكرًا على هذا: بئس ما قلت. والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا (1).

فهذا الرجل دفع عن عرض أخيه وذبّ عنه فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وهكذا ينبغي للمسلم أن يدفع عن عرض أخيه وأن يذب عنه.

وهذا من المواقف المشرفة، ولو أن المسلمين أخذوا بهذا وصاروا يدفعون ويذبون عن أعراض إخوانهم لارتدع النّمامُون وارتدع الذين ينتهزون الفرص لزرع الشر والعداوة بين الناس.

ذب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عرض من قال لا إله إلا الله يبتغي وجه الله:

 

وحادثة أخرى وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج لزيارة بعض أصحابه ومعه جماعة من أكابر الصحابة فلما جلسوا عند المَزُور قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أين فلان؟ فقال بعض الحاضرين: إنه منافق لا يحب الله ورسوله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) [أخرجه البخاري (1/برقم 425، 1186) ومسلم (2/جزء 5/ ص159/ نووي)].

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - دفع عن عرض هذا الصحابي لأنه يشهد أن لا إله إلا الله ويبتغي بذلك وجه الله لم يقلها نفاقًا. وإنما قالها عن صدق وإخلاص فإنّ الله حرّمه على النار ولا يجوز لأحد أن يتكلّم في حق من كان كذلك من المسلمين.

 

وقصة أخرى:

وهي: أنه جيء برجل يشرب الخمر فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجلده وإقامة الحد عليه وتكرر هذا منه حتى قال رجل من الحاضرين: اللهم العَنهُ، ما أكثر ما يُؤتى به. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - منكرًا عليه: (لا تلعنه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) [أخرجه البخاري (4/6780)، والبغوي في شرح السنة (10/2606/ ص336)].

يعني أنه مؤمن، وإن كان ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ولكن فيه الإيمان. فالمؤمن له مكانته وله منزلته فلا يجوز لأحدٍ, أن ينال منه ولو كان عاصيًا.

هذه كلها دروس تعطي المسلم أن يحترم أعراض إخوانه المسلمين.

 آية من كتاب الله تدل على خطر الوقيعة في العلماء

وأنتم تقرؤون هاتين الآيتين وهي قوله - تعالى -: {وَلَئِن سَأَلتَهُم لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِؤُونَ، لاَ تَعتَذِرُوا قَد كَفَرتُم بَعدَ إِيمَانِكُم} [سورة التوبة، الآيتان: 65ـ 66].

أتدرون فيمن نزلتا؟ ، نزلتا في جماعة كانوا يضحكون من رسول الله ومن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسخرون منهم وينتقصونهم ويقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ـ، فأنزل الله هاتين الآيتين وجاءوا يعتذرون للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لم يقصدوا ما قالوا وإنما أرادوا المزاح وتقطيع السفر كما حكى الله عنهم في الآية في قوله: {وَلَئِن سَأَلتَهُم لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلعَبُ}.

 

فالله - جل وعلا - ردّ عليهم بقوله: {قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِؤُونَ} (2)، ويقول ـ - سبحانه وتعالى - ـ : {إِنَّ الَّذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضحَكُونَ، وَإِذَا مَرٌّوا بِهِم يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [سورة المطففين، الآيات: 29ـ 31].

ويقول - سبحانه وتعالى - : {وَيلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ, لٌّمَزَةٍ,} [سورة الهمزة، 1].

فالحاصل أن المسلم له حق على أخيه المسلم وله مكانة عند الله ـ - سبحانه وتعالى - ـ . ولهذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت. . اللهم فاشهد) [أخرجه البخاري (1/ برقم 1739، 1741) ومسلم (4/ جزء 11/ 169، 170)].

 

الحاصل من هذا كله أن المسلمين يجب أن يكونوا جماعة واحدة وأن يكون مصدرهم واحدًا وأن تكون قيادتهم واحدة، كما أنهم يجتمعون على عقيدة واحدة وهي عبادة الله - عز وجل - وحده لا شريك له. هذه هي جماعة المسلمين. وإذا دبّ فيهم خلل أو دب فيهم تباغض وهجر أو وُجِدَ فيهم منافقون فإن الأمر خطير جدًا.

 

 عظمة مكانة العلماء وخطورة الكلام في أعراضهم أو انتقاصهم

 

لا سيما وأننا نسمع في زماننا هذا من يتكلم في أعراض العلماء ويتهمهم بالغباوة والجهل وعدم إدراك الأمور وعدم فقه الواقع كما يقولون وهذا أمر خطير.

 

فإنه إذا فقدت الثقة في علماء المسلمين فمن يقود الأمة الإسلامية؟ ومن يُرجَعُ إليه في الفتاوى والأحكام؟ وأعتقد أن هذا دَسُّ من أعدائنا وأنه انطلى على كثير من الذين لا يدركون الأمور أو الذين فيهم غيرة شديدة وحماس لكنه على جهل فأخذوه مأخذ الغيرة ومأخذ الحرص على المسلمين لكن الأمر لا يكون هكذا. أعزّ شيء في الأمة هم العلماء فلا يجوز أن نتنقصهم أو نتهمهم بالجهل والغباوة وبالمداهنة أو نسميهم علماء السلاطين أو غير ذلكº هذا خطر عظيم يا عباد الله، فلنتقي الله من هذا الأمر ولنحذر من ذلك. فإنه كما يقول الشاعر:

 

علماءَ الدِّين يا مِلح البلد ** ما يَصلُحُ الزّادُ إذا المِلحُ فسد

 

 الطريقة الصحيحة للتعامل مع العلماء عند ظن خطأهم

 

نعم أنا لا أقول إن العلماء معصومون وأنهم لا يخطئون. العصمة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والعلماء يخطئون ولكن ليس العلاج أننا نُشهّر بهم وأننا نتخذهم أغراضًا في المجالس، أو ربما على بعض المنابر أو بعض الدروس لا يجوز هذا أبدًا. حتى لو حصلت من عالم زلة أو خطأ فإن العلاج يكون بغير هذه الطريقة. قال ـ - تعالى -ـ : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبٌّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمُونَ} [سورة النور، 19] نسأل الله العافية والسلامة. فالواجب أن نتنبه لهذا الأمر وأن يحترم بعضنا بعضًا ولا سيما العلماء، فإن العلماء ورثة الأنبياء ولو كان فيهم ما فيهم.

 

 أثر فقد العلماء وما يترتب عليه

 

 أتدرون ما أثر فقد العلماء وما الذي يترتب عليه؟

 

ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فجاء يطلب من يفتيه هل له توبة؟ وجواب هذا السؤال لا يقدر عليه إلا عالم. لكنهم دلّوه على عابد مجتهد في العبادة والورع والزهد لكنه جاهل فتعاظم الأمر وقال: ليس لك توبة، فقتله الرجل فكمّل به المئة. ثم سأل عن عالم فدلوه عليه فسأله، إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ !

 

قال له: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ !

 

ولكن أرضك أرض سوء فاذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك.

 

تاب الرجل وخرج مهاجرًا إلى الأرض الطيبة وحضرته الوفاة وهو في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فأنزل الله إليهم ملكًا في صورة آدمي ليحكم بينهم فقال: قيسوا ما بين البلدتين فوجدوه إلى البلدة الطيبة أقرب بشبر فقبضته ملائكة الرحمة (3).

 

وفي ـ رواية أخرى ـ أنه لما حضرته الوفاة نأى بصدره إلى الأرض الطيبة لما عجز عن المشي برجليه صار ينوء بصدره وذلك بسبب الحرص وصدق التوبة.

 

هذا كان بسبب العالم وبسبب فتواه الصحيحة المبنية على العلم. أرأيتم لو بقي على فتوى ذلك العابد الجاهل لصار يقتل الناس ويستمر في القتل وربّما مات من غير توبة بسبب الفتوى الخاطئة.

 

وكذلك قوم نوح لما صورت الصور ونصبت على المجالس وكان العلماء موجودين لم تعبد هذه الصورº لأن العلماء ينهون عن عبادة غير الله فلما مات العلماء وفُقِدَ العِلمُ جاء الشيطان وتسلّط على الجهّال وقال: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا لِيُسقَوا بها المطر وليعبدوها (4).

 

فعبدوها وحينئذٍ, وقع الشرك في الأرض، وذلك كله بسبب فقد العلم وموت العلماء.

 

 حال الأمة عند فقد علمائها

 

وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئِلُوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا) [أخرجه البخاري (1/100/ ص53)، ومسلم (6/جزء 16/ ص223-225/ نووي)].

 

أرأيتم إن فقدت هذه الأمة علماءها ماذا تكون الحال! ! ؟

 

إن الذين يسخرون من العلماء يريدون أن يُفقِدُوا الأمة علماءها، حتى ولو كانوا موجودين على الأرض مادام أنها قد نزعت الثقة منهم فقد فُقِدُوا. . . ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

 المثقفون والمتحمسون لا يعوضون عن العلماء

 

إن وجود المثقفين والخطباء المتحمسين لا يعوض الأمة عن علمائها وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه في آخر الزمان يكثر القراء ويقل الفقهاء) [رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه 4/8412 ص504 ط دار الكتب العلمية 1411هـ والهيثمي في المجمع (1/187) وابن عبد البر في \"جامع البيان العلم وفضله 1/ص156]. وهؤلاء قُرّاء وليسوا فقهاء. فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاء إطلاق في غير محله والعبرة بالحقائق لا بالألقاب فكثير من يجيد الكلام ويستميل العوام وهو غير فقيه.

 

والذي يكشف هؤلاء أنه عندما تحصل نازلة يحتاج إلى معرفة الحكم الشرعي فيها فإن الخطباء والمتحمسين تتعاصر أفهامهم وعند ذلك يأتي دور العلماء. فلنتنبه لذلك ونعطي علماءنا حقهم ونعرف قدرهم وفضلهم وننزل كلاً منزلته اللائقة به.

 

هذا وأسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله ملتبسًا علينا فنضل والله الموفق إلى الصواب وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply