حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فإن من أعظم الحقوق على المسلمين كافة وأهل العلم خاصة بيان فضل نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وعظيم قدره عند الله- تبارك وتعالى - وعند أصحابه الذين اتبعوه وعاشوا معه ورأوه، وكيف ترجم هذا الجيل هذه المحبة إلى واقع وسلوك!! فما أحوج المسلمون اليوم أن يعرفوا حق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - عليهم حتى يحبوه كما أحبه ذلك الجيل ويتبعوه كما اتبعه ذلك الجيل.

وإن شئت أن ترى بعض المكانة عند الصحابة - رضي الله عنهم - فتأمل هذا الوصف الذي رآه عروة ابن مسعود الثقفي سيد من سادات قريش، وهم من أشد خلق الله عداوة له حينما جاء يفاوض النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية (ثُمَّ إِنَّ عُروَةَ جَعَلَ يَرمُقُ أَصحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَينَيهِ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَت فِي كَفِّ رَجُلٍ, مِنهُم فَدَلَكَ بِهَا وَجهَهُ وَجِلدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُم ابتَدَرُوا أَمرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصوَاتَهُم عِندَهُ وَمَا يُحِدٌّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُروَةُ إِلَى أَصحَابِهِ فَقَالَ أَي قَومِ وَاللَّهِ لَقَد وَفَدتُ عَلَى المُلُوكِ وَوَفَدتُ عَلَى قَيصَرَ وَكِسرَى وَالنَّجَاشِيِّ وَاللَّهِ إِن رَأَيتُ مَلِكًا قَطٌّ يُعَظِّمُهُ أَصحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصحَابُ مُحَمَّدٍ, - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِن تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَت فِي كَفِّ رَجُلٍ, مِنهُم فَدَلَكَ بِهَا وَجهَهُ وَجِلدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُم ابتَدَرُوا أَمرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصوَاتَهُم عِندَهُ وَمَا يُحِدٌّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ) [رواه البخاري].

ولا خفاء على من مارس شيئاً من العلم، أو خص بأدنى لمحة من فهم، بتعظيم الله - تعالى - قدر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، و خصوصه إياه بفضائل و محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام، و تنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة و الأقلام.

فمنها ما صرح به الله - تعالى - في كتابه، و نبه به على جليل نصابه، و أثنى عليه من أخلاقه و آدابه، و حض العباد على التزامه، و تقلد إيجابه، فكان جل جلاله هو الذي تفضل و أولى، ثم طهر و زكى، ثم مدح بذلك و أثنى، ثم أثاب عليه الجزاء الأوفى، فله الفضل بدءاً و عودا ً، و الحمد أولى و أخرى.

ومنها ما أبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال و الجلال، و تخصيصه بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة، و المذاهب الكريمة، و الفضائل العديدة، و تأييده بالمعجزات الباهرة، و البراهين الواضحة، و الكرامات البينة التي شاهدها من عاصره و رآها من أدركه، و علمها علم يقين من جاء بعده، حتى انتهى علم ذلك إلينا، و فاضت أنواره علينا.

فاعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، الباحث عن تفاصيل جمل قدره العظيم أن خصال الجلال و الكمال في البشر نوعان: ضروري دنيوي اقتضته الجبلة و ضرورة الحياة الدنيا، و مكتسب ديني، و هو ما يحمد فاعله، و يقرب إلى الله - تعالى -زلفى.

فأما الضروري المحض فما ليس للمرء فيه اختيار و لا اكتساب، مثل ما كان في جبلته من كمال خلقته، و جمال صورته، و قوة عقله، و صحة فهمه، و فصاحة لسانه، و قوة حواسه و أعضائه، و اعتدال حركاته، و شرف نسبه، و عزة قومه، وكرم أرضه، و يلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه، من غذائه و نومه، و ملبسه و مسكنه، و منكحه، و ما له و جاهه.

و قد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى و معونة البدن على سلوك طريقها، و كانت على حدود الضرورة و قوانين الشريعة.

و أما المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، و الآداب الشرعية: من الدين و العلم، و الحلم، و الصبر، و الشكر، و المروءة، و الزهد، و التواضع، و العفو، والعفة، و الجود، و الشجاعة، و الحياء، والصمت، و التؤدة، و الوقار، و الرحمة، و حسن الأدب و المعاشرة، و أخواتها، و هي التي جمعها حسن الخلق.

و قد يكون من هذه الأخلاق ما هو في الغريزة و أصل الجبلة لبعض الناس وقد يختلف الناس بعضهم عن بعض في هذه ولكن أن تجمع لشخص واحد فهذا من عظيم الفضل لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم -.

لقد أخذ - سبحانه - العهد على جميع الأنبياء أن أدركوه أن يتبعوه ويخبروا بذلك قومهم.

قال - تعالى -: {وَإِذ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيتُكُم مِّن كِتَابٍ, وَحِكمَةٍ, ثُمَّ جَاءكُم رَسُولٌ مٌّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُم لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقرَرتُم وَأَخَذتُم عَلَى ذَلِكُم إِصرِي قَالُوا أَقرَرنَا قَالَ فَاشهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران81]

وبين - سبحانه وتعالى - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أمانا لهم مما حرفه أحبارهم وعلماؤهم فقال - تعالى -: {يَا أَهلَ الكِتَابِ قَد جَاءكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُم كَثِيراً مِّمَّا كُنتُم تُخفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ, قَد جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مٌّبِينٌ} [المائدة15]

وامتن على البشرية كافة أن بعث رسولا منهم وليس ملكا حتى لا تيأس النفس وتعجز عن العبادة إذ لا طاقة لبشر بمتابعة عبادة مما تقوم بها الملائكة قال - تعالى -: {وَقَالُوا لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ مَلَكٌ وَلَو أَنزَلنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ(8) وَلَو جَعَلنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسنَا عَلَيهِم مَّا يَلبِسُونَ(9)}[الأنعام 8 - 9]

وقال - تعالى -: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمشِي فِي الأَسوَاقِ لَولَا أُنزِلَ إِلَيهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان7]

فكان من فضل الله ورحمته لإقامة الحجة كاملة على خلقه وعباده أن بعث فيهم رسولا يأكل كما يأكلون ويشرب كما يشربون وينام كما ينامون.

قال - تعالى -: {لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة128]

{لَقَد مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِّن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ,} [آل عمران164]

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ, مٌّبِينٍ,} [الجمعة2]

{كَمَا أَرسَلنَا فِيكُم رَسُولاً مِّنكُم يَتلُو عَلَيكُم آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُم وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَم تَكُونُوا تَعلَمُونَ} [البقرة151]

قال جعفر ابن محمد: علم الله عجز خلقه عن طاعته، فعرفهم ذلك، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من جنسهم في الصورة، و ألبسه من نعمته الرأفة و الرحمة، و أخرجه إلى الخلق سفيراً صادقاً، و جعل طاعته من طاعته، فقال - تعالى -: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء80]

{فَبِمَا رَحمَةٍ, مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضٌّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبٌّ المُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران159]

{وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلَّا رَحمَةً لِّلعَالَمِينَ} [الأنبياء107]

قال أبو بكر بن طاهر: زين الله - تعالى - محمداً - صلى الله عليه وسلم - بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، و الواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى أن الله يقول: {وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلَّا رَحمَةً لِّلعَالَمِينَ}، فكانت حياته رحمة، و مماته رحمة.

{يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً(45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجاً مٌّنِيراً(46)} [الأحزاب 45 - 46]

جمع الله - تعالى - في هذه الآية لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما آثره به على باقي الخلق، و جملة من أوصاف المدح، فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة، و هي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، و مبشراً لأهل طاعته، و نذيراً لأهل معصيته، و داعياً إلى توحيده و عبادته، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق.

{أَلَم نَشرَح لَكَ صَدرَكَ(1) وَوَضَعنَا عَنكَ وِزرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهرَكَ(3) وَرَفَعنَا لَكَ ذِكرَكَ(4) فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً(5) إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً(6) فَإِذَا فَرَغتَ فَانصَب(7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارغَب(8)} [الشرح]

قال القاضي عياض: هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على عظيم نعمه لديه، و شريف منزلته عنده، و كرامته عليه، بأن شرح قلبه للإيمان و الهداية، و وسعه لوعى العلم، و حمل الحكمة، و رفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه، و بغضه لسيرها، و ما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم، و تنويهه بعظيم مكانه، و جليل رتبته، و رفعه و ذكره، و قرانه مع اسمه اسمه.

ولقد كان أهل الكتاب يتناقلون صفته تابع عن تابع ورغم إخفائهم الكثير إلا أن الله - سبحانه وتعالى - أظهر ما أخفوه.

عن عطاء ابن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أجل، و الله! إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، و حرزاً للأميين، أنت عبدي و رسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق، و لا يدفع بالسيئة السيئة، و لكن يعفو و يغفر، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً، و قلوباً غلفاً.

ولقد كان من عظيم محبة الله - تعالى -لنبيه بعد رفعه وعلو شأنه الملاطفة في العتاب رحمة به وفضلا وكرما قال- تعالى -: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعلَمَ الكَاذِبِينَ} [التوبة43]

قال عون بن عبد الله: أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب.

و لو بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام، لكن الله - تعالى - برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب.

و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب.

وكانت معية الله مع نبيه بالحفظ لا تفارقه.

قال - تعالى -: {وَلَولاَ أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَّ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئاً قَلِيلاً} [الإسراء74]

عاتب الله - تعالى - الأنبياء - عليهم السلام - بعد الزلات، و عاتب نبيّنا - عليه السلام - قبل وقوعه، ليكون بذلك أشد انتهاءً و محافظة لشرائط المحبة، و هذه غاية العناية.

ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه، ففي أثناء عتبه براءته، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته.

قال - تعالى -: {قَد نَعلَمُ إِنَّهُ لَيَحزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجحَدُونَ} [الأنعام33]

قال علي - رضي الله عنه -: قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك و لكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله - تعالى -: {فَإِنَّهُم لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الآية]

ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ، من تسليته - تعالى - له - عليه السلام -، و إلطافه به في القول، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم، و أنهم غير مكذبين له، معترفون بصدقه قولاً و اعتقادًا، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين، فدفع بهذا التقرير ما قد يتألم به من وصفهم له بسمة الكذب، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين.

ثم عزّاه و آنسه بما ذكره عمن قبله، و وعده النصر بقوله - تعالى -: {وَلَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُم نَصرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَد جَاءَكَ مِن نَبَأِ المُرسَلِينَ} [الأنعام34]

وقد أقسم - تعالى - بتحقيق قدره فقال - تعالى -: {وَالضٌّحَى(1) وَاللَّيلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبٌّكَ وَمَا قَلَى(3) وَلَلآخِرَةُ خَيرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى(4) وَلَسَوفَ يُعطِيكَ رَبٌّكَ فَتَرضَى(5) أَلَم يَجِدكَ يَتِيماً فَآوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغنَى(8) فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقهَر(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنهَر(10) وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث(11)} [الضحى]

قال القاضي عياض : تضمنت هذه السورة من كرامة الله - تعالى - له، و تنويهه به و تعظيمه إياه ستة و جوه:

الأول: القسم له عما أخبره به من حاله بقوله - تعالى -: {وَالضٌّحَى(1) وَاللَّيلِ إِذَا سَجَى(2)}. أي و رب الضحى، و هذا من أعظم درجات المبرة.

الثاني: بيان مكانته عنده و حظوته لديه بقوله - تعالى -: {مَا وَدَّعَكَ رَبٌّكَ وَمَا قَلَى}، أي ما تركك و ما أبغضك. و قيل: ما أهملك بعد أن اصطفاك.

الثالث: قوله - تعالى -: {وَلَلآخِرَةُ خَيرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى(4)}، قال ابن إسحاق: أي مالك في مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.

و قال سهل: أي ما ذخرت لك من الشفاعة و المقام المحمود خير لك مما أعطيتك في الدنيا.

الرابع: قوله - تعالى -: {وَلَسَوفَ يُعطِيكَ رَبٌّكَ فَتَرضَى(5)}

و هذه آية جامعة لوجوه الكرامة، و أنواع السعادة، و شتات الإنعام في الدارين. و الزيادة.

قال ابن إسحاق: يرضيه بالنصر والتمكين في الدنيا، و الثواب في الآخرة.

و قيل: يعطيه الحوض و الشفاعة.

الخامس: ما عدده - تعالى - عليه من نعمه، و قرره من آلائه قبله في بقية السورة، من هدايته إلى ما هداه له، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير، ولا مال له، فأغناه بما آتاه، وهدى بك ضالاً، و أغنى بك عائلاً، و آوى بك يتيماً ـ ذكره بهذه المنن، و أنه لم يهمله في حال صغره و عيلته و يتمه و قبل معرفته به، و لا ودعه ولا قلاه، فكيف بعد اختصاصه و اصطفائه!

السادس: أمره بإظهار نعمته عليه و شكر ما شرفه بنشره و إشادة ذكره بقوله - تعالى -: {وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث(11)}، فإن من شكر النعمة الحديث بها، و هذا خاص له، عام لأمته.

 

وهذه بعض شمائله - صلى الله عليه وسلم -

(عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ, قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحسَنَ النَّاسِ وَكَانَ أَجوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَشجَعَ النَّاسِ وَلَقَد فَزِعَ أَهلُ المَدِينَةِ ذَاتَ لَيلَةٍ, فَانطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوتِ فَتَلَقَّاهُم رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاجِعًا وَقَد سَبَقَهُم إِلَى الصَّوتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ, لِأَبِي طَلحَةَ عُريٍ, فِي عُنُقِهِ السَّيفُ وَهُوَ يَقُولُ لَم تُرَاعُوا لَم تُرَاعُوا قَالَ وَجَدنَاهُ بَحرًا) [رواه مسلم].

(عَن أَبِي سَعِيدٍ, الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ كَانَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِن العَذرَاءِ فِي خِدرِهَا) [رواه البخاري ومسلم].

(عَن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - زَوجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَت دَخَلَ رَهطٌ مِن اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيكُم قَالَت عَائِشَةُ فَفَهِمتُهَا فَقُلتُ وَعَلَيكُم السَّامُ وَاللَّعنَةُ قَالَت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَهلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ الرِّفقَ فِي الأَمرِ كُلِّهِ فَقُلتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَم تَسمَع مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَد قُلتُ وَعَلَيكُم) [رواه البخاري ومسلم].

(عَن عَائِشَةَ قَالَت قُلتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَسبُكَ مِن صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ لَقَد قُلتِ كَلِمَةً لَو مُزِجَت بِمَاءِ البَحرِ لَمَزَجَتهُ قَالَت وَحَكَيتُ لَهُ إِنسَانًا فَقَالَ مَا أُحِبٌّ أَنِّي حَكَيتُ إِنسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) [رواه أبو داود].

ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - لا يواجه أحدا بما يكره بل كان يعرض به - صلى الله عليه وسلم -.

(عَن عَائِشَةَ قَالَت قَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - مَا بَالُ أَقوَامٍ, يَشتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [رواه البخاري].

(عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ, حَدَّثَهُم قَالَ قَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - مَا بَالُ أَقوَامٍ, يَرفَعُونَ أَبصَارَهُم إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِم) [رواه البخاري].

(عَن عَائِشَةَ قَالَت: صَنَعَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - شَيئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنهُ قَومٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقوَامٍ, يَتَنَزَّهُونَ عَن الشَّيءِ أَصنَعُهُ) [رواه البخاري].

(عَن أَنَسٍ, أَنَّ نَفَرًا مِن أَصحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَن عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعضُهُم لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعضُهُم لَا آكُلُ اللَّحمَ وَقَالَ بَعضُهُم لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ, فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثنَى عَلَيهِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقوَامٍ, قَالُوا كَذَا وَكَذَا) [رواه مسلم].

والذي ينظر إلى حياته الخاصة يرى التواضع التام وعدم الانشغال الزائد بالدنيا.

(عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ مَا عَابَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطٌّ إِن اشتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ) [رواه البخاري ومسلم].

وكذلك رحمته بنسائه ومعونته إياهم.

(سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ هَل كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعمَلُ فِي بَيتِهِ شَيئًا قَالَت نَعَم كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخصِفُ نَعلَهُ وَيَخِيطُ ثَوبَهُ وَيَعمَلُ فِي بَيتِهِ كَمَا يَعمَلُ أَحَدُكُم فِي بَيتِهِ) [رواه أحمد].

وكذلك شدة محبته لأصحابه - رضي الله عنهم - والشهود بالفضل لهم.

(عَن أَبِي الدَّردَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ كُنتُ جَالِسًا عِندَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذ أَقبَلَ أَبُو بَكرٍ, آخِذًا بِطَرَفِ ثَوبِهِ حَتَّى أَبدَى عَن رُكبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَّا صَاحِبُكُم فَقَد غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَينِي وَبَينَ ابنِ الخَطَّابِ شَيءٌ فَأَسرَعتُ إِلَيهِ ثُمَّ نَدِمتُ فَسَأَلتُهُ أَن يَغفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقبَلتُ إِلَيكَ فَقَالَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكرٍ, ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنزِلَ أَبِي بَكرٍ, فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكرٍ, فَقَالُوا لَا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجهُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشفَقَ أَبُو بَكرٍ, فَجَثَا عَلَى رُكبَتَيهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنتُ أَظلَمَ مَرَّتَينِ فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيكُم فَقُلتُم كَذَبتَ وَقَالَ أَبُو بَكرٍ, صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَهَل أَنتُم تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَينِ فَمَا أُوذِيَ بَعدَهَا) [رواه البخاري].

(وَعَن جَرِيرٍ, قَالَ مَا حَجَبَنِي النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - مُنذُ أَسلَمتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجهِي وَلَقَد شَكَوتُ إِلَيهِ أَنِّي لَا أَثبُتُ عَلَى الخَيلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتهُ وَاجعَلهُ هَادِيًا مَهدِيًّا) [رواه البخاري ومسلم].

وحتى مع خادمه كان رمزا للأسوة والقدوة.

(عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ, قَالَ خَدَمتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطٌّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيءٍ, لِمَ فَعَلتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلتَ كَذَا) [رواه البخاري ومسلم].

فمهما كتب الكاتب وأفهم الخطيب فلن يف أحد بحق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -!!

ولكن هل من بداية؟!! والبداية لا تكون إلا بعلم وعمل....وقد أطلق المولى - سبحانه وتعالى - المتابعة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى -:{لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب21]

فنسأل الله أن يجعلنا منهم- اللهم آمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply