سيد المؤثرين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد كان ولا يزال للعلماء تأثير فذ، ولو تأملنا في قصة الإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن الكريم لوجدنا أن الأمة كانت تنتظر ما يقوله هذا العالم الجليل وما يتخذه من مواقف.

ولذا عندما جاء أحد الناس إلى الإمام أحمد في سجنه فقال له: قل كلاماً، إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، قال الإمام أحمد: انظر ماذا ترى؟ فرأى الناس على امتداد البصر ينتظرون ماذا يقول الإمام ليقتدوا به، فقال الإمام أحمد: أنجو بنفسي وأضل هؤلاء؟! والله لا يكون هذا أبداً.

ولما قدم الخليفة هارون الرشيد المدينة استقبله كل الناس إلا العالم الجليل الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - كتب إليه فقال: إن العلم يؤتى له، فجاءه هارون فاحتبسه عند بابه، ثم خرج إليه الإمام مالك فقال له: قد علمت أنك تطلب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأردت أن أتهيأ لذلك، قال هارون: اجعل لي مجلساً خاصاً، فقال مالك: يا هارون، إن الخاص لا يُنتفع به، فجلس هارون مع الناس لكنه في موضع متميز، فقال مالك: حدثنا فلان عن فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"من تواضع لله رفعه\" فجلس هارون حيث يجلس الناس، وصدق من قال:

العلم زين وتشريف لصاحبه * * * فاطلب هديت فنون العلم والأدبا

لا خير فيمن له أصل بلا أدب * * * حتى يكون على ما زانه حدبا

العلم كنز وذخر لا نفاد له * * * نعم القرين إذا ما صاحب صحبا

قد يجمع المرء مالاً ثم يُسلبه * * * عما قليل فيلقى الذل والحربا

وجامع العلم مغبوط به أبداً  * * * فلا يحاذر فوتاً لا ولا هربا

يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه * * * لا تعدلن به دراً ولا ذهبا

وجلس التابعي الجليل مكحول عالم أهل الشام في مجلسه يلقي درسه كعادته وحوله طلاب العلم يأخذون عنه، إذ أقبل الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك في زينته وتبختره، وجاء إلى حلقة مكحول، فأراد الطلاب أن يوسعوا له، فقال مكحول: دعوه يتعلم التواضع.

ويقول \"كونفوشيوس\": العلم بغير إيمان ضرب من النقص المعيب، أما الإيمان بغير علم فمهزلة لا تطاق.

إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوة وهم ثلاثة من العلماء الصالحين فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء.

فقال سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ابناً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.

وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت.

لقد اعتنى صناع التأثير بالعلم أيما اعتناء، وجاهدوا في سبيله أيما جهاد، وأخلصوا لله - تعالى - في طلبه، فبلغوا به المنزلة الرفيعة والدرجة السامية، فرحمة ربي عليهم ما طلع الليل والنهار.

يقول القاسم: أفضى بمالك \"بن أنس\" طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه.

وحكى الحافظ بن عبد البر: أن مسروقاً رحل في حرف، وأن أبا سعيد \"الحسن البصري\" رحل في حرف أيضاً.

ولقد تأملت كثيراً من واقع كثير ممن يعدون أنفسهم من صناع التأثير: تجد أحدهم قد أنهى دراسته الجامعية وربما الماجستير وأحياناً الدكتوراه ولا يفهم في تخصصه إلا الشيء اليسير، ولا تلمس له تمكناً أو عمقاً في المجال الذي درسه طوال سنوات عديدة من حياته، وإذا تكلم في تخصصه تعثر وتلعثم، وكأنه ما درس شيئاً، وإذا أراد أن يأتي بفكرة في مجاله الذي يفترض أن يبدع فيه إذا بفكرته هذه كأنها فكرة طفل صغير لم يفقه من الحياة شيئاً، ترى كيف يكون أمثال هؤلاء من صناع التأثير ومهندسي الحياة؟!

إنني هنا أهتف في آذان صناع التأثير النافع وفي عقولهم وقلوبهم أن يعيدوا النظر في مدى اعتنائهم بالعلم والعلماء، ومدى اقترابهم من هذا المؤثر الفذ، بل والذي نفسي بيده، إنه سيد المؤثرين وأستاذهم وتاجهم، إنه العلم الذي طالما قدم المتأخرين، وأعز الأذلة والصاغرين، وسوَّد العبيد والموالي، ورفع أتباعه إلى قمم شاهقة وآفاق بعيدة.

يقول الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لكميل بن زياد: \"العلم خير لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply