أبوة الرسول صلى الله عليه وسلم


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

 لا تخطئ النظرة الأولى لسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كمـال صفة الأبوة في رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - ككل صفاته. وإن كان من أبرز مظاهـر الأبوة وأهمها الشفقة بالأطفال والرقـة لهم... فقد كان ذلك واضحاً جلياً في حياته - عليه الصلاة والسلام - ليس مع أبنائه وبناته الذين من صلبه، أو أبنائهم وبناتهم فقط- بل كان ذلك مع أبناء المسلمين عامة. وذلك يشهد بقوة الأبوة وأصالتها لديه - صلى الله عليه وسلم -، فقد يكون الإنسان أباً عطوفاً شفوقاً مع أبنائه خاصة، يستنفذون طاقة حنانه، وجهد شفقته، وآخر بره، فلا يبقى لغيرهم شيء، أما نبي الرحمـة - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت الأبوة فيه كاملةً شاملة فاض برها وحنانها وشفقتها على أبنـاء المسلمين جميعـاً، وسعدوا بها، وتَفيّـؤوا ظلالها، كانت أبوة سخية معطاءة، بارة حانية، تُعلم الآباء كيف يكون البر؟ وكيف تكون الرحمة؟ وكيف يكون الحنان؟ بل كيف تكون الأبوة، وما زال وسيظل يرنّ في آذان البشرية أخبار تلك الأبوة الكاملة الشاملة، حيث سجلتـها الأحاديث الصحيحة سطوراً من نور يهدي الإنسانية إلى سنة خير البرية. عليه الصلاة وأزكى السلام.

 

من مظاهر الأبوة العامة:

كان - صلى الله عليه وسلم - يفرح بأطفـال المسلمين، ويهنئ بميلادهم، ويباركهم، ويسعد إذ يأتونه بهم يُحنـكهم، ويسميهم، ويبين للمسلمين كيف يستقبـلون أبناءهم، ويحثهم على الفرحة بهم، والاحتفال بمقدمهم، ويدعوهم للعقيقة عنهم يوم سابعهم، ويشهد هذه الولائم تنويهاً بها، وإعلاءً لشأنها وللمناسبة التي أقيمت من أجلها.

 

عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - أنها حملت عبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متـم - أي في آخر أيام الحمل - فقدمت المدينة، فنزلت بقبـاء، فولدت بقُباء، ثم أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعه في حجـره، ثم دعا بتمرة، فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حنّكه بالتمرة (التحنيك: هو أن يمضغ التمرة حتى تلين، ثم يدلك بها حنك الصبي، داخل فمه، حتى ينزل إلى جوفه شيء منه) ثم دعا له، فبرّك عليه، وكان أولَ مولود في الإسلام.

وفي رواية أخرى زيادة: ففرحوا به فرحاً شديداً، لأنهم قيل لهم: إن اليهـود قد سحرتكم فلا يولد لكم. رواه الشيخان.

وفي الصحيحين أيضاً عن عائشة - رضي الله عنها -، نحو هذا الحديث، وفيه وسمـاه عبد الله.

 

ولا يقولن قائل: إن هذا يدخل في باب ملاطفة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبنائه، وآل بيتـه، فإن أسماء أخت عائشة زوجه، والزبـير زوج أسماء ابن صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يقولن قائل ذلك، فإن هذا لم يكن لابن أسمـاء وحدها، والأخبار عن فعله - عليه الصلاة والسلام - ذلك بغير عبد الله بن الزبير لا تقف عند حصر.

 

وكأني بأصحابه رضوان الله عليهم قـد عرفوا حبّه - عليه الصلاة والسلام - لذلك وسعادته به، فكانوا يحرصون عليه، ويهتمون به، بل وجدوا هم أيضاً خيراً في ذلك لأبنائهم، وبركة عليهم، يشهد لذلك مارواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: ولدت أم سُليم - زوج أبي طلحة، وأم أنس- غلاماً، فقال أبو طلحة: (احفظيه أي لا يتناول شيئاً، كما صرح بذلك في رواية أخرى عند البخاري أيضاً حتى تأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وفي الـرواية الأخـرى أن الذي طلب حفظه من أن يتناول شيئاً هي أم سليم، ولا مانع أن يكون الطلب بالمحافـظة على الغلام من أن يتناول شيئاً قد كان كل منهما جميعاً - من أبي طلحة وأم سليم -، وتكررت الرواية من أنس - رضي الله عنه -. قال أنس: وأرسلت أم سليم - معه أي الصبي - بتمرات، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أمعه شيء؟ قالوا: نعم. تمرات، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضغها ثم أخذ من فيه فجعلها في فم، الصبي وحنّكه به، وسماه عبد الله.

 

وهذا الحديث أخرجه \"مسلم \" بزيادة فجعل الصبي يتلمظه فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: حُب الأنصار التمر.

فهنا نجد حرص كل من أبي طلحة، وزوجته أم سليم على أن يكون أول ما يدخل جوفَ الصبي من ريقُ النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ولا يفوتنا أن نسجل ما ظهر من تلطف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومداعبته، حين علق على تلمظ الطفل يتلمظ، أي يحرك لسانه في فمه، ليتتبع ما فيه من تمر قائلاً: حُب الأنصار التمر.

 

فكأنه - عليه الصلاة والسلام - يفسر تلمظ الغلام بعراقته في حب التمر، وإرثه ذلك عن آله الأنصار، فقد كان أهل المدينة الأنصـار أهل نخيل، فالتمر شائع فيهم، وعامة طعامهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر ذلك في معرض المجاملة والثناء، والرضى عن الأنصار وأبناء الأنصار.

 

وربما قيل: إنّ أم سليم وأبا طلحة ليسا بعيدين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنس خـادم الرسول ابن أُم سليم، والمولود أخوه لأمه، فهو يرتبط بنوع صـلة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقطع هذا القول، ويؤكد أن ذلك البر بالأبناء كان لكل أبناء المسلمين، قال أبو موسى: ولد لي غلام فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به فسماه إبراهيم، وحنـكه بتمرة، ودعـا له بالبركة، ودفعه إليّ، وكان إبراهيـم هذا أكبر ولد أبي موسى الأشعري. (رواه البخاري).

 

وربما كان أوضح في الدلالة على أن ذلك كان شـأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان مألوفاً معروفاً عند المسلمين ما رواه هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنهم -: \"أن رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالصبيان فيبرّك عليهم، ويحنّكهم \". (أخرجه مسلم).

فهذا الحديث بهذه الصيغة ناطق وشاهـد بأن ذلك كان شـأناً منه، ومعروفاً عنه - صلى الله عليه وسلم -، ومعهوداً من صحابته معه، بصفة عامة، وأن الأحاديث التي رويت وحددت أسماء ووقائع معينة مجرد أمثلة، وليست حاصرةً جامعة مانعة.

 

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، في تسميته لأبنـاء الصحابة - رضوان الله عليهم- يتوخى فيها المناسبة لحال كل طفل، وما يدخل السرور على أسرته، ويسعدهم، ينطق بذلك الحديث التالي:

 

عن سهل بن سعد قال: أُتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد، فوضعـه النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذه، وأسيد جالس، فلهى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء - أي شغل به - بين يديه، فأمر أبو أسيد بابنـه فاحتمل من على فخذ رسول الله فأقلبوه، فاستفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أي مما شغله) فقال: أين الصبي؟ فقال أبو أسيد: أقلبناه يا رسول الله، قال:

 

ما اسمه؟ قال: فلان يا رسول الله. قال: لا ولكن اسمـه المنـذر، فسماه يومئذٍ, المنذر. (رواه الشيخان).

 

فمع ما كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من شغل، استغرقه حتى احتُمل الصبي من على فخذه من غير أن يشعر، مع ذلك لم ينس أن يسأل عن اسمه، ولما عرفه، غيّره، لا لكراهية الاسم الذي سموه به، ولكن (المنذر كان ابن عم أبيه، وكان قد استشهد ببئر معونة، وكان أميرهم، فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - له اسم المنذر تفاؤلاً أن يكون خلفاً من ابن عم أبيه الشهيد، الذي استشهد ببئر معونة.

 

ومن هذا أيضـاً ما رواه أحمد والبزار عن عليّ - رضي الله عنه - قال: لما ولد الحسن سميته حرباً، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: [أروني ابني، ما سميتموه؟ ] قلت: حرباً، قال: [حسن]. فلما ولد الحسين سميته حرباً فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: [أروني ابني، ما سميتموه؟ ] قلت حرباً قال: [هو حسين]، فلما ولد الثالث سميته حرباً، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: [أروني ابني ما سميتموه؟ ] قلت حرباً، قال: [بل هو محّسن] فنحن هنا أمام إصرار من علي - رضي الله عنه - على حرب، وكرره في كل مرة ولد له فيها ولد من فاطمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل مرة يتجاوز عن اختيار على وإصراره، ويغير الاسم، فلماذا أصر علىّ - رضي الله عنه -، ولماذا غير - صلى الله عليه وسلم - ما أصر عليه؟ إخال علياً - رضي الله عنه - - وهو رجل الحرب المعروف بالبطولة والإقدام، صاحب المبارزة يوم بدر، وصاحب الصولة والجولة يوم خيبر- كان يختار اسم حرب ليكنى بأبي حرب، فتوافق كنيتُه صفته وحالته، فهو البطل أبو حرب، كذا كان يُقدر على - رضي الله عنه -، فلم يرض الرسـول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتهـاون في تغييره والذي يلوح لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى البطولة والشجاعة والثبات في الحرب صفات كاملة متحققة في علي - رضي الله عنه - ، فلم يرض أن يحصر نفسه في هذا الجانب، وأن يجعل كل همّه الحرص على هذه الصفة، وأن ينادى بها، بل أراد أن يلفته إلى غيرها، ولعله - صلى الله عليه وسلم - أراد أبعد من هذا، أراد أن يخفف من اهتمام علي بالحرب وانشغاله لها.

 

تلطفه - صلى الله عليه وسلم - بالصغار ومداعبته لهم:

لم يقف برٌّه صلى الله عليه وسلم عند حد تحنيـكه أطفال المسلمين، وتبريكهم، وتسميتهم، بل كان يداعبهم، ويلاطفهم، ويدخل السرور عليهم.

روى البخاري بسنده عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي، وعليّ قميص أصفر، فقال رسول الله: [سنه سنه] - هو بالحبشية حسنة -، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي من ذلك (أي نهرني وزجرني، ومنعني)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [دعها]، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي]، قال عبد الله بن المبارك راوي الحديث: فبقيت حتى ذكر من بقائها. والمعنى: أبلي وأخلقي كثيراً، أي تعيشين حتى تستهلكي الكثير الكثير من الثياب، فهو دعاء لها بطول العمر، وفي رواية أبلي وأخلفي - بالفاء - والمعنى: أبلي هذا وأخلفي غيره، وهو أيضاً دعاء بطول العمر، وقد استجاب الله - سبحانه وتعالى - دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فبقيت حتى ذُكر من بقـائها أي طال عمرها حتى ذكرها الناس بذلك، وعرفوها به.

 

وهنا نجـد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في التلطف والود والبر، فيقول للصبـية \"سنه سنه \" - أي جميلة - بلغة الحبشة - فلِمَ خاطبها بلغة الحبشة؟ لقد كانت الصبية حديثة عهد بالحبشة، حيث كانت عائـدة مع المهاجرين من هناك، وأكاد أجـزم أن الصبية علقت بعض كلمات من لغـة الحبشة كانت تلهج بها، وتتظرف بها لما تراه من حب من حولها لتردادها ذلك، كما نرى آل الطفل يرددون لثغته ويحاكون لغته وهم في سعادة وسرور، فكأن صبيـتنا كانت تردد كلمة سنه سنه، فيما تردد من كلمات تعلقتها من لغة الحبشة، فخاطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغة الحبشة ترديداً لقولها، واستحساناً لكلامها.

 

ثم لا بد أن نقف هنا أمام أروع صور البر الأبوي، فمحمد - عليه الصلاة والسلام - الذي ترققه الأبوة، ويلينه الرفق والبر، حتى تُقبل الصبية عليه تتواثب على حِجره وكتفيه - صلى الله عليه وسلم -، وتلعب بخاتم النبوة بين كتفيه، وتجيل أناملها تتحسس وتداعب وجهه الكريم، وجسده الشريف، محمد الذي تبلغ به الرقة هذا المبلغ هو محمد الذي كان يقف أمامه الأعرابي الفظ الجافي فتأخذه الروعة والهيبة فيرتجف، ويضطر - صلى الله عليه وسلم - أن يطمئن الرجل ويذهب روعه، فيقول له: [هون عليك إنما أنا لست بمَلِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد].

 

بل كانت هيبـته - صلى الله عليه وسلم - أبعـد من هذا وأكبر، فليست هيبة تروّع وفداً لم يلقـه قبل فقط، بل كانت هيبـتة أكبر من أن تزول بالإلف والمعاشـرة والمعايشة، فقد كان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - الذين معه، يلازمونه ليله ونهاره، وحلّه وترحاله أكثر هيـبة له من الذين لا يعرفونه. ويكفينا في هذا المجال حديث واحد. رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما ملأت عيني منه قط، حيـاء منه، وهيبة، وتعظيماً له، ولو قيل لي: صِفه، لما قدرت.

 

فهذا عمرو بن العاص داهية العرب، قائد الجيوش، وقاهر الأبطال، ووزير معاوية ومستشاره، وصنديد قريش، وابن سيد من ساداتها، ابنُ العاص الذي كان يلبس الديباج مزرراً بأزرار الذهب، عمرو ابن العـاصي هذا لا يقدر أن يملأ عينيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأم خالد، هذه الصبية تلعب بخاتم النبوةžžžžžž؟ هذه الهيبة وهذه العظمة كلها تلين وترق وتبر وترحم حتى هذا الحد، فأي عاطفة هذه، وأي أبوة هذه؟ إنها الأبوة الكاملة الشاملة. !

 

من مظاهر الأبوة الخاصة:

هذا عن أبـوته - صلى الله عليه وسلم - لأولاد المسلمين وعامتهم، أما أبوته لأولاده وأحفاده، فلا شك أنها كانت أبلغ وأكمل - فسنة الخلقة وطبيعة الفطرة أن يكون حب الإنسان لمن هم من صلبه وذويه أقوى من حبه لمن سواهم، مهما بلغ في حبه ورقته - فحبه لبنيه وذويه لا شك أبلغ وأكبر طبيعةً مطبوعة، وفطـرةً مفطورة، وجِبلّة مجبولة.

 

وإذا نحن أخذنا في بيان سمات أبوته - صلى الله عليه وسلم -، وملامحها، لوجـدنا من ذلك ما يقضي الفطنُ العجبَ منه، ولكنا نوجز قولنا، ونعرض بعض ملامح الأبوة النبوية وخصائصها على النحو التالي:

 

1. عدم التفرقة بين البنين والبنات، أو قل: إعطاء البنات من المحبة والتقدير حقهن كاملاً، لا تنقصهن أنوثتهن من ذلك شيئاً.

 

ولقد كانت البيـئة الجاهلية الجافية، في حاجة إلى من يلقنـها هذا الدرس عمليّاً وسلوكياً، قبل أن يلقنه لها نظريّاً. وتعاليم تلك البيـئة التي كان فيها من تتحجر عاطفته، ويجف نبع الحنان في قلبه، وتنتكس فطرته، وترتكس طبيعته، حتى يدفن ابنته حية في التراب. (وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهة مسودَّاً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيُمسكه على هُونٍ, أم يَدُسٌّه في التراب ألا ساء ما يحكمون) سورة النحل: 58-59.

 

في هذه البيئة وجدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - يخرج للصلاة حاملاً أُمامة بنت أبي العاص، ويتقدم إلى الصلاة وهي على كتفه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها. ما أرحمه، وما أحلمه وما أعظمه، أمامة بنت زينب ابنته على كتفه وهو يؤم المسلمين في الصلاة؟ ماذا عليه لو تركها بحجرته؟ ماذا لو تركهـا مع من يرعاها ويهدهدها حتى ينتهي من صلاته؟!

 

أترى رسول الله تدفقت في قلبه ينابيع الحب والشفقة، فلم يقدر على أن يحرم نفسه من ريح أمامة؟! أم تراه خاف عليها أن تتألم أو تبكي لفراق جدها؟! أم الأمر غير هذا وذاك؟ نعم. أراه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعلم المسلمين درساً في الأبوة، أو درساً في الصلاة أو هما معاً.

 

فكأني به - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يقول لأمته إن الصلاة التي هي مناجـاة من العبد لربه، الصلاة التي جعلت فيها قرة عينه - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلاة لا يبطلها، ولا يمنع منها أن تكون ابنتك على كتفك، بل لعله أراد أن يقول لأمته إن هذه الطفلة والرقة لها، والشفقة عليها، من مطهرات القلوب ومن أسباب تخليصها لله، فهي من المعينات على إحسان الصلاة.

 

أم الأمر أكبر من كل ذلك، وأنه أراد أن يقول إن هؤلاء البنات اللاتي كُنّ تسودّ منهّن الوجوه، أولى بالرعاية والإكرام والشفقة والرحمة؟

 

نعم هذا ما أردت أن تقوله يا رسول الله فها أنت قد قلته عملياً، ثم أكدته قولاً: [من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن، كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة] (ابن ماجه واحمد).

 

وقال - صلى الله عليه وسلم -: [من بُلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن، كُنّ له ستراً من النار يوم القيامة] أخرجه البخاري.

 

نعم إنها الأبوة الحقة الكاملة التي تسع الذكـور والإناث، ولا تفرق بينهما، ولا تقدر أن تفرق لو أرادت، فسخاء العطاء، وتدفق البر لا يمكن أن يعرف حـدّاً يفرق بين الذكر والأنثى، ويزداد يقيننا بهذا الذي قلناه، حين نسمع عائشة - رضي الله عنها - تقول: أُهـدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قـلادة من جذع معلمة بالذهب، فقال: [والله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إليَّ] فاستشرف لها كل نسائه، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص. أحمد وأبو يعلى.

 

نعم.. أمامة (الأنثى) أحب أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه؟!

 

أيقدر أحد بعد ذلك أن يثير فرقاً بين البنين والبنات؟ بعد أن حمل رسول الله أُمامة في الصلاة، وبعد أن أعلن أنها أحب أهل البيت إليه.

 

وفي هذا أيضاً أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يدلل زينـب بنت أم سلمة، وكانت طفلة في حِجر أمها، ويقول لها: (يا زناب).

 

كذلك نجده - صلى الله عليه وسلم - يأسى لموت ابنته زينب، وتظل اللوعة لا تفارقه، حتى إذا ولدت الزهراء فاطمة أنثى سماها زينب إحياء لذكرى ابنته الغائبة.

 

وأجار أبا العاص حين أجارته ابنته زينب، ومن قبل ردّ لها قلادتها، وفك لها أسيرها حين أُسر أبو العاص في بدر، وأرسلت زينب تفتديه بقلادتها.

 

وحبه - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة، ومن فاطمة؟ إنها رابعـة بناته - صلى الله عليه وسلم - فلو قلنا: أحب زينب لقيل كبرى بناته، وأول من أذاقته طعم الأبوة، أما رابعة البنات بعد زينب وأم كلثوم ورقيـة، ويضفيهـا كل هذا الحب؟ فهذا هو الحب الذي يتدفق من الأبوة الطاهـرة المستقيمة السخية، التي لا تعرف فرقاً بين الإناث والذكور.

 

جاءت فاطمة - رضي الله عنها - وقد مات ولداه القاسـم وعبد الله، فلو كان هناك مجال للتفرقة بين الإناث والذكـور، لكان لفاطمة مكان غير هذا المكان، ومنزلة أخرى غير هذه المنزلة، بل لكانت عبئاً يضاف إلى شقيقاتها الثلاث، ولكنها الأبوة الأصيلة النقية، التي لا تفرق في عطائها وسخائها بين ذكر وأنثى.

 

وأخبار حُبِّه لفاطمة - رضي الله عنها - لا تحتاج إلى بيان أو تأكيد، ومن أراد أن يرجع إليها، ففي الصحيحين في - مناقب فاطمة - ما يكفي ويشفي.

 

2. عدم التفرقة بين الأبناء بعضهم وبعض:

 

اجتمع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذريته الأخوات الأربع: زينب، ورقية وأم كلثوم، وفاطمة، وأما القاسم وعبد الله فقد ماتا صغيرين قبل البعثة أو بعدها بقليل. يشهد لذلك سورة الكوثر: (إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر). فقد كانوا يعيرونه - صلى الله عليه وسلم - بأنه أبتر، لا ولد له، وسورة الكوثر من أوائل ما نزل من القرآن في أول البعثة.

 

والأخبار التي حفظت لنـا معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبناته، لم تفصل كثيراً شأن هذه المعاملة وكيف كانت، وكن متزوجات، فلم يرد لنا من مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينـهن شيء نرجع إليه في ذلك فيما نعلـم، ولكن ما علمه - صلى الله عليه وسلم - لأمتـه في حديث النعمان بن بشير حين قال: لا أشهد على جور، يؤكد لنا أنه يرى أن الأبوة السليمة والفطرة المستقيمة هي التي لا تفرق بين الأبناء.

 

3. أبوة حانية مشفقة:

وأحسب أن ما ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - يجـل عن المثـل عند الوصف، ويسمو فوق كل تعليق أو بيان، وأن ما ورد في هذا المجال من أخبار لا شك مجرد نماذج وأفراد رآها الرواة فسجلوها ورووها، وإلا فكـم من وقائع لم يشـاهدها شاهد، ولم يرها راءٍ,، بل كم من وقائع شاهدها المشاهدون ورآها الراؤون، ولم ينقلوها أو لم يدونوها.

 

وإنا لنعجب أشد العجب حين نرى أبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبـها ولا يشغلها، ولا يسترها، ما كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهاد. غزوات نحو الثلاثين، وسرايا، ووفود، ورسل وتعليم، وتبليغ، ووسط كل هذا تعلن الأبوة الأصيلة عن نفسها، وتجد لهـا مكاناً بارزاً في حياته وسيرته - صلى الله عليه وسلم -.

 

إن أي رجل الآن يلي منصبـاً ذا مسؤولية في دائرة من الدوائـر، نجده مهموماً مكروباً مشغولاً ليل نهار، ينسى ولده وأهله، وربما ينسى نفسه.

 

أما الأبوة عند محمد الإنسان - صلى الله عليه وسلم -، فنجد لها مكاناً في خِضَمّ هذه الحياة الحافلة بصنوف الشدائد والأهوال. إنها الأبوة الكاملة، إنها الأبوة القادرة على أن تعبر عن نفسها، وتعلن وجودها، بل لعلها أيضاً كانت معركة من ضمن معارك النبوة.

 

يأتي الوفد من حيث أتى وفيهم سيدهم المطاع - الأقرع بن حابس التميمي - فلا يمنعه - صلى الله عليه وسلم - ما هو فيه من شغل باستقبال هذا الوفد، من أن يعبر عن أبوته، فيداعب الحسن ويقبله، فيعجب الرجل، ويقول مستغرباً: تقبلون الصبيان؟ إنّ لي عشرة من الصبيان ما قبلت واحداً منهم. وعلى الفور يجيئه الرد قاسياً بمقدار ما في قلبه من قسوة، عنيفاً بمقدار ما ينطوي عليه سلوكه تجاه أبنائه من عنف. يقول - صلى الله عليه وسلم -: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟. رواه البخاري

 

لم يقل له - صلى الله عليه وسلم - قولاً ليناً من مثل: لا شيء في تقبيل الأبناء، أو إن تقبيلهم من المكرمات، أو إن تقبيلهم من الرحمة والرقة، إنما جابهه مباشرة بالسبب والسر الذي جعله يسلك هذا السلوك، وهو أنه محروم، حرم الرحمة، نزعها الله من قلبه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لا يعنف الأقـرع مؤنبـاً له على شيء لم يرتكبه، وهو أن الرحمة نزعت من قلبه، ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - على يقين من أن مقتضى الأبوة المستقيمة، والفطرة السليمة، أما هؤلاء فقد كانوا يروضون أنفسهم على خنق صوت الأبوة، وطمر ينابيع الرحمة والشفقة، ووأد العاطفة إيثاراً للجفاء والغلظة، حتى يكون أبناؤهم جفاة غلاظـاً يدخرونهم للصـراع القبلي، الضيق العطن، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - رأى أن نزع الله الرحمة من قلبه، إنمـا بعلمهم وسعيهم وإرادتهم.

 

وحين يعجب متعجب من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قائلاً له: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم. يقول له - صلى الله عليه وسلم -: [من لا يرحم لا يرحم] رواه البخاري.

 

وكدأبه دائماً يعلم أمته، ويدعو إلى الهدى والرشد، فيجعل بر الأبناء والشفقة بهم عبادة يثاب عليها الآباء، فعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [إذا نظر الوالد إلى ولده نظرة، كان للولد عدل عتق نسمة] رواه الطبراني في الكبير وهو حديث حسن.

 

وأخبار أبوته الحانية، ورقته - صلى الله عليه وسلم - ورحمته بالأولاد لا يتسع المقام هنا للإحاطة بها أو إحصائها، ولكنا نكتفي بإيراد أمثلة وشواهد لها:

 

فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه - قال: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إبراهيم ابنه مسترضعاً في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت، وإنه ليدخن، وكان ظئره قينا، فيأخذه، فيقبله، ثم يرجع). (الظَّئر: زوج المرضعة لولد غيرها، القَين: الحدَّاد).

 

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: عثر أسامة بعتبة الباب، فشج في وجهه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [أميطي عنه الأذى] فتقذرته، فجعل يمص عنه الدم، ويمجه عن وجهه) ثم قال: [لو كان أسامة جارية لحليته، وكسـوته حتى أنفِّقه] رواه ابن ماجه

 

فهنا نرى حبه - صلى الله عليه وسلم -، وإشفاقه، وتدليـله لأسامة حتى يتمنى أن لو كان بنتًا فيزينه، ويجمله بالملابس والحُلي، وحتى يروجها للخُطاب، وفي قوله هذا من العتاب لعائشة ما فيه، فحيث تقذرته هي، وضع فمه ومصه، ثم حيث أنفت هي واشمأزت، رآه جميلاً حتى إنه لو كان بنتاً، لكان جديراً بالحلى والزينة.

 

ويبدو أن عائشة - رضي الله عنها - وعت الدرس جيداً، فقد غيّرت موقفـها في المرة الثانية، حيث روت - رضي الله عنها -: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحى مخاط أسامة، فقالت عائشة دعني حتى أنا أفعله، قال: [يا عائشة أحبـيه، فإني أُحبه] رواه الترمذي.

 

فهنا لم يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة، بل هي التي طلبت أن تنـحي مخاط أسامة، مع أنها في المرة الأولى طلب منها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنـها تقذرته، ونستطيع أن نلمح في هذا الحديث أنها استحت من رفـض طلب النبي في المرة الأولى، وأرادت أن تجامله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرة، وطلبت هي من النبي أن يدعها تقوم بإزالة مخاط أُسامة.

 

ويلفت النـظر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعـرض عن طلبها، ولا يلتفت إلى إجابتها، لا بقبول ولا رفض، ولكن يوجهها إلى ناحية أخرى، إلى أساس الأمـر وعموده، أحبيه يا عائشة، فإني أحبه. فكأنه - صلى الله عليه وسلم - أدرك أنهـا لا تقوم بهذا العمل عن رغبة فيه ورضًا به، وقبول له، وإنما إرضاءً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط، ولعله أشفق عليها أن تكلف نفسها ما لا تُطيق، ولذا وجهها إلى ما يرجوه فعلاً منها: [أحبيه] فإذا أحبته سهل - حيئذ - أن تؤدي له كل ما يرجى من إماطة الأذى.

 

والأخبار عن حمل الحسن والحسين، وعن نزوله عن المنبر من أجل أحدهما، وإطالة السجود لركـوب الحسن على ظهره، والتردد على بيـت فاطمة لتعهـدهما، والاستمتاع بمرآهما وشمهما، وكذا ما كان منه تجاه ابنه إبراهيم، من فرح بميلاده، وحُب له في حياته، وحُزن عليه عند مماته، الأخبار في هذه المجالات ونحوها كثيرة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply