صلح الحديبية وما ترتب عليه من أحداث


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً:مفاوضة سهيل بن عمرو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

لما بلغ قريشًا أمر بيعة الرضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على القتال أوفدوا سهيل بن عمرو في نفر من رجالهم لمفاوضة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهيلا قال: «لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» (2).

 

كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يعرفون بالحنكة السياسية والدهاء، فهو خطيب ماهر، ذو عقل راجح، ورزانة، وأصالة في الرأي.

 

شرع الفريقان المتفاوضان في بحث بنود الصلح، وذلك بعد رجوع عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وقد استعرض الفريقان النقاط التي يجب أن تتضمنها معاهدة الصلح، واستعرضا في مباحثاتهما مختلف القضايا التي كانت تشكل مثار الخلاف بينهما. هذا وقد اتفق الفريقان من حيث المبدأ على بعض النقاط، واختلفا على البعض الآخر، وقد طال البحث والجدل والأخذ والرد حول هذه البنود، وبعد المراجعات والمفاوضات تقاربت وجهات النظر بين الفريقين، وعند الشروع في وضع الصيغة النهائية للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة المفعول رسميًّا حدث خلاف بين الوفدين على بعض النقاط كاد أن يعثِّر سير هذه الاتفاقية، فعندما شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في إملاء صيغة المعاهدة المتفق عليها، أمر الكاتب وهو سيدنا علي بن أبي طالب، بأن يبدأ المعاهدة بكلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهنا اعترض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائلا: لا أعرف الرحمن، اكتب (باسمك اللهم)، فضج الصحابة على هذا الاعتراض، قائلين: هو الرحمن، ولا نكتب إلا الرحمن، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمشيًا مع سياسة الحكمة والمرونة والحِلم، قال للكاتب: «اكتب باسمك اللهم»(3) واستمر في إملاء صيغة المعاهدة هذه، فأمر الكاتب أن يكتب «هذا ما اصطلح عليه رسول الله»، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشي على كلمة رسول الله قائلا: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ اكتب اسمك واسم أبيك(4).

 

واعترض المسلمون على ذلك، ولكن رسول الله بحكمته وتسامحه وبُعد نظره حسم الخلاف وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة رسول الله من الوثيقة فالتزم الصحابة الصمت والهدوء.

 

إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافق المشركين على ترك كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وكتابة (باسمك اللهم) بدلا عنها، وكذا وافقهم في كتابة محمد بن عبد الله وترك كتابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلى المسلمين دون من ذهب منهم إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله (محمد بن عبد الله) هو أيضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس في ترك وصف الله - سبحانه وتعالى - في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.

 

وأما شرط رد من جاء منهم وعدم رد من ذهب إليهم، فقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليل ذلك والحكمة فيه في هذا الحديث بقوله: «من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا ثم كان كما قال - صلى الله عليه وسلم -»(5).

 

وتم عقد هذه المعاهدة وكانت صياغتها من عشرة بنود جاءت على الشكل التالي:

1- باسمك اللهم.

2- هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.

3- واصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض.

4- على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجًّا أو معتمرًا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازًا إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله.

5- على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه.

6- وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال(6).

7- وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتوثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم).

8- وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها.

9- وعلى أن هذا الهدي ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا.

10- أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين.

فمن المسلمين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة، وعلي بن أبي طالب كاتب المعاهدة - رضي الله عنهم - أجمعين.

ومن المشركين: مكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو(7).

تعتبر هذه المعاهدة أساسًا للمعاهدات الإسلامية ونموذجًا فريدًا للمعاهدات الدولية، بما سبقها من مفاوضات، وما حوته من شروط، وما تمثل بها من خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في النزول عند رضا الطرف الآخر، وفي كيفية الصياغة والالتزام، هذه المعاهدة سبقها مفاوضات من قبل المشركين والمسلمين، وفشل بعض الممثلين في الوصول إلى اتفاق، ودارت مشاورات شتى من الجانبين قبل الوصول إليه، حتى توصل الفريقان إلى اتفاق عن طريق ممثل المشركين (سهيل بن عمرو) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملأ المسلمين.

عقدت هذه المعاهدة في الوقت الذي كان فيه المسلمون بمركز القوة لا الضعف، وكان باستطاعتهم ألا يقبلوا شروطها التي اغتاظ منها كثير من الصحابة، ولكن ما كان لهم أن يخرجوا عن طوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، وقد تمادى رسول قريش على رسول الله في مفاوضته، وكان فردًا بين جيش المسلمين، فلم ينله أذى، ولم يتمادَ عليه المسلمون بالقتل (لأن السفراء لا تقتل) ولكن رسول الله يرضيه، ويسعه بالحلم واللين، حتى يصل إلى الغاية التي ينشدها الإسلام، وهي حقن الدماء، وإحلال السلام، ورجاء أن يعقل القوم الحق، وأن يراجعوا المواقف، ويسمعوا كلام الله(8)، وتدخل الدعوة الإسلامية طورًا جديدًا بصور أخرى في الانتشار والاتصال بالناس عندما نتأمل نصوص المعاهدة التي تمت في الحديبية فإننا نأخذ منها الآتي:

 

1- إن ديباجة المعاهدات الإسلامية كانت تبدأ باسم الله، أو باسمك اللهم، والقانون الدولي في صياغة المعاهدات يقول: (تبدأ كتابة المعاهدات بديباجة يتفق عليها طرفا التعاقد).

والذي يجب أن نلاحظه أن المعاهدات في الإسلام تستند إلى الله الذي تبدأ باسمه - سبحانه -، حيث هو الرقيب والحسيب على ما في النوايا والقلوب، واسم الله مقدس في كل قلب يؤمن به، حتى أولئك الذين فسدت عقائدهم، فإنهم لا ينكرون الله، ولكنهم أفسدوا تصورهم لذات الله، وقد جرت أعراف بعض الذين يستهوون قلوب العامة بالشعارات الجوفاء أن يقولوا بدل اسم الله: باسم الشعب، أو باسم الأمة، باعتبار قدسية ما يبدأون به كما يزعمون، ولكن الذي يؤمن بالله لا يعدل عن قدسية الله في اعتقاده، ولذلك كانت البداية (باسمك اللهم).

 

2- ذكر في المعاهدة طرفا التعاقد بعد (الديباجة) كما يسميها القانون الدولي، وهذا ما عليه القانون الدولي العام من أنه يذكر بعد الديباجة أسماء الممثلين أو الدول التي هي أطراف في عقد المعاهدة.

 

3- بواعث المعاهدة، فقد جاء في بداية هذه المعاهدة ذكر الصلح لأجل وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وهذا ما عليه القانون الدولي العام كذلك.

 

4- الدخول في صلب المعاهدة وشروطها، حيث ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المعاهدة الشروط المتفق عليها بين الطرفين، وهذا ما عليه القانون الدولي العام.

 

5- في معاهدة صلح الحديبية جواز ابتداء الإمام (رئيس الدولة الإسلامية) بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم(9).

 

6- إن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائز للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما(10).

 

7- إن صلح الحديبية سماه الله فتحًاº لأن الفتح في اللغة هو فتح المغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا ففتحه الله، والصلح كذلك يفتح القلوب المغلقة نحو الطرف الآخر.

لقد كانت الصورة الظاهرة في شروط الحديبية فيها ضيم للمسلمين، وهي في باطنها عز وفتح ونصر، حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى ما وراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب(11).

 

8- إن المعاهدة قد تكون مفتوحة لمن يحب أن يدخل فيها من الأطراف أو الدول الأخرى، وهذا ما عليه القانون الدولي، حيث أجاز أن تكون المعاهدة مفتوحة لمن يحب الدخول فيها من الأطراف الأخرى، فقد دخلت خزاعة وكنانة في الصلح الذي أنهى حالة الحرب القائمة بين هاتين القبيلتين والتي امتدت سنوات عديدة(12).

 

9- إن المعاهدة لا بد لها من توقيع الأطراف والإشهاد عليها، وتوقيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإشهاد أصحابه إنما هو بمثابة التوقيع على المعاهدة والتصديق عليها، كما هو في القانون الدولي العام.

 

10- إن المعاهدة يجوز أن يكون الوسيط فيها طرفًا محايدًا، أو طرفًا يقرب بين وجهات النظر كوساطة سيد الأحابيش (الحلس بن علقمة) حليف قريش الأكبر، وطلبت منه قريش أن يكون وسيطًا بينهم وبين المسلمين، وكان الحلس ذا عقل راجح وبصيرة نافذة، وكان سيدًا مطاعًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرفه ويعرف فيه التأله الشديد والتعظيم للحرم.

 

وعندما اختارته قريش كانت تطمع في أن يكون لمركزه الممتاز بين العرب، ولما يتمتع به من تقدير لدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، تأثير على الرسول وأصحابه(13).

وهذا ما يقره القانون الدولي، حيث إن المعاهدة قد تعقد بوساطة دولة أخرى ليست طرفًا في النزاع، أو أحد المبعوثين الذي لا علاقة له أو لدولته في النزاع القائم بين طرفي التعاقد.

 

11- إن المعاهدة تعتبر نافذة المفعول بمجرد الاتفاق على المعاهدة وشروطها، حتى ولو لم تكتب ولم يوقع عليها الطرفان، وذلك كما حدث لأبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموجب قبوله - عليه السلام - بالبند الخامس من المعاهدة، والذي يقول: (على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم...) فمنذ أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التزامه بهذا الشرط أجراه ولو لم تكن المعاهدة قد كتبت بعد، ولم يوقع عليها الطرفان.

 

12- إن المعاهدة تكتب من نسختين، ويأخذ كل طرف نسخة طبق الأصل من المعاهدة، حيث إنه بعد أن تمت إجراءات الصلح النهائية في الحديبية أخذ كل من الفريقين نسخة من وثيقة الصلح التاريخية، وانصرف الوفد القرشي راجعًا إلى مكة(14).

 

ثانيًا: موقف أبي جندل والوفاء بالعهد:

إن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد، والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث، لاحترام كلمة لم تكتب، واحترام كلمة تكتب كذلك، وفي الجد في عهوده، وحبه للصراحة والواقعية، وبغضه التحايل والالتواء والكيد، وذلك حينما كان يفاوض (سهيل بن عمرو) في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فر من مشركي مكة، وكان أبوه يتفاوض مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان هذا الابن ممن آمنوا بالإسلام جاء مستصرخًا بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين، فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه، وقال: يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك، أي فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فلم يغن عنه ذلك شيئًا، ورده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي جندل: إنا قد عقدنا بيننا وبين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply