استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم


بسم الله الرحمن الرحيم

لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفَى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين، من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك «فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأُسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ركب راحلته».

وبعد أن أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدة التي مكثها بقباء، وأراد أن يدخل المدينة «بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح».

وعند وصوله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: «جاء نبي الله، جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله».

 

فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقًّا يوم عيدº لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقائع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، ويقولون: يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله.

روى الإمام مسلم بسنده قال: «عندما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق العلماء والخدم في الطرق ينادون: «يا محمدُ، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله».

 

وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فعن أنس - رضي الله عنه - في حديث الهجرة الطويل وفيه: «فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي مع فسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى أهله فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «أي بيوت أهلنا أقرب» فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، قال: «فانطلق فهيئ لنا مقيلا...» ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه.

 

وبهذا قد تمت هجرته - صلى الله عليه وسلم - وهجرة أصحابه - رضي الله عنهم -، ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها، بل بدأت بعد وصول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سالماً إلى المدينة، وبدأ معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوصول للمستقبل الباهر للأمة، والدولة الإسلامية، التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة، على أسس من الإيمان والتقوى، والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم.

 

عاشراً: فوائد ودروس وعبر:

1- الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال - عز وجل -: (الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ, إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبٌّنَا اللهُ وَلَولاَ دَفعُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ, لَّهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].

ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: (كَتَبَ اللهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21].

 

2- مكر خصوم الدعوة بالداعية: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال - عز وجل -: (وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].

 

ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ) [الأنفال: 36].

 

3- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين.

فعندما حان وقت الهجرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في التنفيذ نلاحظ الآتي:

* وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلا:

أ- جاء - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر- الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.

ب- إخفاء شخصيته - صلى الله عليه وسلم - أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.

ج- أمر - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يُخرِج مَن عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.

د - وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر.

هـ- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول - صلى الل

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

الرولؤ

13:50:52 2019-04-25

اعجبني