غزوة حنين والطائف ( 8هـ )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

فقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع النفوس

ويظهر هذا الفقه في عدة مواقف من هذه الغزوة منها:

أ- لا رجعة للوثنية:

خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية، وكانت لبعض القبائل شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، وبينما هم يسيرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ وقع بصرهم على الشجرة، فتحلبت أفواههم على أعياد الجاهلية التي هجروها، ومشاهدها التي طال عهدهم بها، فقالوا : يا رسول الله ، اجعل لنا (ذات أنواط) كما لهم (ذات أنواط)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر! قلتم -والذي نفس محمد بيده- كما قال قوم موسى لموسى: (اجعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَةٌ قال إنكُم قَومٌ تَجهَلُونَ) لتركبن سنن من كان قبلكم»(1).

 

وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص رغم إسلامهم، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك، وحذرهم من ذلك، ولم يعاقبهم أو يعنفهمº لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام(2)، وقد سمح لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمشاركة في الجهادº لأنه لا يشترط فيمن يخرج للجهاد أن يكون قد صحح اعتقاده تماما من غبش الجاهلية، وإنما الجهاد عمل صالح يثاب عليه فاعله، وإن قصر في بعض أمور الدين الأخرى، بل الجهاد مدرسة تربوية تعليمية يتعلم فيه المجاهدون كثيرًا من العقائد والأحكام والأخلاقº وذلك لما يتضمنه من السفر وكثرة اللقاءات التي يحصل فيها تجاذب الأحاديث وتلاقح الأفكار(3).

 

ب- الإعجاب بالكثرة يحجب نصر الله:

الإعجاب بالكثرة حجب عن المسلمين النصر في بداية المعركة، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (لَقَد نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ, وَيَومَ حُنَينٍ, إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَيئًا وَضَاقَت عَلَيكُمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم مٌّدبِرِينَ) [التوبة: 25].

 

وقد نبه إلى هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما أوضح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله فيقول: «اللهم بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل»(4).

وهكذا أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يراقب المسلمين ويقوِّم ما يظهر من انحرافات في التصور والسلوك، حتى في أخطر ظروف المواجهة مع خصومه العتاة(5).

 

وعلى الرغم من الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في بداية غزوة حنين وفرار معظم المسلمين في ميدان المعركةº لأنهم فوجئوا بما لم يتوقعوه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعنف أحدا ممن فرَّ عنه، حتى حينما طالبه بعض المسلمين بأن يقتل الطلقاء لأنهم فروا، لم يوافق على هذا(6).

 

ج- الغنائم وسيلة لتأليف القلوب:

رأى - صلى الله عليه وسلم - أن يتألف الطلقاء والأعراب بالغنائم تأليفًا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام، فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاء عظيمًا، إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل، ومن هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان، وقيس ابن عدي(7). وكان الهدف من هذا العطاء المجزي هو تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام، أو كما قال أنس بن مالك: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها(8). وعبر عن هذا صفوان بن أمية بقوله: لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ(9).

 

وقد تأثر حدثاء الأنصار من هذا العطاء بحكم طبيعتهم البشرية، وترددت بينهم مقالة، فراعى - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتراض وعمل على إزالة التوتر، وبين لهم الحكمة في تقسيم الغنائم، وخاطب الأنصار خطابًا إيمانيًّا عقليًّا عاطفيًّا وجدانيًّا، ما يملك القارئ المسلم على مر الدهور وكر العصور وتوالي الزمان إلا البكاء عندما يمر بهذا الحدث العظيم، فعندما دخل سعد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟ » قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة؟ » قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتى سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاَّلا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ » قالوا: الله ورسوله أمنٌّ وأفضل، ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ » قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل. قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء(10) والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة، لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكت الأنصار شعبًا وواديًا لسلكتُ شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار(11)، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار»، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمًا وحظًّا، ثم انصرف رسول الله وتفرقوا(12)، وفي رواية: «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»(13).

 

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن هذه المقالة لم تصدر من الأنصار كلهم، وإنما قالها حديثو السن منهمº بدليل ما ورد في الصحيحين، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين: أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس بن مالك: فحُدِّث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟ » فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم»(14).

 

ويرى الإمام ابن القيم -استدلالاً بهذه الحادثة-: أنه قد يتعين على الإمام أن يتألف أعداءه لاستجلابهم إليه، ودفع شرهم عن المسلمين فيقول: الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعين ذلك -أي التأليف- للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رءوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعين عليه، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين(15).

والتأليف لهذه الطائفة إنما هو من قبيل الإغراء والتشجيع في أول الأمر حتى يخالط الإيمان بشاشة القلب، ويتذوق حلاوته.

 

ويوضح الشيخ محمد الغزالي حقيقة هذا الأمر في مثال محسوس فيقول:...إن في الدنيا أقوامًا كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليه فمها، حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهش له(16).

 

إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب للأنصار صورة مؤثرة: قوم يبشرون بالإيمان يقابلهم قوم يبشرون بالجِمال، وقوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشاة والبعير، لقد أيقظتهم تلك الصور، وأدركوا أنهم وقعوا في خطأ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فانطلقت حناجرهم بالبكاء ومآقيهم بالدموع، وألسنتهم بالرضا، وبذلك طابت نفوسهم واطمأنت قلوبهم بفضل سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة في مخاطبة الأنصار(17).

 

د- الصبر على جفاء الأعراب:

لقد ظهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكثير من الصبر على جفاء الأعراب، وطمعهم في الأموال، وحرصهم على المكاسب، فكان مثالا للمربي الذي يدرك أحوالهم، وما جبلتهم عليه بيئتهم وطبيعة حياتهم من القساوة والفظاظة والروح الفردية، فكان يبين لهم ويطمئنهم على مصالحهم ويعاملهم على قدر عقولهم، فكان بهم رحيمًا ولهم مربيًا ومصلحًا، فلم يسلك معهم مسلك ملوك عصره مع رعاياهم الذين كانوا ينحنون أمامهم أو يسجدون، وكانوا دونهم محجوبين، وإذا خاطبوهم التزموا بعبارات التعظيم والإجلال، كما يفعل العبد مع ربه، أما الرسول - عليه الصلاة والسلام - فكان كأحدهمº يخاطبونه ويعاتبونه، ولا يحتجب عنهم قط، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يراعون التأدب بحضرته ويخاطبونه بصوت خفيض، ويكنون له في أنفسهم المحبة العظيمة، وأما جفاة الأعراب فقد عنفهم القرآن على سوء أدبهم وجفائهم، وارتفاع أصواتهم وجرأتهم في طبيعة مخاطبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -(18)، وهذه مواقف تدل على حسن معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعراب:

 

1- الأعرابي الذي رفض البشرى:

قال أبو موسى الأشعري: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: «أبشر» فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: «رد البشرى، فاقبلا أنتما» قالا: قبلنا. ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه ثم قال: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا» فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة(19).

 

2- مقولة الأعرابي: ما أريدَ بهذه القسمة وجه الله:

قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:... فلما كان يوم حنين آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟! » قال: ثم قال: «يرحم الله موسىº قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» قال: قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا(20).

 

 تعامله مع هوازن لما أسلمت:

جاء وفد هوازن لرسول الله بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر(21) ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت رسول الله خير المكفولين، ثم أنشأ يقول:

 

فإنك المرء نرجوه وننتظر(22)

 امنن علينا رسولَ الله في كرم

إلى أن قال:

إذ فوك يملؤه من محضها درر *** امنن على نسوة قد كنت ترضعها

وإذ يزينك ما تأتي وما تذر *** امنن على نسوة قد كنت ترضعها

فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم، فعادت فواضله - عليه السلام - عليهم قديما وحديثًا وخصوصًا وعمومًا(23).

 

فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوفد قال لهم: «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ » فقالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا، فقال رسول الله: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا

صليت بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أبنائنا ونسائنا، فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس الظهر قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس ابن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيء نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم»(24)، وفي رواية... فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المؤمنين فقال: «إن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا(25) وقد سر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف النصري، فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف، فوعدهم برد أهله وأمواله عليه، وإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلمًا، فجاء مالك مسلمًا فأكرمه وأمّره على قومه وبعض القبائل المجاورة. لقد تأثر مالك بن عوف وجادت قريحته لمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:

في الناس كلهم بمثل محمد *** ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

ومتى تشاء يخبر عما في غد *** أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى

بالسمهري وضرب كل مهند *** وإذا الكتيبة عردت(26) أنيابها

وسط الهباءة(27) خادر(28) في مرصد(29)

 

 فكأنه ليث على أشباله

لقد كانت سياسته - صلى الله عليه وسلم - مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدودº وبهذه السياسة الحكيمة استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيفًا في الطائف حتى ضيق عليهم، وقد فكر زعماء ثقيف في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان فلا تستطيع تحركًا ولا تجارة، فمال بعض زعماء ثقيف إلى الإسلام مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع إلى اللحاق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوبًا عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذن في أعلى منزله فرماه بعضهم بسهام فأصابوه، فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف(30).

 

إن الإنسان ليعجب من فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاملة النفوس، ومن سعيه الحثيث لتمكين دين الله - تعالى -، لقد استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يزيل معالم الوثنية، وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها، ورتب - صلى الله عليه وسلم - الأمور التنظيمية للأراضي التي أضيفت للدولة الإسلامية، فعين عتاب بن أسيد أميرا على مكة، وجعل معاذ بن جبل مرشدًا وموجهًا ومعلمًا ومربيًا(31)، وعين على هوازن مالك بن عوف قائدًا ومجاهدًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة - صلى الله عليه وسلم -.

 

----------------------------------------

(1) انظر: السيرة النبوية للندوي ص349، سنن الترمذي، الفتن (4/475) رقم 2180.

(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/497).  (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (8/62).

(4) سنن الدارمي (2/135)، المسند للإمام أحمد (4/333).

(5) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة للعمري، ص199.

(6) المصدر نفسه، ص204، 205.   

(7) انظر: معين السيرة، ص421.

(8) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله شيئًا قط (4/1806) رقم 2312.

(9) المصدر نفسه (4/1806) رقم 2313.

(10) بالشاء: أي الشياه وهي الأغنام.    

(11) دثار: هو الثوب الذي يكون فوق الشعار.

(12) انظر: زاد المعاد (3/474).

(13) مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (2/738) رقم 1061.

(14) مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (2/734) رقم 1509.

(15) انظر: زاد المعاد (3/486).   

(16) انظر: فقه السيرة، ص427.

(17)، (18) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص219.

(19) البخاري، كتاب المغازي رقم 4328.

(20) مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، حديث 1062.

(21) انظر: البداية والنهاية (4/352).    

(22) المصدر نفسه (4/352).

(23) انظر: البداية والنهاية (4/363، 364).  

(24) المصدر نفسه (4/352، 353).

(25) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4319.

(26) عردت: اشتدت وضربت، القاموس المحيط (1/313).

(27) الهباءة: غبار الحرب، مختار الصحاح، ص689.

(28) الخادر: المقيم في عرينه، والخدر ستر يمد للجارية من ناحية البيت.

(29) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/144).

(30) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/192).

(31) المصدر نفسه (4/153).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply