دروس من السيرة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أيها الأحبة في الله:

ومع الدرس الثالث من دروس سيرة نبينا نبدأ بذكر الأمر الإلهي للنبي أن ينذر عشيرته، ويعلن الدعوة التي أرسل بها.

روى الشيخان من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين خرج رسول الله حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا له، فقال: ((أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)).

قال أبو لهب: تباً لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فأنزل الله - تعالى -: تبت يدا أبي لهب وتب.

وهنا، ظهر لقريش ما كانت تتوجس منه، وتتابع خبره بين التفات وإعراض، وقلوبها بين قبض وبسط.

فقد جاءهم النذير الذي يريد أن يأخذ بأيديهم إلى عزهم ونجاتهم وسعادتهم في داريهم، ويخرجهم من ظلمات الجهل التي لفّت قلوبهم، وأعمت أبصارهم، إلى نور الإيمان والهدى، لا يريد منهم على ذلك جزاءً ولا شكوراً.

ولكن القلوب المريضة يطغى عليها الاطمئنان إلى عِللها فترضى بها فترى الحق باطلاً، والنور ظلمةً، وكما قيل:

ومن يك ذا فمٍ, مرٍ, مريض *** يذق مراً به الماء الزلالا

إن قريش يوم أن اجتمعت للنبي، اجتمعوا بلسانٍ, واحدٍ, أنهم لم يجربوا عليه كذبة واحدة طوال الأربعين سنة التي عاشها بين أظهرهم، ولكن سرعان ما نقضوا ذلك حين صدع لهم بأجلى قضية، وأوضح أمرٍ,، فقابلوه بالسخرية والاستهزاء، تصدّر ذلك رجلٌ من أقرب الناس إليه، وهو عمه أبو لهب.

وحين يأتي الأذى من قريب أو صديق، فإنه لأشد وقعاً، وأعظم ألماً.

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهند

بدأت تلك السخرية لتعقبها سلسلة من السخريات وأنواع الأذى، ولكن ما كان ذلك ليصدّ النبي عن دعوته وسيره في نشرها، ومصابرته على ما يلقاه من أجلها، ولقد كان الأمر يأتيه من ربه - عز وجل -: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون.

إن المشركين قد عرفوا أن دعوة الحق قد صدعت في آذانهم، ولكن ماذا عسى أن يفعوا بالأصنام التي امتلأت قلوبهم لها حباً، ودين الآباء الذين طالما فاخروا بمآثرهم.

وماذا عليهم لو تركوا الجهالة والضلالة والعمى؟! وآمنوا بالله واليوم الآخر.

ولكن قلوبهم التي امتلأت كبراً وجحوداً، وحقداً وحسداً أبت عليهم ذلك، فواجهوا دعوة الحق وكذبوها، ونالوا منها ومن أهلها.

وفي ذلك يقول الله - تعالى -: \" قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون \".

وقد ذُكر أن أبا جهل قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.

فانظروا إلى الدوافع التي تتحكم في قلوبهم وتتصرف في حياتهم، كيف حرمتهم أشدّ الحرمان وأخذت بهم إلى ما لم يبلغوا به مناهم في الدنيا، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة.

 

أيها الأحبة في الله:

صدع النبي برسالة ربه - عز وجل -، وأبان التوحيد الخالص وحذّر من الشرك، وصدع بأن الأصنام لا تضر ولا تنفع، وأن عبادتها جهل وسفه وضلال.

ومن هنا، فالتوحيد وتأصيله، والتحذير من الشرك وأهله، هو مبدأ الدعوة الحق التي جاء بها الأنبياء والمرسلون اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وما أرسلنا من قبلكم من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

فعلى كل داعية أن يستصحب هذا الأصل معه، وليعلم أن ذلك هو البصيرة التي عليها أتباع النبي: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.

 

أيها الأحبة في الله:

رغم التفاخر الذي كان بين المشركين بعضهم على بعض، والتنازع على الرئاسة والزعامة، والعصبية التي تثير القتال منها شرارة، إلا أنه اجتمعت كلمتهم على إيذاء رسول الله إلا القليل القليل منهم.

فأظهروا العداوة والأذى لكل من يتبع هذه الدعوة الجديدة.

وتفننوا في ذلك، يحسبون أنهم سيملكون الأفئدة ويعيدون النفوس إلى ظلمتها بعد أن استبصرت الطريق، ليجعلوها كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا.

ولكن ما راعهم، إلا والمسلمون يزيدون يوماً بعد يوم.

ففي حين يفقد دين الوثنية كل يوم عضواً من أعضائه، يبقى أتباع الدين الحق رابطي الجأش، ثابتي القلب والقدم، يجمعون حلاوة الإيمان إلى مرارة الأذى، فتغلب حلاوة الإيمان وتعلو فيصبح ذلك الأذى لذاذة تملأ الفؤاد، وذلك العذاب عذباً فراتاً يؤوي العروق، بمعاني الحياة الحقة. وكما قيل:

عـذابه فيك عـذب *** وبعده فيك قـرب

 

وأنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب

 

حسبي من الحب أني ***  لمـا تحـب أحب

 

أيها الأحبة في الله:

ملأت دعوة النبي كل أذن، وتحدث بها كل بيت، فضاق المشركون بذلك ذرعاً، وخافوا أن تتسع دائرتها إلى من حول مكة من القرى، ففي موسم الحج تقدم وفود العرب، فرأوا أن لابد من كلمة يقولونها في شأن محمد حتى لا يكون لدعوته آثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت فقل، قال: بل أنتم فقولوا: أسمع، قالوا: القول: كاهن فقال: لا والله، ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه، ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهجزه، وقرضه، ومقبوضه ومبسوطه، قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول منه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.

وفي رواية أن الوليد فكّر قليلاً، ثم خرج بذلك الرأي. فأنزل الله - تعالى - فيه: \" إنه فكر وقدر فقتل كيف قدّر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر إن هذا إلا قول البشر \".

 

وعلى الرغم من هذا الصد عن سبيل الله، والتشويه للنبي ودعوته، إلا أن دعوته أجلى وأجمل من أن تشوّه بتلك الدعايات المضللة، وكما قيل:

 

ما ضرّ نهر الفرات يوماً *** أن خاض بعض الكلاب فيه

فكانت كلماته تفتح قلوباً طالما غلبت عليها شقوتها، وتغير أبصاراً طالما حجبتها ظلمتها.

فقد جاءت الوفود في الموسم، فلم يألُ المشركون جهداً أن يحذروا كل من يمرّ عليهم من الرسول وما يدعوا إليه.

ولكن يأبى الله - تعالى -إلا أن يتم نوره، ويشرح صدوراً من عباده إلى تلك الدعوة المباركة.

فكان ممن قدم إلى مكة ضماد الأزدي سمع من النبي فأسلم على يديه.

روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ضماداً قدم مكة وكان من أزدِ شنُوءة وكان يرقي من هذه الريح أي الجنون ومس الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي عليّ من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله: ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد)) قال: فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات.

قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة قول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء. ولقد بلغن ناعوس البحر وفي رواية قاموس [أي وسطه ولجته]. قال: فقال: ((هات يدك أبايعك على الإسلام)) قال: فبايعه. فقال رسول الله: ((وعلى قومك))، قال: وعلى قومي.

قال: فبعث رسول الله سريّة أي بعد الهجرة، فمرّوا بقومه، فقال صاحب السريّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مِطهرة، فقال: ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد.

وكان ممن قدم على النبي وأسلم أبو ذر الغفاري، ولإسلامه قصة طويلة مخرجة في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس.

فبعد أن أسلم أبو ذر عند رسول الله رجع إلى قومه غفار، فأسلم نصفهم، وأسلم النصف بعد هجرة النبي إلى المدينة.

وكان ممن أسلم الطفيل بن عمرو الدوسي فرجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام فوجد منهم صدوداً، فرجع إلى النبي يشكوهم، ويطلب منه أن يدعوا عليهم، ولكن النبي قال: ((اللهم اهدهم، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم)) فرجع ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام، وفي عام خيبر وفد على رسول الله بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس.

 

أيها الأحبة في الله:

وبدأ الإسلام يدخل القلوب يوماً بعد يوم، والمشركون يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن يبغونها عوجاً. ولكن يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتمّ نوره ولو كره الكافرين هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركين.

 

الخطبة الثانية:

أيها الأحبة في الله:

ولم تقف قريش عند تحذير الناس من تلك الدعوة الجديدة، بل حملت على عاتقها إيذاء كل من يسلك سبيلها بالقول والفعل.

أظهرت ذلك من يوم أن صدعت دعوة الحق في آذانها، فشنعت القول على النبي، وكادت الأذى له، ما يوقفهم عن التمادي في ذلك إلا مناصرة عمه أبي طالب له، فقد كان ذا كلمة وسيادة في قريش، وكان مناصراً للنبي مدافعاً عنه، إلا أنه عزّ على نفسه أن يترك دين عبد المطلب، فكان بتلك المناصرة أخف أهل النار عذاباً.

وتفنن المشركون في إيذاء أصحاب النبي.

روى الإمام أحمد من حديث ابن مسعود قال: (أول من أظهر إسلامه سبعة، رسول الله، أبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.

فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم، على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد).

هكذا عذبوهم يوم أن رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيناً ورسولاً.

وبهذا قابلوهم، في سلسلة متنوعة من الأذى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply