روائع من صبر الأنبياء


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.

عبادَ الله، سنّةُ الله ماضية في الابتلاءِ والامتحان، والحقٌّ والباطل في هذه الحياة في صراع مرير مستمِرّ، \" لّيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ, وَيَحيَى مَن حَيِيَ عَن بَيّنَةٍ, وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ \" [الأنفال: 42]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُم لاَ يُفتَنُونَ\" [العنكبوت: 2]. وليس أحدٌ معصومًا من البلاء، فأشدٌّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الصالحون الأمثل فالأمثل.

ولهذا البلاءِ حِكمٌ من الله - جل وعلا -، فمنها تمييزُ الخبيث من الطيب، \" لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ \" [الأنفال: 37]، فيظهر صدقُ الصادِق من كذب الكاذب. ومن فوائدِ البلاء رفعُ درجات العبد، \" وَلاَ يَطَأُونَ مَوطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِن عَدُوّ نَّيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ \" [التوبة: 120]. ومنها تكفيرُ الخطايا والسيئات، ((ما يصيب العبدَ من همٍّ, ولا نصَب ولا وصب، حتى الشوكة يُشاكها إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه))[1].

وموقفُ المؤمن مِن البلاء الصبرُ والاسترجاع، \" وَبَشّرِ الصَّـابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَـابَتهُم مٌّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيهِ راجِعونَ \" [البقرة: 155، 156]، رضًا بقضاء الله، فلا تسخٌّطَ ولا كراهية، في الحديث: ((ليس منَّا من ضرب الخدودَ وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))[2].

أيّها المسلم، وممّا يعينك على الصبر عندَ الامتحان والابتلاء مواقفُ أنبياءِ الله وخيرتِه من خلقه، فقد قصَّ الله علينا أنباءَ الماضين للاعتبار والاتِّعاظ: \" لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأولِى الألبَـابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفتَرَى وَلَـاكِن تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصِيلَ كُلّ شَيء \" [يوسف: 111]، \" وَكُـلاً نَّقُصٌّ عَلَيكَ مِن أَنبَاء الرٌّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الحَقٌّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكرَى لِلمُؤمِنِينَ \" [هود: 120].

لقد قصَّ الله علينا قصصَ أنبيائه المرسلين، وماذا واجهوا في دعوتهم، وماذا قِيل لهم، وما هو البلاء الذي حلَّ بهم، ثمّ ما هو صبرُهم وتحمٌّلهم، كلٌّ ذلك في سبيل الله والعاقبة للتقوى.

نوحٌ - عليه السلام - أوّلُ رسُل الله إلى الخلق، ماذا جرى له ؟ مكَث في قومه ألفَ سنة إلاَّ خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله سِرًّا وجهارًا، ليلاً ونهارا، لينقذهم من الضلال، ويصعد بهم إلى طريق الهدى، والله يقول: \" وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ \" [هود: 40]. سخِروا منه، وسخِروا من أتباعه، وقالوا له: \" لَئِن لَّم تَنتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُرجُومِينَ \" [الشعراء: 116]. أنجى الله نوحًا وأتباعَه، وأغرق قومَه. ابتُلي بكفر ابنه وصدودِه عن أبيه، والله يقول له: \" إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَـاهِلِينَ \" [هود: 46].

إبراهيمُ أبو الأنبياء بعده، بعثه الله لأبيه وقومه، يدعوهم إلى الله، ويبيِّن لهم توحيدَ الله، ويحذِّرهم من عبادة الأصنام، ويبيِّن لهم فسادَ معتقدِهم وباطلَ ما هم عليه، فما كان من أبيه وقومه إلاّ التكذيبُ والإنكار، لقد تلطَّف مع أبيه في دعوته: \" يا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ مَا لاَ يَسمَعُ وَلاَ يَبصِرُ وَلاَ يُغنِى عَنكَ شَيئًا يا أَبَتِ إِنّي قَد جَاءنِي مِنَ العِلمِ مَا لَم يَأتِكَ فَاتَّبِعنِي أَهدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يا أَبَتِ لاَ تَعبُدِ الشَّيطَـانَ إِنَّ الشَّيطَـانَ كَانَ لِلرَّحمَـانِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحمَـانِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَـانِ وَلِيًّا \" [مريم: 42-45]، وماذا قال أبوه؟ \" لَئِن لَّم تَنتَهِ لأرجُمَنَّكَ وَاهجُرنِي مَلِيًّا \" [مريم: 46]. لقد أقام الحججَ والبراهين العقلية على فسادِ عبادةِ الأصنام وضلالها، وعدم قدرتها على تخليص نفسها، فكيف تُتَّخذ أربابًا وآلهة؟! أوقَدوا نارًا ليحرقوه، فقال الله لها: \" كُونِي بَردًا وَسَلَـامَا عَلَى إِبراهِيمَ \" [الأنبياء: 69]. وهَبَ الله له في الكبَر إسماعيلَ وإسحاق، فلما ترعرع إسماعيل وتعلَّقت نفس الأب به أمره الله بذبحه ليبتليَ إيمانه وصدقه: \" فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قَالَ يا بُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنّي أَذبَحُكَ فَانظُر مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ فَلَمَّا أَسلَمَا وَتَلَّهُ لِلجَبِينِ وَنَـادَينَـاهُ أَن يا إِبراهِيمُ قَد صَدَّقتَ الرٌّؤيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِى المُحسِنِينَ إِنَّ هَـذَا لَهُوَ البَلاَء المُبِينُ وَفَدَينَـاهُ بِذِبحٍ, عَظِيمٍ, \" [الصافات: 102-107]، كلٌّ ذلك ليظهرَ إيمان الخليل، ولذا اتخذه الله خليلاً، \" وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبراهِيمَ خَلِيلاً \" [النساء: 125].

 

يوسف بنُ يعقوبَ بنِ إسحاق، نبيُّ من أنبياء الله، ابتُلي بما ابتُلي به، ابتُلي بصدودِ إخوته عنه، ومحاولتهم إلحاقَ الأذى به، وأُلقي في البئر، فاشتُري وبيع، وصار عند عزيز مصر رقيقًا وهو الكريم بنُ الكريم بنِ الكريم بن الكريم، فابتُلي بامرأة العزيز، كما ابتُلي بإخوته، ولكن الصبرُ والثبات على الحقّ حال بينه وبين ما أُريد، \"كَذالِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السٌّوء وَالفَحشَاء إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ\" [يوسف: 24].

 

وأيوبُ يقول الله عنه: \"وَأَيٌّوبَ إِذ نَادَىا رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضٌّرٌّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاستَجَبنَا لَهُ فَكَشَفنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَينَـاهُ أَهلَهُ وَمِثلَهُم مَّعَهُم رَحمَةً مّن عِندِنَا وَذِكرَى لِلعَـابِدِينَ \" [الأنبياء: 83، 84].

 

التقم الحوتُ يونسَ - عليه السلام -، فصار في بطنِ الحوت ينادي ويناجي: \" أَن لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَـانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ \" [الأنبياء: 87]، قال الله: \" فَاستَجَبنَا لَهُ وَنَجَّينَـاهُ مِنَ الغَمّ \" [الأنبياء: 88]، \"فَلَولاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطنِهِ إِلَى يَومِ يُبعَثُونَ \" [الصافات: 143، 144].

سيِّدُ الأوّلين والآخرين، سيّد ولد آدم، أفضلُ خلق الله على الإطلاق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، خاتم أنبياء الله ورسله، بعثه الله على حين فَترةٍ, من الرسل واندراس من العلم إلى قومٍ, ما أتاهم من نذير من قبله، وما طرق أسماعَهم نذيرٌ قبلَه، إلى قومٍ, غارقين في وثنيَّتهم، غارقين في جهالاتهم وضلالاتهم، بدأهم بدعوةِ إيّاهم إلى كلمة التوحيد: \"لا إله إلا الله\"، ليقولوها ويعمَلوا بمقتضاها، ويدَعوا تلك المعبوداتِ الباطلة، فما كان من قومه إلاّ أن وقفوا موقفَ العداء منه، فوصفوه بما هو بَراء منه، وما يعلمون في كنانة أنفسِهم براءته منه، قالوا عنه: الكذّاب والسّاحر والمجنون والشاعر والمفتري، وكلٌّ ذاك باطل والله يقول: \" فَإِنَّهُم لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـاكِنَّ الظَّـالِمِينَ بِـئَايَـاتِ اللَّهِ يَجحَدُونَ \" [الأنعام: 33].

ألحقوا الأذى به وبأتباعه من أقرَب الناس إليه أيضًا، وحاصَروه في الشِعب، وجرى ما جرى. خرج خارجَ مكّةَ عسى أن يجدَ من يسمَع رسالتَه ويقبَلها، فقوبِل بالتكذيب، ورماه سفهاؤُهم بالحجارة، فأدمَوا عقبَه، وملكُ الجبال يأتيه بأمر الله: أَأُطبق عليهم أخشبي مكة[3]؟ فيقول كلمتَه العظيمة: ((أتأنَّى بهمº لعلّ الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا))[4]، فحقَّق الله له أمنيّتَه، وحقَّق الله له رَجاءَه، فما مات حتى انقادت له الجزيرة، وآمن به أهلُها، فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.

موسى بنُ عمران كليم الرحمن، أحدُ أولي العزم من الرسل، ولِد ذلك النبيّ الكريم في زمنٍ, كان فرعونُ يقتُل الذكورَ من بني إسرائيل ويستحوِذ على النساء ويُبقيهن، وكان ذاك بلاءً عظيمًا، لكن قدرة الله فوق قدرة البشر كلِّهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، \" وَأَوحَينَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَن أَرضِعِيهِ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحزَنِي إِنَّا رَادٌّوهُ إِلَيكِ وَجَـاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ\" [القصص: 7].

 

التقَطه آلُ فرعون حقدًا عليه لكي يقتلوه، وإذا القدرة الربّانيةُ أن ألقى الله في قلب امرأةِ فرعونَ حبَّه ومودَّته، قالت لفرعون: \" لاَ تَقتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُم لاَ يَشعُرُونَ \" [القصص: 9]. تربَّى في بيت فرعونَ وعلى فراشه وفي نعمتِه، وفي قضاء الله ما لا يعلمه البشر.

 

أمره الله وأخاه أن يأتيَا فرعونَ، ذلك الطاغية الذي ادَّعى أنّه الربٌّ الأعلى: \" أَنَا رَبٌّكُمُ الأَعلَى \" [النازعات: 24]، ليدعُوَاه إلى الله، وقال لهما: \"فَقُولاَ لَهُ قَولاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى \" [طه: 44]. موسى - عليه السلام - عرف رهبةَ فرعونَ وطغيانَه، فقال الله: \" إِنَّنِى مَعَكُمَا \" [طه: 46]، فبيَّن الله له أنه معه ناصرُه ومؤيِّده.

ابتدأ دعوتَه لفرعون، يدعوه إلى الله، يدعو ذلك الطاغيةَ المتكبِّر الجبّار إلى الله وإلى توحيده، يدعو من يقول: \" مَا عَلِمتُ لَكُم مّن إِلَـاهٍ, غَيرِي \" [القصص: 38]، ليقول له: الله خالقك وخالق الخلق كلِّهم. استكبر وأبى، طلب آيةً تدلّ على صِدق موسى، فإذا العصا التي يحمِلها تحوَّلت بأمر الله حيَّةً تسعى، وإذا يدُه تنقلب بيضاءَ تحاكي الشمسَ في قوّة إضاءتها، ومع هذا فما ازداد إلاَّ طغيانا وكفرًا.

أقام موسى يدعو إلى الله ويطلب من فرعونَ أن يخلِّص بني إسرائيل من ظُلمه وطغيانه، والآيات والبراهينِ ترِدُ حينًا بعد حين، ولكن ذاك لاجُّ في طغيانه وضلاله، \" وَمَا تُغنِى الآيَـاتُ وَالنٌّذُرُ عَن قَومٍ, لاَّ يُؤمِنُونَ \" [يونس: 101]. في زمنٍ, كان السحرة لهم شأنهم، ولهم دورُهم في الدنيا، وفرعونُ يراهم قوَّتَه وجنده، ويراهم مَن يعتمد ويعوِّل عليهم في أموره كلِّها.

دَعا فرعونُ موسى للمناظرةِ والمجادَلة في يومٍ, ليظهرَ من كان محِقًّا ممّن كان مبطلاً. جمع فرعونُ سحرتَه على اختلافهم وتنوٌّعهم وكثرتهم، فأتوا بحبالهم وعصيِّهم، ومع موسى أخوه فقط. امتلأ الوادي بأولئك السحرة الذين رُغِّبوا ووعِدوا بأن يكونوا خاصَّةَ فرعونَ وجلساءه إن هم تغلَّبوا على موسى وحدَه، فكان أوّلَ الأمر يدَّعي أنه الربٌّ الأعلى، والآن يتضعضَع أمره ويهين شأنُه حينما يطلُب المناظرةَ من موسى - عليه السلام -.

جمع السحرةُ كيدَهم، وجمعوا ما عندهم وما لديهم، فامتلأ الوادي بتلك الحبال والعصيّ التي في مرأى الإنسان أنها حيّاةٌ وأنها وأنها، أوجَس في نفسِه خيفةً موسىº بَشرٌ يخاف كما يخافُ سائرُ الناس، لكن اللهَ - جل وعلا - ثبَّت قلبَه وقوَّى يقينه: \" لاَ تَخَف إِنَّكَ أَنتَ الأعلَى وَأَلقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلقَف مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيدُ سَاحِرٍ, وَلاَ يُفلِحُ السَّـاحِرُ حَيثُ أَتَى\" [طه: 68، 69]. نعم، إنّ السحرَ أمام الحقِّ يتضاءل، وإنّ السحرَ أمام الوحي يتضاءل، وإنَّ السحرةَ إنما يعلوُ سِحرهم إذا فُقِد الوحي، وأمّا الوحيُ والإيمان فإنّه ضدُّ للسَّحَرة وطغيانهم وضلالهم.

 

عصا موسى تحوَّلت حيةً ملأت الوادي والتقمت كلَّ ما فيه، وكادت أن تلتقمَ فرعونَ ومَن معه، فأصيبُوا بالذّهول والإحباط، وتحوّلت تلك القوّةُ إلى ضعفٍ, ووهَن، هؤلاء السّحَرة المهرَة في سِحرهم المهرةُ في علمهم وخداعهم رأَوا أمرًا لا طاقةَ لهم به، وآيةً لا استطاعةَ لهم بتحدِّيها، فخرّوا لله ساجدين، \" ءامَنَّا بِرَبّ هَـارُونَ وَمُوسَى\" [طه: 70]، آمنوا أجمعين لما رأوا تلك الآيات الباهرة. فرعونُ يهدِّد ويتوعَّد، وقالت السحرة: \"فَاقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ, إِنَّمَا تَقضِى هَـذِهِ الحَيَاةَ الدٌّنيَا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغفِرَ لَنَا خَطَـايَـانَا وَمَا أَكرَهتَنَا عَلَيهِ مِنَ السّحرِ وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقَى\" [طه: 72، 73]. آمنوا ساعةً واحدة نالوا بها الجناتِ العالية، وسبحان الحكيم العليم.

بنو إسرائيل كانوا أذلَّةً في أيّام فرعون، فببعثةِ موسى رُفع شأنهم وأعزَّهم الله، وجعل منهم الأنبياءَ والملوك وفضَّلهم على سائل عالم زمانهم، بماذا؟ باتِّباعهم لموسى وإيمانهم وقيامهم بالتَّوراة، ولكن سرعانَ ما تبدَّل أولئك، فعصَوا موسى، وعبَدوا العجل، فجعلهم في التِّيه أربعين سنةً عقوبة لهم. وكان الأنبياء يتعاقبون فيهم، ما مضى نبيّ إلاَّ أتى نبيّ، لكنهم تحوَّلوا عن دينهم، ولجٌّوا في طغيانهم، فعاقبهم الله بالعقوباتِ العظيمةº ضرب الله عليهم الذلّةَ والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله. ما هي حالهم وأخلاقهم؟ \"وَيَسعَونَ فِي الأرضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبٌّ المُفسِدِينَ \" [المائدة: 64]. حالُ بعضهم من بعض: \"تَحسَبُهُم جَمِيعًا وَقُلُوبُهُم شَتَّى\" [الحشر: 14]، \"وَأَلقَينَا بَينَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاء إِلَى يَومِ القِيَـامَةِ \" [المائدة: 64]. موقفُهم من صفاتِ ربَّهم موقفُ الظلم والعدوان، \"وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغلُولَةٌ غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا\" [المائدة: 64]، \"لَّقَد سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحنُ أَغنِيَاء سَنَكتُبُ مَا قَالُوا\" [آل عمران: 181]. أخلاقُ مجتمعِهم: \"كَانُوا لاَ يَتَنَـاهَونَ عَن مٌّنكَرٍ, فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ\" [المائدة: 79]. تعاملهم مع غيرهم: \"سَمَّـاعُونَ لِلكَذِبِ أَكَّـالُونَ لِلسٌّحتِ  \"[المائدة: 42]. تلك أخلاقُهم لما انحرفوا عن ملّة الإسلام، وصار لهم من الضلال ما صار.

موسى - عليه السلام - بعدما أقام داعيًا إلى الله مناضِلاً مجاهدًا خرج من مصرَ فارًّا بأتباعه من ظلمِ فِرعون، فتبعه فرعونُ بقوّته لكي يهلِكه ويقضيَ عليه، انتهى موسى وقومُه إلى البَحر، فرعونُ من ورائهم والبحر أمامهم، فلا محيصَ لهم من عدوٍّ, أو غرَق في البحر، قالوا لموسى: \"إِنَّا لَمُدرَكُونَ \" [الشعراء: 61]، فماذا قال لهم؟ \"كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهدِينِ \" [الشعراء: 62]. أمره الله فضربَ بعصاه البحر، فإذا البحر ينشقّ اثني عشر طريقًا يبَسًا، والماء كالحواجز بين تلك الطّرق، يسلكه موسى ومن معه آمنًا، ويأتي فرعونُ فينطبِق البحرُ عليه، ويغرقه ومن معه، وأخرجه الله ليكون عبرةً وعِظة لمن بعده.

أيّها المسلم، تلك سنّةُ الله في الابتلاء والامتحان، فليستقِمِ المسلم على دينه، وليثبُت على الحقّ الذي آمن به، وليعلَم أن البلاءَ والامتحان لأهل الإسلام لا بدّ منه.

إنَّ أمةَ الإسلام ـ وهي تعاني من حملاتٍ, شرسة ودعايات وتحدِّيات ـ يجب عليها أن تعلَم حقًّا أنه لا ينجيها من كيد عدوِّها ولن يخلِّصها من مكائد عدوِّها إلا تمسٌّكها بدينها واعتصامها بحبل الله واجتماع كلمتها على ذلك، فبهذا تحمي الأمّةُ نفسَها بتوفيقٍ, من الله من كيد أعدائها، ويكون لها القوّة، \"وَلَقَد كَتَبنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذّكرِ أَنَّ الأرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّـالِحُونَ \" [الأنبياء: 105]، وقال - جل وعلا -: \"وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرسَلِينَ إِنَّهُم لَهُمُ المَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَـالِبُونَ \" [الصافات: 171-173].

إنّ قصصَ الأنبياء الماضين عبرةٌ وعِظة لمن اتَّعظ واعتبر. جعلني الله وإيّاكم من المعتبرين المتَّعظين، إنه على كل شيء قدير.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَذَكّر بِالقُرءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

---------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر (2563) عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما -.

[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1297، 1298)، ومسلم في الإيمان (103) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

[3] الأخشبان بالمعجمتين، قال ابن حجر في الفتح (6/316): \"هما جبلا مكّة أبو قبيس والذي يقابله، وكأنّه قعيقعان...وسمّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما، والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكّة، ويحتمل أن يريدَ أنّهما يصيران طبقًا واحدًا\".

[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبيّ (1795) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بنحوه.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.

عبادَ الله، قدِم نبيّكم المدينة، وإذا اليهود يصومون اليوم العاشر من محرَّم، فسألهم: ((ما سببُ صيامكم لهذا اليوم؟!)) قالوا: يومٌ أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرق فيه فرعونَ وقومه، فنحن نصومه شكرًا لله، فقال: ((نحن أولى وأحقٌّ منكم بموسى))[1].

أجَل، إنَّ محمّدًا وأمَّتَه أولى الناس بأنبياءِ الله ورسُله، فهم آمنوا برسلِ الله، وصدّقوهم، واعتقدوا أنهم جاؤوا بالحقّ، ولكن العمل إنما هو بشريعة نبيّهم. آمنوا بإبراهيم وبموسى وبعيسى، واعتقدوا أنهم أنبياءُ الله ورسله، وأنهم أدَّوا الواجب وبلَّغوا الرسالة، لكن عملُهم بشريعةِ نبيِّهم، \" إِنَّ أَولَى النَّاسِ بِإِبراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَاللَّهُ وَلِىٌّ المُؤمِنِينَ \" [آل عمران: 68].

صام محمّد اليومَ العاشر تسعَ سنين أو عشرَ سنين، يصوم كلَّ عام اليومَ العاشر، ولما افتُرض رمضان في العام الثاني من الهجرة قال للصحابة: ((إنه ليس بفرض، من أحبَّ أن يصومَه فليصمه، وإلاَّ فلا))[2]، ذلك أنَّ الفرضَ الواجب إنما هو صيام رمضان، وما عدا صيام رمضان فلم يوجب الشرع علينا ابتداءً صيامًا إلا رمضان خاصة، فصيامه سنّةٌ وليس بواجب.

وفي آخر حياةِ النبيّ تمنّى نبيٌّكم إن عاش إلى قابل ليصومنَّ التاسعَ مع العاشر[3]، وقال لنا: ((صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، خالفوا اليهود))[4].

فسنّة محمد أن نصومَ اليومَ العاشر الذي سيوافق يومَ الاثنين، ونصوم قبله التاسعَ الذي هو يوم الأحد، أو نصوم بعده اليوم الحادي عشر وهو يوم الثلاثاء.

ورغَّبنا في صيامه فيقول أبو قتادة عن رسول الله في صيام يوم عاشوراء: ((أحتسِب على الله أن يكفّر السنة الماضية))[5]، ويقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما رأيتُ النبيَّ يصوم يومًا يتحرّى فضلَه على الأيام إلاَّ هذا اليوم، يعني: يوم عاشوراء[6]. إذًا صيامه سنة ليس بفرض، ولكنّه قربةٌ يتقرَّب بها إلى الله.

أخي المسلم، قد تطرَح سؤالاً فتقول: لماذا خصَصتم يومَ عاشوراء ولم تصوموا الواحدَ من محرّم، ولم تصوموا اليوم الثاني عشر من ربيع الأول أيّ يوم كان، ولم تصوموا وقت المبعَث ووقتَ المولد ووقت المهاجّر، لماذا؟! نقول: يا أخي، نحن متَّبِعون لا مشرِّعون، مقتدون لا مبتدِعون، فصيامنا يومَ عاشوراء إنما واظَبنا عليه لأجل اتِّباع سنّة نبيّنا، وصيامُنا ليوم الاثنين في سائر شُهور العام لأنّ نبيَّنا أخبرنا أنه يومٌ وُلد فيه ويومٌ بُعث فيه ويَوم أوحِيَ إليه فيه[7]، فلم نصمه إلا اتّباعَ السنة، ولو أمِرنا أن نصومَ يوم مولده أو يوم مهاجَره أو يومَ مبعثِه لكنّا نمتثِل الأمر، لكنّنا نتَّبع ولا نبتدِع، ونقف عند ما قيل لنا، فإنَّ عباداتنا اتِّباعٌ فقط، اتّباعٌ للشرع، وفي الحديث عنه قال: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))[8]، وفي لفظ: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))[9]، فطريقتُنا اتباعُ ما جاء به محمّد.

جعلنا الله وإياكم من المقتدين به، المتأسيِّن به، السائرين على نهجه إلى أن نلقى الله، وإلى أن نَرِد حوضَه في ذلك اليوم العظيم، نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه.

واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.

وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّدنا محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال - تعالى -: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيّنا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...

 

----------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بنحوه.

[2] أخرجه البخاري في الصوم (1893)، ومسلم في الصيام (1125) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بمعناه.

[3] أخرجه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بمعناه.

[4] أخرجه أحمد (1/241)، والبزار (1052ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): \"فيه كلام\"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصحّ موقوفاً عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).

[5] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162) نحوه.

[6] أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132) بنحوه.

[7] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162) عن أبي قتادة نحوه.

[8] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) عن عائشة - رضي الله عنها -.

[9] علقه البخاري في الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ، ووصله مسلم في الأقضية (1718) عن عائشة - رضي الله عنها -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply