دروس من السيرة النبوية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد: فما أعظم المنة علي هذه الأمة بل على أهل الأرض جميعاً بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ بعثه الله نبياً وهادياً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وختم برسالته الرسالات وبنبوته النبوات وأنزل عليه آخر الكتب قرآناً يتلى كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنزل عليه آخر الشرائع شريعة الإلهية كاملة جعلها الله نبراساً للناس يستضيئون بها في حياتهم ويصلحون بها شؤونهم وأحوالهم فإذا ما فعلوا ذلك استقاموا على الطريق، طريق السعادة في الدارين الدنيا والآخرة وبدون ذلك كيف كانت تصير حياة الناس وأحوالهم بدون بعثة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كنا نصير كالأنعام بل كنا نصير أضل سبيلاً: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [آل عمران: 164]، فالحمد لله على هذه المنة الكبرى والحمد لله على هذه المنة العظمى، منن الله على عباده كثيرة لكن هذه هي المنة العظمى وهذه هي المنة الكبرى التي يجب على كل مسلم أن يشكر الله - تعالى -عليها، في عنق كل مسلم حق الشكر علي هذه النعمة، في عنق كل مسلم حق للنبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إذ كان سبب هدايته وهداية المؤمنين والمسلمين جميعاً، وللمصطفى علينا حقوق كثيرة منها أن نسلم ونصلي عليه - صلى الله عليه وسلم - قال الله - تعالى -في كتابه العظيم: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب: 56]. قال أبو العإلىة - رحمه الله -: صلاة الله على نبيه ذكره له في الملأ الأعلى وثناؤه عليه عند ملائكته، وصلاة الملائكة دعاؤها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار. إذن فأخبر ربنا - عز وجل - في هذه الآية بعظم مكانة عبده ونبيه وخليله ومصطفاه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو يذكره في الملأ الأعلى عند ملائكته العظام يذكره بالثناء وتلهج الملائكة له بالاستغفار والدعاء، وقد أمرنا ربنا - عز وجل - بالصلاة والتسليم عليه، أمر أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه حتى يجتمع الثناء على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً. ودلت هذه الآية أيضاً على وجوب الصلاة عليه على كل مسلم ليس مرة واحدة في العمر فحسب كما قال بعضهم بل هي واجبة على المسلم في مواضع كثيرة ومناسبات عديدة، تجب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة في التشهد في الصلاة ومن تركها بطلت صلاته، وهذا هو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو الرواية الأخيرة عن الإمام أحمد وإلى هذا ذهب إسحاق بن راهويه - رحمهم الله - جميعاً وتجب الصلاة على النبي المصطفى أيضاً في الدعاء فعن فضالة بن عبيد[1] - رضي الله عنه - قال: ((سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته فلم يمجد الله - تعالى -ولم يصل على النبي فقال - صلى الله عليه وسلم -: عجل هذا، ثم دعا به فقال له أو لغيره: إذا صليت - أي إذا دعوت فالصلاة هنا بمعنى الدعاء-فابدأ بتمجيد الله - تعالى -وصل على النبي ثم ادع بما شئت)). وتجب الصلاة عليه أيضاً عند ذكره - صلى الله عليه وسلم - فإذا ذكر النبي المصطفى والخليل المجتبى فصل عليه وسلم إن لم تفعل فأنت في خطر عظيم لأن النبي دعا على من يفعل ذلك فقال: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ))[2]. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد بل وسماه البخيل فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ)) اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.

و تشرع الصلاة عليه أيضاً في مواضع أخر استحباباً بعدما تسمع الآذان، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله بها عليه عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وإني أرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة))[3]وفي رواية[4] أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلى عليّ ثم قال اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة حلت له شفاعتي))، سمع[5] عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة - رضي الله عنه - وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين سمع يدعو ويقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى وارفع درجته العليا وأعطه سؤله في الآخرة والأولى كما آتيت إبراهيم وموسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ومما يشرع فيه أيضاً الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلت المسجد، ادخل برجلك إلىمنى ثم قل: بسم الله والصلاة علي رسول الله، اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك، فعن فاطمة[6] بنت رسول الله - رضي الله عنها - وأرضاها وصلى وسلم على أبيها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على النبي ويسلم عند المسجد ثم يقول اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)).

تشرع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع أخرى كثيرة هي في بعضها واجبة وفي بعضها مستحبة وإن شغل المسلم لسانه بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في معظم أوقاته أو في كل أوقاته فإن له من الأجر العظيم ما بشره به النبي المصطفى بنفسه - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي بن كعب[7] - رضي الله عنه - أنه قال: ((يا رسول الله إني أكثر من الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شئت. فقال: الربع. قال: إن شئت فزدت فهو خير لك. قال: فالنصف. قال: إن شئت فزدت فهو خير لك. قال: فالثلثين. قال: إن شئت فإن زدت فهو خير لك. قال: أجعل لك صلاتي كلها. قال: إذن تكفى همك ويغفر لك ذنبك)). فإذا ما شغلت أيها المسلم وقتك كله الذي تذكر الله - عز وجل - فيه بالصلاة علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن لك هذه البشارة العظيمة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

----------------------------------------

[1] أخرجه أحمد (6/18) والترمذي (3477) والنسائي وأبو داود (1481) وسنده صحيح، والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

[2] أخرجه إسماعيل بن اسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي (18) والبخاري في الأدب المفرد (646) وابن خزيمة (1888) والحديث صحيح.

[3] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب استحباب القول (1/288-289) رقم 384.

[4] أخرجه أحمد (4/108) والطبراني في الكبير (2/26).

[5] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/211-212) رقم 3104) وإسماعيل القاضي برقم (52) وسنده صحيح.

[6] أخرجه الترمذي (314و315) وأحمد (6/282) وغيرهما وسنده ضعيف للانقطاع.

[7] أخرجه الترمذي برقم (2457) وأحمد (5/136) وغيرهما وفي سنده ضعف.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اشكروا الله- تبارك وتعالى - على هذه النعمة المهداة وهذه الرحمة المسداة فإنها هي النعمة الحقيقية التي لا يجوز أن ينشغل عنها الناس بغيرها من شؤون دنياهم، وشؤون دنياهم كما نرى ونشاهد أكثرها أوهام وأكاذيب ونفاق وترهات، فانتبهوا يا أتباع سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى حقه عليكم فبسببه اهتديتم واستقمتم على الصراط المستقيم وبسببه حلت عليكم كل هذه البركات المنزلة من رب الأرض والسماوات، من حق المصطفي - صلى الله عليه وسلم - علينا أن نصلي عليه في كل مجلس جلسنا فيه، فعلى الناس إذا جلسوا أي مجلس أن لا ينسوا فيه ذكر الله والصلاة على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله: ((من نسيى الصلاة عليّ أخطأ طريق الجنة))[1]وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم))[2]، واعلموا أيها المؤمنون أن من المواضع التي يستحب فيها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجمعة ويوم الجمعة فقد روى ذلك في الحديث الحسن عن أبي أمامة[3] وعن أبي مسعود[4] وعن أبو الدرداء[5] - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة وقال في حديث أبي الدرداء: ((أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وما من أحد يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها قال أبو الدرداء: فقلت له حتى بعد الموت. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء))، وأفضل صيغ الصلاة على النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هي الصيغة التي علمها أصحابه الكرام لما قالوا له: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد))[6]. فهذه هي أفضل صيغة يصلى بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها الصيغة النبوية وأي صيغة صلى بها المحب على الخليل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بشرط أن تخلو من البدعيات والشركيات فإنا نرجو له القبول والأجر العظيم.

وأما السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - الذي أشار إلىه الصحابة في هذا الحديث فهو قول القائل في التشهد في الصلاة كما علمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته))، فالسلام على سيدنا رسول الله ورحمة الله وبركاته وصلى الله عليه وعلى آله كما صلى على آل إبراهيم انه حميد مجيد.

أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب: 56]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))[7] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

----------------------------------------

[1] أخرجه ابن شاهين في الأفراد رقم (81).

[2] أخرجه الترمذي (3380) وأحمد (2/453و495و389و515و527)وغيره.

[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان رقم (2770) وفي السنن الكبرى (3/249) وسنده ضعيف.

[4] أخرجه ابن أبي عاصم في فضل الصلاة على النبي رقم (64) وفي سنده ضعف.

[5] أخرجه ابن ماجه (1637) وغيره.

[6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأنبياء باب يزفّون (3/1233) برقم 3370.

[7] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي في التشهد (1/306) رقم (408).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply