من مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه


  

بسم الله الرحمن الرحيم

اشتهر الصحابة - رضي الله عنهم - بالورع والزهد، ومن أخبار أبي بكر الصديق في ذلك مارواه الإمام أحمد بإسناده عن قيس بن أبي حازم قال: كان لأبي بكر غلام فكان إذا جاء بغلَّته لم يأكل من غلته حتى يسأله، فإن كان شيئًا مما يحب أكل، وإن كان شيئًا يكره لم يأكل، قال: فنسي ليلةً فأكل ولم يسأله، ثم سأله فأخبره أنه من شيء كرهه، فأدخل يده فتقيأ حتى لم يترك شيئًا (1).

وفي رواية أنه لم يستطع إخراج تلك اللقمة فقال له من حوله: إنها لا تخرج إلا بالماء، فشرب فخرجت، فقيل له: رحمك الله، كلٌّ هذا من أجل هذه اللقمة، فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله يقول: \"كل جسم نبت من حرام فالنار أولى به \".

فهذا مثال على ورع أبي بكر - رضي الله عنه - حيث كان يتحرى الحلال في مطعمه ومشربه، ويجتنب الشبهات، وهذه الخصلة تدل على بلوغه درجات عُليا في التقوى، ولا يخفى أهمية طيب المطعم والمشرب والملبس في الدين، وعلاقة ذلك بإجابة الدعاء، كما في حديث الأشعث الأغبر وفيه \"يمدٌّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِىَ بالحرام، فَأَنَّى يستجاب لذلك (2).

ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أبي مليكة قال قالت عائشة - رضي الله عنها -: لما حُضِر أبي - رحمه الله - دعاني فقال: يابُنَيَّة إني كنت أعطيتك تمر خيبر ولم تكوني أخذتيها وإني أحب أن ترديها علي، قالت: فبكيت، ثم قلت: غفر الله لك يا أَبتي والله لو كانت خيبر ذهبا جميعا لرددتها عليك، فقال: هي على كتاب الله - عز وجل -، يابُنَيَّة إني كنت أتجَر قريش(3)وأكثرهم مالا، فلما شَغَلَتنِىَ الإمارة رأيت أن أصيب من المال بقدر ما شغلني، يابُنيَّة هذه العباءة القطوانية وحِلابٌ (4)وعبدٌ، فإذا مت فأسرعي به إلى ابن الخطاب، يابُنيَّة ثيابي هذه فكفنوني بها، قالت: فبكيت وقلت: يا أبتي نحن [في غِنًى] من ذلك، فقال: غفر الله لك وهل ذلك إلا للمَهَل (5)؟ وفي رواية أنه قال: الحيٌّ أولى بالجديد من الميت.

قالت: فلما مات بعثت بذلك إلى ابن الخطاب فقال: يرحم الله أباك لقد أحب أن لا يترك لقائل مقالا (6).

فهذا مثل آخر من ورع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقد أراد أن يخرج من الدنيا وهو نَقِيُّ خالص من الكدر أو ما يشبهه، وقد كان يأخذ من بيت مال المسلمين ما يكفيه للحد الضروري من المعيشة مقابل تفرغه لأمور المسلمين وترك التجارة، فلما حضرته الوفاة رأى أن ذمته لا تبرأ إلا بردِّ ما كان عنده من ذلك وإن كان يسيرا لتوقف عمله لصالح المسلمين بالوفاة، وذلك مبالغة منه - رضي الله عنه - في براءة الذمة.

ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أخدم النبي – صلى الله عليه وسلم... وذكر حديثًا ثم قال: إن رسول الله، أعطاني بعد ذلك أرضا وأعطى أبا بكر أرضًا وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت أنا: هي في حدِّي، وقال أبو بكر، هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم فقال لي: يا ربيعة رد عليها مثلها حتى تكون قصاصا، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر، لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله (، فقلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض (7)وانطلق أبو بكر - رضي الله عنه - إلى النبي – صلى الله عليه وسلم-، وانطلقت أتلوه، فجاء ناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو قال لك ما قال، فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-فيغضب لغضبه فيغضب الله - عز وجل - لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: فانطلق أبو بكر - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتبعته وحدي حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم-فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه فقال: ياربيعة مالك وللصديق؟ ! قلت: يا رسول الله كان كذا كان كذا، قال لي كلمة كرهها فقال: قل لي كما قلت حتى يكون قصاصا فأبيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر.

قال: قال الحسن [البصري]: فولَّى أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يبكي (8).

فهذا الخبر يدل على ورع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وخشيته من الله - تعالى -، فحينما قال في ساعة غضبتك الكلمة لربيعة بن كعب - رضي الله عنه - ندم على ذلك، وخشى أن يحاسب عليها يوم القيامة، فأهمه ذلك الأمر وطلب من ربيعة أن يرد عليه بمثلها ليطهر صحيفته منها، فلما أبي اشتكاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-ليضمن النجاة من مغبة تلك الكلمة، وهذا أمر عجيب فإنَّ أبا بكر قد نسى أرضه ونسي قضية الخلاف، وشغل باله أمر تلك الكلمة لأن حقوق العباد لابد فيها من عفو صاحب الحق.

وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبو بكر يشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-وهو الذي قال ما قال، ولم يعلموا ما علمه أبو بكر من لزوم إنهاء قضايا الخصومات، وإزالة ما قد يعلق في القلوب من الموجدة في الدنيا قبل أن يكتب ذلك في الصحف ويترتب عليه الحساب يوم القيامة.

وعلى الرغم مما ظهر من رضي ربيعة وتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم-إلى عدم الرد على أبي بكر فإن أبا بكر قد بكى من خشية الله - تعالى -، وهذا دليل على قوة إيمانه ورسوخ يقينه.

وأخيرًا موقف يذكر لربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه -، حيث قام بإحلال أبي بكر - رضي الله عنه -، وأبى أن يرد عليه بالمثل، وهذا من تقدير أهل الفضل والتقدم والمعرفة بحقهم، وهو دليل على قوة الدين ورجاحة العقل.

ومن ذلك ما أخرجه محمد بن سعد من حديث عائشة وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - وغيرهم أنهم قالوا: بويع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يوم قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وكان منزله بالسٌّنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجَّر عليه حجرة من شعر فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزله بالمدينة، فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة، وربما ركب على فرس له، وعليه إزار ورداء ممشق، فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلى بالناس، وإذا لم يحضر صلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

قالوا: وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته، ثم يروح لقدر الجمعة فيجمع بالناس، وكان رجلا تاجرا، فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو نفسه فيها، وربما كُفِيها فرُعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لاتُحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم فربما قال للجارية من الحي: ياجارية أتحبين أن أرغي لك أو أصرح (9)؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالت فعل.

قالوا: فمكث كذلك بالسنح ستة أشهر، ثم نزل إلى المدينة فأقام بها، ونظر في أمره فقال: لا والله ما يُصلح أمر الناس التجارة، وما يصلح لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم، وما بُدُّ لعيالي مما يصلحهم، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، ويحج ويعتمر، وكان الذي فرضوا له كل سنة ستة آلاف درهم (10)، فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين، فإني لا أصيب من هذا المال شيئا، وإنَّ أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم، فدُفِع ذلك إلى عمر - رضي الله عنه - ولَقُوح (11)وعبد صَيقل(12)وقطيفة ما تساوي خمسة دراهم، فقال عمر: لقد أتعب من بعده (13).

ففي هذا الخبر بيان شيء من أخلاق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وزهده وورعه، فمن ذلك أنه كان يحلب لأهل حيِّه أغنامهم، وهذا تواضع كبير من رجل كبير. ..

كبير في سنه، وكبير في منزلته وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصا على أن لا تغير الخلافة شيئا من معاملته للناس وإن كان ذلك سيأخذ عليه وقتا هو بحاجة إليه، كما أن هذا العمل يدلنا على مقدار تقدير الصحابة - رضي الله عنهم - لأعمال البر والإحسان وإن كلَّفتهم الجهد والوقت.

ومن ذلك أنه اكتفى بذلك المبلغ البسيط الذي كان يأخذه من بيت المال مقابل تفرغه للولاية، وهذا مثل على زهده في الحياة الدنيا واكتفائه منها بما يبلغه للحياة الآخرة.

ومن ذلك تورعه عما بقي عنده من المال العام حينما حضرته الوفاة، وهو مبلغ زهيد لا يلفت النظر، ولكن لدقة إحساسه تنبَّه له، وكذلك ما قام به من الوصية بتعويض بيت مال المسلمين بأرضه المذكورة مقابل ما أنفق على نفسه وعياله منه، وهكذا رغب في أن يكون عمله في الولاية تطوعا تعففا منه وورعًا - رضي الله عنه -، ولقد أثنى عليه عمر - رضي الله عنه - ببيان أن العمل الذي قام به لا يستطيع أحد أن يقوم به إلا بصعوبة بالغة.

 

-------------------------------------

(1) الزهد / 110.

(2) صحيح مسلم، الزكاة، رقم 1015 (2/703).

(3) لعلها: من أتجر قريش.

(4) أي ناقة حلوب.

(5) أي لمدة قصيرة ثم يبلى.

(6) الزهد / 111.

(7) أي فارق أبو بكر الأرض.

(8) مسند أحمد 4/58 59.

(9) أي أجعل للحليب رغوة أو اجعله خالصا منها.

(10) لكن الظاهر أنه لم يقبل ذلك لأن المشهور أنه كان ينفق درهمين كل يوم.

(11) أي ناقة صغيرة.

(12) أي يصقل السيوف ويحدٌّها.

(13) طبقات ابن سعد 3/185 187.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 3 )

شكران

12:52:24 2020-09-27

شكران

شكراً و جزاك الله خيراً

20:44:55 2020-03-02

بس كتابة كثيرةوجعت ايدي

شكرا

-

خامس ولازم اسوي الواجب

16:00:30 2019-09-10

شكرا مره