النبي كأنك تراه : الإيثار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

ثم أما بعد: أيها الأحبة، حديثنا اليوم عن هدي جميل وسلوك حميد وخلق عظيم من أخلاقه، وهذا الخلق هو الإيثار.

والإيثار هو تقديم الإنسان غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا ابتغاء ثواب الآخرة، فهو أعلى درجات المعاملة مع الناس، يجلب حبّهم، ويطرد غضبهم، ويُذهِب حسدهم، فضلاً عما يجده صاحب الإيثار من الثواب الكبير والأجر العظيم والخير العَمِيم في الدنيا والآخرة، قال - تعالى -: \" وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُونَ \" [الحشر: 9].

أحبتي في الله، لقد بلغ رسول الله في الإيثار ذروته وقمّته، إذ كان أجود الناس بالخير قليله وكثيره، فقد كان كما قال الشاعر:

مُتَيَّمٌ بالنَّدَى لو قال سائلُه: *** هَب لي جميعَ كَرَى عَينَيكَ لم يَنَمِ

 

تروي لنا سيرته العطرة صورًا من إيثاره كشمس مُشرِقة في نهار السالِكين ونجم ساطع في ليل المهتدين، ومن ذلك إيثاره أصحابه على نفسه وهو جائع، الرسول كان يؤثر أصحابه الفقراء بشرب اللبن قبله، ولم يشرب إلا ما فضل بعدهم، وكان جائعًا مثلهم، روى البخاري عن أبي هريرة قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، قال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الحَق)) أي: اتبعني، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأُذِن لي، فدخل فوجد لبنًا في قَدَح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الحَق إلى أهل الصٌّفَّة فادعهم لي))، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصٌّفَّة؟! كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شَربَة أتقوّى بها، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بُدّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم))، قال: فأخذت القَدَح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يَروَى، ثم يردّ عليّ القَدَح، ثم أعطيه الآخر فيشرب حتى يَروَى، حتى انتهيت إلى النبي وقد رَوِيَ القوم كلهم، فأخذ القَدَح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسّم، فقال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((بقيت أنا وأنت))، قلت: صدقت يا رسول الله، فقال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)) فشربت، فما زال يقول: ((اشرب)) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مَسلكًا، قال: ((فأرني))، فأعطيته القَدَح، فحَمِدَ الله وسمّى، وشرب الفَضلَة. رواه البخاري.

 

وفي الحديث ـ زيادة على إيثاره أصحابَه ـ تربيةُ غيره على الإيثارº لأن أبا هريرة هو الذي تعرّض للرسول لشدة جوعه، يريد الحصول على ما يقيم صُلبَه، فجعله ينادي أهل الصٌّفَّة، وطلب منه أن يسقيهم كلهم قبله، وهذا ما كان يخافه أبو هريرة، ولأنه خاف نفاد اللبن، فكثّره الله تكريمًا لرسوله.

 

من ذلك إيثاره بثياب يحتاج إليها، وإعطاؤها لرجل من المسلمين، روى البخاري عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى النبي بِبُردَة مَنسُوجَة فيها حاشِيَتُها، فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النبي محتاجًا إليها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه فاكسنيها، فقال: ((نعم))، فلما قام النبي لامَه أصحابُه، وقالوا: ما أحسنتَ حين رأيتَ النبي أخذها محتاجًا إليها ثم سألتَهُ إياها وقد عرفتَ أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها رسول الله لعلّي أكفّن فيها. رواه البخاري.

 

ما قال: لا قَطّ إلا في تشهّده *** لولا التشهّدُ كانت لاؤُهُ نَعَمُ

 

أحبّتي في الله، الإيثار هو علامة الإيمان والمظهر الخارجي للحب الصادق تجاه الإخوان، حيث التفاني والتضحية من أجل الآخرين لوجه الله، والمؤمن الصادق هو الذي يقدّم نفسه للخَطَر ليسلَم الآخرون، ويؤخّرها عند المكاسب ليغنموا، والمؤمن الصادق هو الذي يُتعِب نفسه من أجل راحة الآخرين، ويسهر ليله حتى ينام إخوانه، وهو لا يقيم وزنًا لحطام الدنيا حتى يقاتِل عليه أو ينفرد به.

 

فالأنصار لم يحبّوا إخوانهم المهاجرين ويتطهروا من الحسد تجاههم فحسب، بل وآثروهم على أنفسهم، ووصلوا من الإيثار سَنَامَه حينما تنازلوا عن حظّهم من الغنيمة رغم حاجتهم الشديدة، قال الله - تعالى -: \" وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ \" [الحشر: 9]، فهم لم يجعلوا عَوَزَهُم وحاجتهم الشديدة تبريرًا لترك الإيثار.

 

ولا يغيب عنا أن الإيثار هو قمة الفضيلة، وأن بلوغها بحاجة إلى عملية تربوية متواصلة، وذلك بالاستعاذة بالله - سبحانه - من الحرص والبخل وشُحّ النفس، \" وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُونَ \" [الحشر: 9]. فبالقدر الذي يسعى الإنسان إلى المزيد من العلم والتقدّم ينبغي أن يسعى إلى تزكية نفسه وكمال أخلاقه، وإنما اعتبر القرآن الوقاية من شُحّ النفس هي الفلاحº لأن شُحّ النفس رأس كل خطيئة وانحراف في حياة الإنسان، فهو أساس الكفر والشرك والظلم والحسد، قال: ((اتقوا الظلمº فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشٌّحّº فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على سَفك دمائهم واستحلال محارمهم)) رواه مسلم. شُحّ النفس يؤدي إلى الأنانية وحبّ الذات، وهذا يؤدي بشكل طبيعي إلى الحسد والظلم.

ومجتمع الصحابة ضرب للبشرية أروع الأمثلة في الإيثار والبُعد عن شُحّ النفس، روى الإمام البخاري أنه لما قدم المهاجرون المدينة آخى رسول الله بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الرَّبِيع، قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلّقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلّوه على سوق بني قَينُقَاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغُدُو، ثم جاء يومًا وبه أثر صُفرَة، فقال النبي: ((مَهيَم؟!)) قال: تزوجت، قال: ((كم سُقتَ إليها؟)) قال: نَوَاة من ذهب. رواه البخاري.

إن سعدًا لم يكتف بعرض نصف ماله على أخيه عبد الرحمن بن عوف، وكان المال كافيًا للنفقة على نفسه ولأداء مهر لامرأة يتزوجها والإنفاق عليها، لم يكتف سعد بذلك، بل أراد أن يتساوى هو وأخوه في الإسلام في كل ما يملك. وإذا كان سعد الأنصاري قد وصل إلى تلك القمة من الإيثار، فإن عبد الرحمن المُهَاجِرِي قد وصل إلى قمة الزهد والقناعة والاستغناء بالله عن الناس، فآثر أن يسعى بنفسه في كسب رزقه حتى أغناه الله.

إن المجتمع الذي يوجد فيه من يُؤثِر غيره على نفسه كما يوجد فيه من يزهد فيما عند غيره ويقتنع بما يؤتيه الله ويفضّل أن يُنفِقَ على نفسه من كَسب يده، إنّ هذا المجتمع جدير بأن يعيش في أمن واستقرار، يظله الحب والتعاون والوئام.

ومن الأمثلة الرائعة للإيثار في مجتمع أصحاب رسول الله قصة الأنصاري وامرأته مع ضيف رسول الله، حيث آثراه بقوت صبيانهما الصغار، وباتوا طَاوِين من أجل إشباع الضيف، روى الإمام البخاري عن أبي هريرة: أن رجلاً أتى النبي فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله: ((من يضيف هذا؟)) فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك، فهيّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طَاوِيين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله فقال: ((ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما))، فأنزل الله: \" وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُونَ \" [الحشر: 9]. رواه البخاري مسلم. إن النفس الزكيّة هي التي تظهر شفافيتها عند مواطن الاختبار والاعتبار، فهي تجود حتى بزادها، وتؤثر على نفسها حتى بأعزّ ما تملك.

وقدمت لنا أم المؤمنين عائشة صورًا في إيثارها مشرفة كالأكاليل في رؤوس الأعمال، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عمر قال لابنه عبد الله: اذهب لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ثم سَلها أن أدفن مع صاحبي في قبر النبي وقبر سيدنا الصديق وقبر فارغ، السيدة عائشة تركته لنفسهاº لأنه قبر والدها وزوجها، هذا القبر الفارغ رغب فيه سيدنا عمر، فقال: استأذن لي أم المؤمنين عائشة، ثم سلها أن أدفن مع صاحبي، قالت: والله كنت أريده لنفسي، فلأوثرنه اليوم على نفسي.

إن حب المرأة لزوجها المحسن إليها بعد موته يتضاعف، وتتمنّى دائمًا أن تدفن بجواره، فكيف إذا كان هذا الزوج هو رسول الله؟! إن الإنسان إذا ضَنَّ بشيء مثل هذا لا يُلام عليه، ومع ذلك فإن أُمّنا عائشة - رضي الله عنها - آثرت أميرَ المؤمنين عمر، وأذنت له أن يدفن بجوار رسول الله وبجوار أبيها، وقدمت بذلك أروع أمثلة الإيثار - رضي الله عنها -.

ولها - رضي الله عنها - موقف عظيم آخر في الإيثار يرويه الإمام مالك في الموطأ أنه بلغه عن عائشة زوج النبي أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه! فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهلُ بيت شاة، فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قُرصِك. وبهذه النماذج المنيرة والمواقف العطرة امتلأت سيرة أتباع النبي.

فمن نوادر القصص في الإيثار ما أورده القرطبي قال: قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رَمَقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

ما أعظم الإيثار في هذه اللحظة! وما أجلّ هذه الشَّربة الهنيئة التي سيتجرّعها كلُ واحد منهم في الجنة بإذن الله بسبب إيثاره لإخوانه بالشراب قبله حتى وافته المنية!

اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم، ولا تحرمنا أجر الإيثار مثلهم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply