الإسراء والمعراج .. الدلائل والعبر


بسم الله الرحمن الرحيم

 

لما نالت قريش من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما نالتº خاصة بعيد وفاة زوجه خديجة - رضي الله عنها -، وعمه أبي طالب، وقد كان بين وفاتهما شهر وخمسة أيام (كما قال ابن سعد في طبقاته)º طمعت قريش أن تزيد في إيذائها للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جعلت سفهاءها يعترضون طريقه، وينثرون التراب على رأسه، عندئذ بدا لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - أن يخرج إلى الطائف (ويحلو الكثير من العلماء أن يسميها بهجرة الطائف)، يلتمس النصرة من قبيلة ثقيف حليفة قريش الشمالية، ورجاء قبولهم لما جاءهم به من عند الله - عز وجل -، وما أن انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرض دعوته ورسالته أمام زعماء ثقيف حتى ردوا عليه رداً منكراً، وابتدروه بغليظ القول وسمجه، حتى لم يعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجو منهم سوى كتمان خبر مقدمه إليهم عن قريش، فلم يستجيبوا لذلك، وعلى العكس أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدميت قدماه الشريفتان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه منها حتى شج رأسه منها عدة شجاج، وما أن ابتعد - عليه الصلاة والسلام - عن الطائف حتى آوى إلى بستان لعتبة بن ربيعة يستظل بفيئه بعد أن أنهكته الجراح والنصب، وهناك بث شكواه إلى بارئه بقوله: \"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك\"، وبعد أن أرسل إلى أحد المشركين (مطعم بن عدي) كي يدخل مكة في جواره ما كان منه - عليه الصلاة والسلام - إلا أن أوى إلى فراشه، وكله ثقة ويقين بالله - عز وجل -، واستعداده لمواجهة ما تعده له قريش من إيذاء ومكائد، في هذا الوقت الصعب، وبعد هذه التجربة القاسية المريرةº جاء الكرم الإلهي برحلة ليلية سميت فيما بعد برحلة الإسراء والمعراج، إذ يقصد بالإسراء الرحلة التي أكرمه الله بها من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، أما المعراج فهو ما أعقب ذلك من العروج له إلى السموات العلى، وذلك في ليلة واحدة، وربما اختلف في ضبط تاريخ هذه الرحلة الربانية، إلا أن الراجح أنها كانت في نهاية العهد المكي قبيل الهجرة بثمانية عشر شهراً، وقد رويت قصة الإسراء والمعراج من عدة طرق، وعن عدد كبير من الصحابة، بحيث بلغت بمجموعها التواتر المعنوي، وإن ظهر في بعض الروايات اختلافاً جعل بعض العلماء يقولون بتكرارها، إلا أن الصحيح أنها كانت مرة واحدة في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، ومن أبرز الأحداث التي جرت في هذه الرحلة المباركة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسري به إلى المسجد الأقصى، فالتقى هناك بجميع الأنبياء، ثم أتاه جبريل بإناء من خمر وآخر من لبن فاختار - عليه الصلاة والسلام - إناء اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة، ويروى فيها أنه كلما عرج به إلى إحدى السموات وجد عدداً من الأنبياء فيسلم عليهم ويرحبون به، وفيها فرضت الصلوات الخمس على المسلمين، وهي في الأصل خمسون في اليوم والليلة، فخففت إلى خمس، وبقي الأجر أجر خمسين، وعندما أبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - قريش صباح اليوم التالي بما حدث سخروا منه واستهزؤوا به، فما كان من سيدنا أبي بكر - رضي الله عنه - إلا أن صدقه، وقال: \"إن كان قال ذلك لقد صدق، إني لأصدقه على أبعد من ذلك\"، وتحدى المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يصف لهم بيت المقدس، فرفعه الله - تعالى- له حتى أخذ يصفه لهم وهو ينظر إليه.

لقد كانت بحق رحلة متميزة ومثيرة سواء للمشركين الذين لم يصدقوها، أو للمسلمين الذي ثبت الصادقون منهم على إيمانهم، وارتد بعض ضعاف الإيمان منهم عندما سمعوا بها، وقبل أن نخوض في شرح أهم الدلائل والعبر المستوحاة من هذه الرحلة المباركة نجد أن مجموعة من الأسئلة ترد في هذا الشأن، وقد وردت قبل ذلك على أذهان بعض المحققين من العلماء:

1- السؤال الأول يتلخص في (وجود) الأنبياء من بني إسرائيل في طبقات السماء السبع[1]، وورودهم في ذكر بعض الروايات الناقلة لقصة الإسراء والمعراج، وهو أمر يلفت الانتباه في ظل غياب لذكر أي نبي عربي، أو حتى غير (إسرائيلي) أي مرسل إلى بني إسرائيل (فهناك هارون وموسى، ويوسف ويعقوب، وإسحاق ويحيى، وعيسى وزكريا) وغيرهم، فيما لا نجد ذكراً لنبي الله هود، أو صالح، أو شعيب.

2- تسترعي حادثة فرض الصلوات الخمس وكيفية (احتباس) ( هكذا ورد في بعض الروايات) سيدنا موسى - عليه السلام - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل مرة، وادعاؤه بأنه (أعلم منه بأمته) فضيلة محاولة إبراز صورة سيدنا موسى - صلى الله عليه وسلم - بصورة المعلم الأقدر على فهم الطبيعة البشرية حتى ولو كانت لأقوام غير قومه، حتى جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتردد بينه وبين المولى - عز وجل - إلى أن وصلت الصلوات إلى خمس، وقبوله لهذا العدد المتوافق مع طبع قوم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الأعرف بهم منه[2].

3- التركيز على بعض الحوادث العجيبة، والتي أكثرت بعض الكتب من إيرادها، حتى جعلت من الإسراء والمعراج رحلة أسطورية الغاية منها حشد الكثير من الصور الخرافية عن أصناف من البشر، وأنواع من العذاب الرهيب، وهو ما رد معظمه العلماء، ونبهوا الناس إليه، حتى وإن ألصق زوراً وبهتاناً ببعض الصحابة (كابن عباس) علماء الحديث.

وبالنسبة للسؤالين الأولين فإننا نقول بأن أصح الروايات وأصدقها عند العلماء لم تتعرض لذكر الأنبياء[3]، ووجودهم في السموات، كما أنها لم تتعرض لموضوع مراجعة موسى النبي - عليه الصلاة والسلام - في شأن افتراض الصلاة، بل هي قد وردت من روايات أخرى أقل صحة ودقة على صعيد السند والمتن، لكن بعض العلماء يرون في هذه الروايات القليلة محاولة يهودية واضحة من خلالها من عرف في التاريخ الإسلامي بـ(الإسرائيليات) التي دس من خلال اليهود في كتب التفسير والحديث من الأخبار والروايات ما حاولوا من خلاله تشويه حقائق الإسلام وتعاليمه، أو الرفع من مكانة اليهود وديانتهم، وبيان أعلميتهم وأفضليتهم على المسلمين ((وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه)) في سياق نزاعهم مع القرآن الذي سعى إلى تأسيس مرجعية علمية خاصة بالمسلمين، ومنافسة لاستئثار اليهود والنصارى بعلم الكتاب الذي أورثهم كبراً وتعالياً على الشعوب الأخرى.

أما عن الدلائل والعبر المستفادة من هذه الحادثة الجليلة فيمكننا إجمالها بما يلي:

أولاً: رأى كثير من العلماء في الربط بين المسجد الحرام والمسجد والأقصى حكماً بليغة منها كما قال ابن حجر - رحمه الله - في كتابه فتح الباري: \"أن يجمع - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله، فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل الإلهية، أو لأنه محل المحشر، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج منه أليق بذلك، أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حساً ومعنى، أو ليجتمع بالأنبياء جملة\"، بيد أننا نرى - مع تقديرنا لما تقدم من حكم - مع سيد قطب في كتابه ( ظلال القرآن) أن هذه الرحلة هي: \"رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً، وكأنهما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعاً فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع، وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف منها للنظرة الأولى\"، وفيها دلالة على مدى ما يجب أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ومكان من الشعور بضرورة الحفاظ على هذه الأرض المقدسة، وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدين، \"وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر [ بالذات ] أن لا يهنوا ولا يجبنوا، ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة، وأن يطهروها من رجسهم، ويعيدوها إلى أصحابها المؤمنين\".

ثاني هذه العبر رمزية مقولة أن الإسلام دين الفطرة، ومركزية مفهوم الفطرة في التشريع الإسلامي من خلال اختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - اللبن على الخمر حينما قدمها له جبريل - عليه السلام -، فليس في الإسلام شيء مما يتعارض مع الطبيعة الأصلية للإنسان، وهو الأمر الذي يجب أن يحظى بعناية علماء المسلمين بحثاً ودراسة واستقصاء.

وأخيراً أهمية الصبر على الابتلاء والمحن في سبيل نشر الدعوة وتطبيقها، وتحرير المقدسات وتطهيرها من دنس الأعداء المحتلين ((يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا))، فالصبر هو العلاج القرآني لأي محنة أو شدة تنزل بالإنسان ((واستعينوا بالصبر والصلاة))، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم صحابته وأمته فن الصبر على جميع الشدائد والمكاره في سبيل الله - عز وجل -، ولجوؤه إلى الله بالدعاء بعدما أصابه من قوم ثقيف لا يتجاوز حدود الدائرة البشرية المجبولة على الشعور بالألم والنعيم، وعلى النفور من الأول والركون إلى الثاني، والقارئ لدعائه في ذلك يلمس هذه المعاني بجلاء.

لقد كانت حادثة الإسراء والمعراج حادثة عجيبة بكل المقاييس، واستلهم المسلمون منها عبر تاريخهم من العبر والمواعظ ما أسهم في تعزيز اليقين والثقة بنصر الله وتأييده لعبادة المؤمنين، وما علينا في العصر الراهن سوى استلهام هذه الحادثة ودلائلها ونحن نواجه عدونا الغاصب لأرضنا، سيما وأن رمزية هذه الحادثة في دلالتها على مكانة المجسد الأقصى والأرض المباركة (فلسطين) واضحة وجلية ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا لنا حوله لنريه من آياتنا)).

http://www.islamselect.com:المصدر


 


[1] هذا القول مردود لأن رواية البخاري - رحمه الله - تبين أن الذي كان في السماء الأولى هو آدم - عليه السلام -، والذي كان في السماء الرابعة هو نبي الله إدريس - عليه السلام - وفيه خلاف كبير بين العلماء هل هو جد نوح - عليه السلام - أم هو من أنبياء بني إسرائيل، والذي كان في السماء السابعة هو أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -، ومعلوم أن آدم وإبراهيم لم يكونوا يهوداً ولا أنبياء لبني إسرائيل.(موقع المختار الإسلامي).

[2] وهذا القول أيضاً مردود لأن الرواية المتفق عليها في البخاري ومسلم تؤكد أن مراجعة موسى - عليه السلام - للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قد حصلت، وقد ذكر ذلك أيضاً الإمام أحمد - رحمه الله - في مسنده، ومما ينبغي على المسلم أن يؤمن بذلك لأن هذا جزء من الإيمان بالغيب، ولا يقدم ما أشكل على عقله في القبول على ما تم نقله نقلاً صحيحاً، حيث أن مراجعة نبي الله موسى - عليه السلام - لا تعني أنه أفضل من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن بسبب أن نبي الله موسى - عليه السلام - قد عاش أكثر من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورأى اختلاف طباع المكلفين فإن خبرته وعلمه بلا شك كانت أكبر إلى ذلك الحين، وكانت المسألة مسألة قياس ما عايشه في بني إسرائيل على ما سيعايشه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعني ذلك انتقاصاً من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.( المختار الإسلامي).

[3] بل الصحيح أن أسماء الأنبياء قد وردت في روايات صحيحة، فقد ورد ذلك في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، وكلها روايات صحيحة (المختار الإسلامي).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply