قصة الثلاثة الذين خلفوا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وردت قصة الثلاثة الذين خلفوا على لسان كعب بن مالك - رضي الله عنه- في كتب السيرة والحديث والتفسير بروايات متقاربة في ألفاظها، ولقيت عناية فائقة في الشرح والتدريس، وكان صحيح البخاري من أكثر الكتب دقة وتفصيلا لهذه القصة(1).

 

ونترك كعب بن مالك - رضي الله عنه- يحدثنا بنفسه حيث قال: لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة(2) حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط- أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط- حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، وعدوًّا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريدون الديوان، قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي الله.

 

وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حيث طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو(3) وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟ » فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، ونظره في عطفيه(4) فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا(5) يزول به السراب(6) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كن أبا خيثمة» فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه(7) المنافقون، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافلاً(8) من تبوك حضرني بثي(9)، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادمًا(10) زاح(11) عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه(12) وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت، فلما سلمت، تبسم تبسم المغضب، ثم قال: «تعال»، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ » قال: قلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً(13) ولكني والله- لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن(14) الله أن يُسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه(15) إني لأرجو فيه عقبى الله(16)، لا والله- ما كان لي عذر، والله ما كنت -قط- أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك»، فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر به إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك، استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك، قال: فوالله مازالوا يؤنبونني(17) حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذِّب نفسي.

 

قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة. فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه. فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا(18) وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم(19) فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى طال ذلك عليَّ من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، -وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي- فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك بالله(20) هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام(21) ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاءني فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة(22) فالحق بنا نو فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت(23) بها التنور، فسجرتها(24) به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين واستلبث الوحي(25) إذا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها، قال: فأرسل إلى صاحبي بمثل هذا.

 

قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله، فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك، فقالت: إنه -والله- ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال ابن أمية أن تخدمه، قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدريني ماذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، قال فلبثت بذلك عشر ليالٍ,، فكمل لنا خمسون ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله - عز وجل - منا، قد ضاقت علىَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع(26) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج، قال: فآذن(27) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إليَّ فرسًا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم(28) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتلقاني الناس فوجا فوجا(29) يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنأك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد، حوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: «لا، بل من عند الله» وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر قال: وكنا نعرف ذلك قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع(30) من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال: وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه(31) الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، قال: فأنزل الله - عز وجل -: (لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسرَةِ مِن بَعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ, مِّنهُم ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم إِنَّهُ بِهِم رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ` وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت وَضَاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنٌّوا أَن لاَّ مَلجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 117-118] حتى بلغ: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].

 

قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة -قط- بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا الله حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله: (سَيَحلِفُونَ بِاللهِ لَكُم إذا انقَلَبتُم إِلَيهِم لِتُعرِضُوا عَنهُم فَأَعرِضُوا عَنهُم إِنَّهُم رِجسٌ وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ ` يَحلِفُونَ لَكُم لِتَرضَوا عَنهُم فَإِن تَرضَوا عَنهُم فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرضَى عَنِ القَومِ الفَاسِقِينَ) [التوبة: 95-96].

 

قال كعب: وكنا تخلفنا -أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله - عز وجل -: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت وَضَاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنٌّوا أَن لاَّ مَلجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 118] وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا(32)، عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه(33). وفي هذه القصة دروس وعبر وفوائد كثيرة نذكر منها:

 

1- الأسلوب الجميل والبيان الرائع والأدب الرفيع:

لقد تمت صياغة هذا الحديث بأسلوب جميل، وبيان رائع، وأدب رفيع، وإنه ليعتبر

-مع أمثاله كحديث صلح الحديبية وحديث الإفك- نماذج عالية للأدب العربي الرفيع، وليت القائمين على وضع المناهج الدراسية يختارون هذه الأحاديث وأمثالها لتنمية مدارك الطلاب، وتكوين الملكة الأدبية والثروة اللغوية العالية، انظر مثلا إلى قول كعب في هذا الحديث: فلما قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذبº فأجمعت صدقه(34).

 

2- الصدق سفينة النجاة:

لقد أدرك كعب، وهلال، ومرارة -رضي الله عنهم- خطورة الكذب فعزموا على سلوك طريق الصراحة والصدق وإن عرضهم ذلك للتعب والمضايقات، ولكن كان أملهم بالله -تعالى- كبيرًا في أن يقبل توبتهم ثم يعودون إلى الصف الإسلامي أقوى مما كانوا عليه(35)، وما أجمل ختم رب العالمين توبته على كعب ومن معه بقوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].

 

3- الهجر التربوي وأثره في المجتمع:

إن الهجر التربوي له منافعه العظيمة في تربية المجتمع المسلم على الاستقامة ومنع أفراده من التورط في المخالفات التي تكون إما بترك شيء من الواجبات أو فعل شيء من المحرماتº لأن من توقع أنه إذا وقع في شيء من ذلك سيكون مهجورا من جميع أفراد المجتمع، فإنه لن يفكر في الإقدام على ذلك.

ولا يغيب عن البال أن تطبيق هذا الحكم يجب أن يتم في الظروف المشابهة لحياة المسلمين في العهد النبوي المدني، حيث توجد الدولة المهيمنة والمجتمع القوي، مع أمن الوقوع في الفتنة لمن طبق عليه هذا الحكم.

وهذا الهجر التربوي يختلف عن الهجر الذي يكون بين المسلمين على أمور الدنيا، فهذا دنيوي وذاك ديني، فالهجر الديني مطلب شرعي يثاب عليه فاعله، أما الهجر الدنيوي فإنه مكروه إلا إذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرما(36) لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ,، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (37) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه»(38).

 

4- تنفيذ أوامر القيادة في المجتمع المسلم:

استجاب المجتمع المسلم كله لتنفيذ أمر المقاطعة والهجر الذي صدر من القائد الأعلى - صلى الله عليه وسلم - وامتنعوا جميعا عن الحديث مع هؤلاء الثلاثة، ووصف كعب لنا ذلك فقال:...فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد(39)... وقد أطلق كعب السلام على ابن عمه أبي قتادة فلم يرد - عليه السلام -، وناشده بالله مرارًا: هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، مع أنه من أحب الناس إليه، لقد كان أبو قتادة في هذا الموقف موزع الفكر بين إجابة رجل حبيب إليه عزيز عليه، وبين تنفيذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطبيق الهجر التربوي، ولكن ليس هناك تردد بين الأمرين، فالذي أوحى به إيمان أبي قتادة هو تنفيذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فظهر ذلك على سلوكه(40).

 

وقد بلغ الالتزام بالأمر النبوي في الهجر التربوي ذروته حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا باعتزال زوجاتهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فالتزم الجميع بذلك، واستأذنت زوجة هلال بن أمية -وكان شيخا طاعنا في السن لا يجد من يخدمه- فطلبت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لها أن تخدمه فأذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك شريطة ألا يقربهاº فالتزمت رضي الله عنها(41).

 

5- الولاء التام لله ورسوله:

كان العدو الصليبي يراقب ويرصد ويستغل الفرصة السانحة لكي يمزق الجبهة الداخلية ويشعل نار الفتنة بين المسلمين ليوهن البنيان ويقوض الأركان، ولذلك استغل ملك غسان فرصة هجران المسلمين لكعب بن مالك - رضي الله عنه- وعقوبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، بأن يرسل سفيره لكعب برسالة خاصة منه إليه يغريه فيها، تأمل قوله: قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك(42). فكان تعليق كعب على هذه الرسالة: وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجال من أهل الشرك، ثم أحرق الرسالة(43) وهذا الموقف يدل على شدة ولاء كعب لله ورسوله وقوة إيمانه وعظمة نفسه، فقد أدرك أنها محنة جديدة أقسى من الأولى، فلا يرضيه أن يجيب ملك غسان بالسلب، أو يرمي بالكتاب ويمزقه، ولكنه رمى به في التنور ليصير رمادا، ويصير كل ما به دخانا يتبدد في الهواء، وخرج الرجل من محنته وهو أقوى ما يكون إيمانا، وأصفى ما يكون روحا، وأكرم ما يكون أخلاقا، فيالعظمة هذه النفوس المؤمنة الكبيرة(44)! لقد مر كعب من فوق هذا الاختبار والابتلاء عزيزًا قويًا بإسلامه، لم يتأثر به ولا انزلق فيه(45).

 

6- توبة الله على العبد قيمة دينية يتطلع إليها الصادقون:

عندما نزلت الآيات الكريمة التي بينت توبة الله على هؤلاء الثلاثة كان ذلك اليوم من الأيام العظيمة عند المسلمين، ظهرت فيه الفرحة على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استنار كأنه قطعة قمر، وظهرت الفرحة على وجوه الصحابة -رضي الله عنهم- حتى صاروا يتلقون كعبًا وصاحبيه أفواجًا يهنئونهم بما تفضل الله به عليهم من التوبة، وجاء كعب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجهه يبرق من السرور فقال له: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، وهذا يعني مقام التوبة وأنها أعظم من الدخول في الإسلام.

إن التوبة تعني عودة العبد إلى الدخول تحت رضوان الله - تعالى -الذي هو أعلى هدف ينشده المسلم، وبالتالي فإنه يحظى بحفظه - جل وعلا - في الدنيا وتكريمه في الآخرة، لقد كانت توبة كعب عظيمة عبر عنها بنزع ثوبيه -اللذين لا يملك يومئذ غيرهما- وإهدائهما لمن بشره(46) وعدم نسيان كعب لطلحة بن عبيد الله مصافحته وتهنئته له(47) وكذلك كانت فرحة صاحبيه عظيمة غير أن كعبا لم يذكر في هذا الخبر إلا ما جرى له(48) وقد جاء في رواية الواقدي: وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد قال: وخرجت إلى بني واقف فبشرته فسجد، قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه(49).

 

7- تشرع أنواع من العبادات شكرًا لله عند النعمة:

كانت فرحة كعب بن مالك بتوبة الله - سبحانه وتعالى -- عليه لا تحدها حدود، ولا يتصورها مثل، وقد تفنن هو - رضي الله عنه- في التعبير عنها بجملة من العبادات منها:

أ- سجود الشكر: حينما سمع كعب البشارة بتوبة الله عليه خر ساجدًا من فوره شكرًا لله -تبارك وتعالى- فقد كان من عادة الصحابة -رضي الله عنهم- أن يسجدوا شكرًا لله -تعالى- كلما تجددت لهم نعمة أو انصرفت عنهم نقمة، وقد تعلموا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(50)

 

ب- مكافأة الذي يحمل البشرى: فقد نزع كعب ثوبيه اللذين كان يلبسهما، فكساهما الذي سمع صوته بالبشرى، وما كان يملك وقتئذ غيرهما، ثم استعار ثوبين فلبسهما، ولا شك أن هذا ضرب من الهبة المشروعة، فإن كان المبشر غنيا كان له هدية، وإن كان فقيرا كان له صدقة، وكلاهما إخراج المال شكرا لله تعالى- على إنزاله الفرج(51).

 

ج- التصدق بالمال: فقد جعل كعب من توبته أن ينخلع من ماله صدقة لله - تعالى -، لكنه - عليه الصلاة والسلام - لم يتقبل منه التصدق بجميع ماله، وقال له: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك»، وكأنه يستشيره بذلك، فكانت المشورة بإمساك بعض ماله(52) وقد ثار الخلاف الفقهي فيمن نذر التصدق بجميع ماله، والصدقة مستحبة، والنذر واجب الوفاء، ولم يذهب كعب إلى النذر، وإنما استشار في الصدقة بكل المال، فأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه بإمساك بعض ماله.

 

مقتبس من كتابه غزوة تبوك دروس وعبر، قال فيه المؤلف:
يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي، يتحسر يوم يجد البون شاسعًا والفرق عظيمًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة، وقد أصبحت تابعةً حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها، فعودا والعود أحمد، عودًا سريعًا إلى الماضي المجيد، لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عودًا لسيرة من لم يطرق العالم دعوة كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يومًا من أيام محمد، لنأخذ العبر والدروس.
ومن هذا الباب لا زلنا وإياكم في هذه السلسلة المباركة (غزوات النبي المصطفى دروس وعبر).
ومع الوقفة الثامنة (غزوة تبوك دروس وعبر) وأسال الله الكريم الوهاب العزيز التواب أن ينفع بهذا العمل وأن يجعله لوجهه خالصًا ولعباده نافعًا.

 

 

----------------------------------------

(1) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص187.

(2) ليلة العقبة: الليلة التي بايع رسول الله r الأنصار على الإسلام.

(3) تفارط الغزو: تقدم الغزاة وسبقوا وفاتوا.

(4) والنظر في عطفيه: أي جانبيه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه.

(5) مبيضا: لابس البياض.

(6) يزول به السراب: يتحرك وينهض، والسراب ما يظهر للإنسان.

(7) لمزه المنافقون: عابوه واحتقروه.    

(8) توجه قافلا: راجعًا.

(9) حضرني بثي: حزني.    

(10) أظل قادمًا: أقبل ودنا قدومه كأنه أبقى على ظله.

(11) زاح: أزال.     

(12) أجمعت صدقه: عزمت على صدقه.

(13) أعطيت جدلا: فصاحة وقوة في الكلام وبراعة.

(14) ليوشكن: ليسرعن.

(15) تجد عليَّ فيه: تغضب.

(16) إني لأرجو عقبى الله: يعقبني خيرا ويثيبني عليه.

(17) يؤنبونني: يلومونني أشد اللوم.

(18) استكانا: خضعا.      

(19) أشب القوم وأجلدهم: أي أصغرهم سنا وأقواهم.

(20) أنشدك بالله: أسألك بالله.     

(21) نبط أهل الشام: فلاحو العجم.

(22) مضيعة: يعني أنك لست بأرض يضيع فيها حقك.

(23) تيممت: قصدت.

(24) فسجرتها: أحرقتها.    

(25) استلبث الوحي: أبطأ

(26) أوفى على سلع: صعده وارتفع عليه، وسلع: جبل بالمدينة معروف.

(27) فآذن الناس: أي أعلمهم.     

(28) أتأمم: أي قصد

(29) فوجا فوجا: الفوج الجماعة.   

(30) أنخلع من مالي: أتصدق به.

(31) أبلاه الله: أنعم عليه.

(32) إرجاؤه أمرنا: تأخيره أمرنا.

(33) البخاري، كتاب المغازي رقم 4418، صحيح السيرة النبوية، ص614.

(34) انظر: التاريخ الإسلامي (8/137).

(35) انظر: التاريخ الإسلامي (8/138).

(36) المصدر نفسه (8/139).     

(37) مسلم، كتاب البر، رقم 2560، ص1984.

(38) مسند أحمد (4/220).    

(39) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص195.

(40) انظر: التاريخ الإسلامي (8/140).  

(41) انظر: الصراع مع الصليبين، ص196.

(42) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4418.  

(43) المغازي (3/1051، 1052).

(44) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/517). 

(45) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص307.

(46) انظر: التاريخ الإسلامي (8/141).

(47) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/581). 

(48) انظر: التاريخ الإسلامي (8/142).

(49) المغازي للواقدي (3/1054).   

(50) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي، ص493.

(51) نفس المصدر، ص493، الصراع مع الصليبيين، ص202.

(52) انظر:صور وعبر من الجهاد النبوي، ص493

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

شكر وتقدير

-

عبدالودود

08:18:04 2022-11-02

بارك الله فيكم ورزقكم الفردوس الأعلى